طبيعة التاريخ هي الحراك الدائم، والتغيّر المستمر، والتقلّب بين الأحوال، والمجتمعات والجماعات والأفراد هم التمثّل لهذا الحراك، فتتغير مواقفهم وآراؤهم وخطاباتهم بحسب العديد من المتغيرات والكثير من المؤثرات، وفي هذا السياق يمكن مبدئياً قراءة ظاهرة المراجعات لدى الحركات الإسلامية أو عند بعض الرموز الفكرية أو لدى بعض الأفراد أيضاً.
شعار اليونسكو منذ ميلادها في 15 نوفمبر عام 1945 هو أن الحرب تبدأ في العقول كما يبدأ فيها السلام، وهو ما يعني أن خطاب العنف أكثر خطورة من ممارسته، مما يجعل المراجعة الفكرية للفكر العنفي أو الإقصائي أهم وأكثر جوهرية من التراجع العملي في الفضاء العام نتيجة عدم توازن القوى لصالحها، وبينما تظل التراجعات العملية لحظات أو هدنة مؤقتة، تعني المراجعات الفكرية تحولا عمليا مضادا في اتجاه مختلف، ووقفا لفعل العنف واعتذار مبطن أو معلن عن مبرراته ذاته، هي تأسيس مضاد وكفران بإيمان قديم نحو إيمان جديد بدرجة كبيرة.
كما أن المراجعات الفكرية أكثر جسارة وشجاعة دائما من التراجعات العملية، وأبقى في مضمار الوعي وصراع الأفكار واتجاه الحركات، فبعد مسلسل طويل من العنف الدامي استمر قرابة العقد والنصف أعلنت كبرى الجماعات العنفية الإسلامية في مصر، وهي الجماعة الإسلامية المصرية، مبادرتها لوقف العنف سنة 1995 ومراجعاتها للفكر المؤسس له بدءا من عام 1997 والمستمرة حتى الآن، وفي نهايات 2007 أعلن منظر السلفية الجهادية، وأمير الجهاد المصري السابق الدكتور فضل وثيقته «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم»، ثم أتى عام 2009 حاملا مراجعات الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة التي جاءت دراسات تصحيحية في فكر الجهاد.
موجات من المراجعات عن الفكر الجهادي العنفي تتوالى ولكن من المهم ملاحظة أنها ليست المراجعات الوحيدة، فهناك مراجعات تتم في فضاء مختلف الحركات الإسلامية ككل، وفضاء الفكر الإسلامي والفكر العربي بعامة، هنا مراجعات تمت داخل حركات الإسلام السياسي باتجاه الديمقراطية والمسألة السياسية والمواطنية، كما أن هناك مراجعات تمت عبر تيارات جديدة خرجت من رحم تيارات أكبر، شأن حزب الوسط، الذي يمثل بعض ممثلي الجيل السبعيني، الذي خرج من رحم الإخوان المسلمين عبر عملية نقدية متراكمة تمت داخل جسد الجماعة ثم خرجت بالقطيعة معه، وكذلك مجموعة تيار بديل التي تمثل الجيل التسعيني والتي تتبلور الآن في طرحها بعيدا عن تأسيسات الجماعة القديمة.
كما أن هناك مراجعات أتت من أفراد يعدون في مركز الحركة الإسلامية، وإن ابتعدت عن تنظيماتها، لم يوافقوا على مراجعات السابقين وأصدروا مراجعات مختلفة بشكل نسبي، شأن مراجعات عبود الزمر، التي يعرض لها هذا الكتاب.
ولكن فضاء المراجعات يتسع في ما يخص المرجعية الإسلامية، هناك مراجعات المتحولين إليها من التيارات الأخرى، شأن عبد الوهاب المسيري ومنير شفيق وطارق البشري وغيرهم، كما أن هناك مراجعات جزئية تمت حول الموقف من التراث شأن مراجعات الدكتور زكي نجيب محمود الذي روج بعض المفكرين الإسلاميين تراجعه عن علمانيته نحو الفكر الأصولي، وغيرها من المراجعات التي يعرض لها هذا الكتاب الذي أراد أن يكون متسعا اتساع المراجعات الكلية والجزئية على السواء.
لكل سبق وغيره أردنا أن يكون هذا الكتاب -السادس والثلاثون-، وكذلك الكتاب الذي يليه، مختلفا عن كتابات كثيرة حول هذه المسالة حصرت رؤية المراجعات وتحليلاتها في مراجعات الجماعات الجهادية فقط، دون غيرها، فقد انطلق كتاب المسبار الشهري هذا من فرضية أن الإسلامية العربية -بمختلف اتجاهاتها- دخلت طور المراجعة، وهو طور يكاد يلف الفكر والمشهد العربي المتوتر والمضطرب بشكل كلي.
في البداية تأتي دراسة أبو العلا ماضي بعنوان «تجربة الوسط.. حالة مراجعة فكرية»، وهي تركز على تجربة حزب الوسط المصري دون سواه، والذي حاول مؤسسوه للمرة الرابعة الحصول على رخصة من لجنة الأحزاب المصرية، ويشير ماضي في دراسته إلى التضييق الذي لقاه جيله من الشباب المنضم إلى الإخوان منذ منتصف الثمانينيات من قبل المحافظين والصقور داخل التنظيم، وهو ما يبدو رافدا مبكرا للمراجعة والمغادرة لهذا التنظيم، وهو ما ينضم لروافد وأسباب وسياقات عديدة ومختلفة مثلت معا دوافع للمراجعة والمفاصلة مع الإخوان في ما بعد، قادها بعض رموز الجيل السبعيني في الحركة الإسلامية وفي مقدمتهم كاتب هذه الدراسة.
ويقرأ الدكتور عمرو الشوبكي في دراسته المعنونة «مراجعات الجماعة الإسلامية والجهاد.. نهاية عصر التنظيمات الكبرى» نقطة مهمة وهي الترهل التنظيمي الذي أصاب الجماعات بفعل عملية المراجعات ونتائجها، وكونها دلالة على فشل المشروع الجهادي ككل، ويؤكد فيها الشوبكي على أن فلسفة المراجعات تعود أساسا إلى فشل المشروع الجهادي في إسقاط النظام القائم، عن طريق العنف والثورة الإسلامية، وأدى انكسار التنيظيمين وربما إنهائهما، إلى جعل المراجعة أمرا حتميا كنتيجة الفشل، وليس أساسا الضغوط الأمنية، ويرى الكاتب أن التنظيمات الجهادية تعاني من أزمات عميقة قبل اعتداءات 11 سبتمبر، وهي الأزمة التي تعمقت دون أدنى شك في أعقابها، وهي أزمة في البنى العقيدية وفي فهم النص الإسلامي، وهو ما امتد مع موجات المراجعات ليوحي بنهاية التظيمات الكبرى في تاريخ الحركات الإسلامية.
وتقرأ هيئة التحرير مراجعات الشيخ سلمان العودة تحت عنوان «مراجعات سلمان العودة: ترك الإسلاميين والانحياز للإسلام» والتي يمثل صاحبها واحدا من أبرز الرموز الإسلامية ليس فقط في المملكة العربية السعودية، بل يمكن القول في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، عبر عدد من المنابر المهمة التي مارس نشاطه من خلالها، بدءا من الكاسيت وآخرها الإنترنت والفضائيات، وفي الأشهر القليلة الماضية اتخذ العودة بجلاء عدة مواقف توضح بجلاء انحيازه التام الجديد للإسلام كدين لا للحركات الإسلامية، وللمسلمين لا للإسلاميين، وهو ما تجلى في عدد من المراجعات التي سطرها في مجموعة من المقالات التي صدرت عام 2009 والتي تعرض لها هذه الدراسة موضحة أهم مقولاتها وأهم مراحل الشيخ، والجدل الذي أحدثته حولها.
ويضم الكتاب دراسة للدكتور هاشم صالح «المراجعات والجدوى: الحاجة الدائمة لأفق فلسفي»، يطرح فيها عددا من الأسئلة حول جدوى مراجعات الإسلاميين التي تلقى الاهتمام والترحيب من عدد من المراقبين، والتي يرى الكاتب ومدرسته التي ينتمي إليها «اتجاه نقد العقل الإسلامي» أنها ليست كافية لكونها تنطلق من العقل الفقهي الإسلامي وثوابته دون حفر معرفي أو رؤية تحريرية لهذا التراث وقدرة على التأسيس العصري المختلف، هذه القراءة الضرورة لا زالت ترى في كثير من تجليات الفكر الإسلامي المعاصر غير كافية وغير ذات جدوى لغياب اعتنائها بالبعد وضعف عمقها النظري وانخفاض سقفها المعرفي لحد كبير.
وتأتي دراسة فتحي عطوه «من التأسيس إلى المراجعات: حالة الإخوان المسلمين» والتي يسعى فيها الكاتب لاكتشاف مراجعات الإخوان منذ مرحلة التأسيس حتى الآن، عبر المقارنة بين الأدبيات التأسيسية والوثائق والخطابات الجديدة، في ما يخص مسائل الحكم والسياسة بشكل أساسي، حيث إن فكر الإخوان إطار واسع يضم العقدي والفقهي كما يضم السياسي.
ويقرأ الدكتور محمد أبو رمان المسار الفكري للدكتور منير شفيق بعنوان «مراجعات منير شفيق: من الماركسية إلى الإسلام السياسي» فقد تحول من المسيحية إلى الإسلام ومن الماركسية إلى الإسلام السياسي، ومن الدائرة الضيقة لقيادات حركة فتح إلى أحد أبرز مفكري الإسلام السياسي في العالم العربي ككل، وبخاصة موقفه من المسألة السياسية والإصلاح السياسي والفكري في المنطقة.
ويتناول فرج نعيم في دراسته «هل تحول زكي نجيب محمود إسلامويا؟.. رد الدعوى» محاولا تحقيق دعوى البعض عن تحول الدكتور زكي نجيب محمود لاتجاه الإسلام السياسي، وهو أحد رواد العقلانية العرب المرموقين حتى وفاته أوائل التسعينيات، وينتهي الكاتب إلى رد هذه الدعوى حيث لم تكن تحولات ومراجعات زكي نجيب محمود أكثر من تحول جزئي في اتجاه موقفه من التراث، من أجل اكتشاف حوامل للعقلانية من هذا التراث ليس أكثر، ولكن الرجل ظل بمنأى عن الإسلام السياسي طوال مراحله المختلفة، بل مختلفا معه اختلافا كليا.
أما الباحث ممدوح الشيخ في دراسته «مراجعات الإسلاميين المستقلين.. المسيري نموذجاً» فيتناول مسار المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري وتطوراته وطرحه حول الخطاب الإسلامي الجديد، أو الإنسانية الإسلامية، كما كان يسميها، وأهم دوافعه للتحول وأبرز أفكاره في هذا الاتجاه.
وتقرأ هيئة التحرير في دراسة بعنوان «المراجعات والخطاب الإسلامي الجديد» هذا التعبير الذي يخرج عنه حزمة من المعاني المتقاربة -وقد تكون متداخلة- لكنه لا يعبر عن «مفهوم» واحد، وفي الحقيقة لما تستقر بعد العلاقة بين الدال والمدلول، ومن هنا فإنه مصطلح فضفاض إلى حد ما من زاويتي: الاصطلاح والمضمون. وهو ما يفرض التوقف أولا أمام حدود -ولو تقريبية- للمضمون حتى يكون صالحا من الناحية العلمية للتعريف وإطلاق الأحكام.
ويقدم علي الشريف دراسته حول مراجعات عبود الزمر التي أصدرها تحت عنوان «البديل الثالث» وجاءت دراسته بعنوان «حول مراجعات عبود الزمر» وفي هذه الدراسة يرى الشريف أن عبود الزمر ربما يعود للعمل السياسي والجهادي ولكن بنفس فكر الحاكمية والجهاد، الذي لم يعتذر عنه، مع رفضه لكثير من مراجعات الإسلاميين الآخرين، الجماعة الإسلامية والجهاد، وعدم ثنائه على غير جماعة الإخوان المسلمين!
ويضم الكتاب قراءة في كتاب «إسلام بلا خوف» الذي يعرض فيه كاتبه لستة نماذج من الفكر الإسلامي المعتدل، تقدم إسلاماً لا عنفياً، وإسلاماً بلا خوف.
ويقدم الباحث منصور النقيدان دراسته المستقلة عن ملف الكتاب بعنوان «الحسبة تاريخياً»، ويقدم نموذجا تطبيقيا من المملكة العربية السعودية. فقد كانت مهام الحسبة في عهد مبكر من الحضارة الإسلامية تعني ماهو أوسع من إنكار المنكر، إذ كانت ضمن وظائف القاضي، يعين لها من يختاره ممن توافرت فيه الشروط التي تؤهله لتولي هذه الوظيفة التي تندرج ضمن وظائف الخلافة «الدينية»، التي يفوض فيها خليفة المسلمين القاضي للنظر في شأنها، ومنذ القرن الثالث عشر ستكون الحسبة وظيفة مستقلة، يتولاها «المحتسب»، وتشمل النظر في إصلاح الطرق ومراقبة الغش التجاري، والرفق بالبهائم ومراقبة معلمي الصبيان، إلى وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
كما يحتوي الكتاب على قائمة ببليوغرافية بأهم المطبوعات العربية والأجنبية في موضوع المراجعات، وكذلك الباب الثابت حول ذاكرة الكتاب.
ونحن وإذ نضع بين يدي القارئ الكريم هذا الكتاب السادس والثلاثين من كتاب المسبار الشهري: المراجعات (الجزء الأول)، نود التنويه إلى أننا نختتم به عامنا الثالث، لنفتتح العام الرابع من عمر مركز المسبار للدراسات والبحوث، بكتاب المراجعات في جزئه الثاني، متطلعين إلى مزيد من التطوير، طامحين إلى مواصلة السعي للبحث في كل ما يستجد على الساحة الإسلامية الساخنة دائما، وفي كل ما يحيط بها من تفاعلات تؤثر فيها وتتأثر بها.