سلفية المدينة، الجامية، المدخلية، هذه الأسماء وغيرها تشير لاتجاه سلفي واحد، قد لا يعرفه الكثيرون من المهتمين بشأن الظاهرة الدينية والحركية الإسلامية خارج المملكة العربية السعودية، كما لم يخضع لدراسات معمقة حوله على الرغم من أهميته على المستويين الفكري والعملي في فضاء الظاهرة الدينية في العالمين العربي والإسلام
عملياً نجح الاتجاه الجامي في اقتسام المشهد الديني في المملكة العربية السعودية في النصف الأول من التسعينيات من القرن الماضي، كما كان له ولا يزال كبير حضور في اليمن وأفغانستان والجزائر ومصر التي يلاحظ صعود كبير لهذا التيار داخلها في السنوات الأخيرة، وكذلك في أوساط بعض الجاليات المسلمة في الغرب.
وفكرياً مثلت الجامية النقد السلفي والإسلامي الأكبر حجماً والأكثر انتشاراً لسائر الحركات الإسلامية، وخاصة جماعات التبليغ والدعوة والإخوان المسلمين والتيار السروري أو الصحوي في منطقة الخليج وسائر بلدان العالم الإسلامي. وبعد معرفة عميقة بالجامية يوفرها كتاب المسبار الثامن والثلاثون الذي بين أيدينا، قد لا يستغرب القارئ مساواة الجامية هذه الجماعات المختلفة بالفرق الإسلامية الكلامية والعقدية القديمة، كما أن الجامية تماهي بين تيارها وبين دعوة الحق، أو أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث كما يتسمى ممثلوها ومنظروها الذين لا يرتضون أيّاً من التسميات التي تطلق عليهم، وتعتبر الجامية الخلافات بينها وبين الجماعات والحركات الإسلامية الأخرى خلافات تضاد في الأصول وليست اختلاف تنوع أو اختلافا في الفروع.
يتسم التيار الجامي بمركزية “الجرح والتعديل” في أدبياته، فالجامية تصر على اتهام الجماعات الأخرى وكشفها أو جرحها، دون إعذار لها أو صمت عنها، ومن هنا كتب منظروها كربيع المدخلي ومقبل بن هادي بن الوادعي ومحمود الحداد وغيرهم، العشرات من المؤلفات في اتهام الجماعات الأخرى، وتعرية رموزها ورفض كتاباتها، وأطروحاتها حول التنظيم الحزبي أو إقامة دولة الإسلام، وكذلك فضح ما تراه من شبه عقدية أو قبورية في فكر تلك الجماعات، مع تأكيدها أن هذه الجماعات ما هي إلا دعوات الباطل في مقابل دعوة الحق، التي تتماهى معها الجامية وتحدد شروط تحققها كما تضع المعايير التي تتمايز بها عن دعوات أو جماعات الباطل.
ربما يصح لنا أن نقول إن النقد العلماني أو الليبرالي لرموز هذه الجماعات أو الاتجاهات الدينية، مثل حسن البنا وسيد قطب وغيرهم من رموز الإخوان، أو محمد إلياس وزكريا الكاندهلوي من جماعة التبليغ، أو محمد سرور وسلمان العودة ومحمد العبده وعائض القرني وناصر العمر وغيرهم من الصحويين، أقل بكثير من الاتهامات والانتقادات التي وجهها رموز التيار الجامي إليهم. من هنا نرى أن الجامية دعوة تطهيرية في الإطار السلفي، تسعى لتصفيته ممن تعتبرهم أدعياءه، وتمارس الجرح والتعديل بحقهم وفق المنهج السلفي الذي ترتضيه، فكان خطابها ونشاطها أظهر مثل معبر عن الصراع بين السلفيين أو صراعات الإسلاميين.
كان المخاض الذي ولدت فيه الجامية هو سلفية المدينة، وفي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحديداً، حيث كان يدرس محمد أمان الجامي وحيث يقيم عدد من رموزها، ومن هنا يشار لهذا الاتجاه بـ”سلفية المدينة”، ولكن يصر المعارضون على تسميته بـ”الجامية” نسبة لمؤسسه، وقد استفاد الجامي من صحوة علم الحديث على يد الشيخين الراحلين الألباني وعبد العزيز بن باز أثناء تدريسهما في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي كان يرأسها الأخير فترة.
كما يمكن القول إن الجامية تبلورت بالأساس كرد فعل على صعود القطبية أو السرورية، التي مثلت الزحف النظري والعملي لأدبيات الإسلام السياسي المشرقية على السلفية المأزومة حينئذ، والاندماج بها، ومن هنا كان أوج صعود الجامية هو أوج صعود السرورية، حين رفضت الأخيرة الاستعانة بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت، ووقف تمدد النظام العراقي السابق لصدام حسين داخل الأرض السعودية، فبينما صعدت السرورية معارضة لاتجاه الدولة، صعدت الجامية رافضة لموقف السرورية بالأساس، لتزيد هجمتها على هذه الحركات التي رأت فيها خروجا عن طاعة ولي الأمر، وخروجا كذلك عن المنهج السلفي.
ويرى بعض المراقبين أنه بعد خفوت التيار السروري كمعارضة للدولة انتفت الحاجة للجامية كرد فعل عليه، ومن هنا انتفت الحاجة للأخير، الذي دبت الانشقاقات داخله، ولم يعد نشاط ممثليه أكثر من نشاط تأليفي ودعوي ضئيل، لم يصل للمكانة السابقة التي حققها هذا التيار في المملكة عقب حرب الخليج الأولى.
ولكن كما هو شأن التيارات المنغلقة فقد اخترقت الانشقاقات الجامية، كما اخترقت السرورية، ولكن كان الخلاف في التيار الجامي أوضح، رغم تمدد تأثيره في بلدان عربية وإسلامية أخرى، شأن مصر والجزائر، حيث تنشط الجامية في هذين البلدين بالخصوص.
في بداية هذا الكتاب، يتتبع محمد سعيد في دراسة بعنوان “الجامية: النشأة والرموز، النزعة الإيديولوجية والحكم العقائدي” نشأة الجامية وسياقات هذه النشأة والمنحى الإيديولوجي للتيار الجامي وحكمه العقائدي على مخالفيه، كما يترجم الكاتب لرموز التيار الجامي وأهم أطروحاتهم.
ويقرأ الدكتور إدريس لكريني نشأة الاتجاه الجامي في المملكة العربية السعودية في دراسته المعنونة “الاتجاه الجامي في السعودية.. ومبدأ الولاء للدولة” عارضاً وكاشفا السياق العام لظهور هذا “التيار” وأهم المبادئ والأفكار التي قام عليها والانتقادات الموجهة إليه؛ وحدودها.
ثم يدرس الدكتور عبد الصمد بلحاج المفاهيم الشغالة والحاكمة للاتجاه الجامي في دراسة بعنوان “من العقيدة إلى القعود: دراسة في بعض مفاهيم التيار الجامي” وهي خمسة مفاهيم رئيسية مثلت أركان النظام الفكري للاتجاه الجامي، وهذه المفاهيم هي: مفهوم اتباع الكتاب والسنة، مفهوم السلف، مفهوم طاعة ولي الأمر، مفهوم محاربة الحزبية، مفهوم التبديع والتضليل.
وهذه المفاهيم تحكم خطاب الجامية كما تحكم علاقاتها مع الحركات الإسلامية الأخرى، وكذلك علاقتها المتينة والعميقة بإيديولوجيا الطاعة لولي الأمر التي قد تكون أبرز مكوناتها، حيث تأتي دائما في الجانب الآخر من مفهوم الفتنة والخروج الذي تلتزمه الحركات الإسلامية السياسية أو القطبية حسب توصيفها.
ويقرأ الباحث عباس المرشد في دراسته “الجامية والخريطة الدينية في السعودية، الصراع على الصواب في فضاء أحادي”، حيث يحاول المرشد التعرف على الجذور الاجتماعية والثقافية لتأسيس التيار الجامي أو بالأحرى تحليل الفعل الديني السعودي، ويخلص في دراسته إلى أن التيار الجامي هو نتاج صراع الفاعلين في الحقل الديني، الذين مثلتهم المؤسسة الدينية التقليدية من جهة والسرورية الصاعدة من جهة أخرى، فخرجت الجامية من نتاج صراعاتهما، ضدا على الآخرين وتأويلا متحيزاً لإيديولوجيا الطاعة.
ثم يقرأ إدريس هاني المنهج الجامي في الجرح والتعديل في دراسته “جدل التجريح والموازنة، الجامية في مواجهة خصومها” فقد اعتمدت الجامية في موقفها من معارضها آلية الجرح والتعديل، كما تقدم، بل التبديع والتضليل لهم، رافضة بشكل كبير لآلية الإعذار أو الاعتذار أو الموازنة في الحكم عليها، وهو ما يتتبعه الكاتب عبر عدد من المواقف والقضايا التي يعرض لها.
ويقرأ الباحث فهد الشقيران في دراسته “جامية السعودية والموقف من الجماعات الأخرى” الجدل الساخن بين الاتجاهين الضدين الجامية والسرورية في المملكة العربية السعودية، ونلاحظ خلالها مواكبة صعود كليهما معاً، وكيف نشأ الأول وصعد كردة فعل على صعود الثاني المدوي في مقتبل التسعينيات، ويقرأ الباحث مرجعيات الجامية الفكرية والدينية في هذا الشأن والمساحات الكبيرة التي استهدفت التيار السروري خلالها، وموقف هذا الأخير منها.
وفي دراسته المعنونة “الجامية والأصول الوهابية: اجتهاد فقهي أم تأويل سياسي؟” يقرأ الدكتور بومدين بوزيد الجذور الإيديولوجية للتيار الجامي، وكيف تفاعلت فيه ثنائية العقدي والسياسي، فتجلى الولاء السياسي عقديا في وجه منتقديه، وتأسست إيدولوجيا الطاعة دينياً كما تتأسس دائماً وكذلك إيديولوجيا الخروج، وهو ما يجعلنا نطرح في هذا التقديم تساؤلاً مهماً: هل الطاعة تمثل معيارا أساسيا في السلفية، أم أن الخروج يمكن أن يكون بديلا عنها في أحيان أخرى؟
وفي دراسته المعنونة “جدلية العقدي والسياسي في خطاب الإسلاميين، الإخوان والجامية نموذجاً” يقرأ محمد العواودة العلاقة بين العقدي والسياسي في خطاب كل من التيار الجامي والإخوان المسلمين، وكيف اختلفت التوجهات وصعدت الخصومات رغم وحدة وتشابه المرجعيات، والانتماء للنص التأسيسي نفسه، وهو ما يمثل برأينا نموذجاً جاذباً لحضور التأويل المستمر كمصدر للصراعات بين الإسلاميين في كل عصر من تاريخنا الإسلامي قديماً وحديثاً.
ثم يقرأ الباحث محمد عبد الصمد الهجري انشقاقات الجامية في دراسته “الحدادية.. انشقاقات الجامية”، محاولا تفسير الانشقاقات الفكرية داخل الاتجاه الجامي وأهم أسبابه وآثاره على التيار وعلى فكرته عموما.
ويقدم محمد أبو الخير قراءة في واحد من أهم كتب التيار الجامي، يكشف عن موقفه من المعارضين الذين يجمعهم جميعا في وصف “القطبية”، وهوكتاب “القطبية هي الفتنة فاعرفوها” لإبراهيم بن سلطان العدناني.
وتأتي الدراسة المستقلة لهذا الكتاب مكملة للدراسة السابقة للدكتور سيف الدين عبد الفتاح حول ثقافة السفينة وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كجزء ثانٍ للدراسة، ويتناول الكاتب في هذا الجزء قضية المشاركة والفاعلية، وعوائق وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتماداً على منهجه في العلوم البينية الذي يجمع فيه بين التأصيل والمعاصرة.
وكالعادة نقدم في خاتمة الكتاب ببليوغرافيا بأهم المؤلفات العربية والأجنبية حول موضوع الجامية، وكذلك ذاكرة الكتاب التي تقدم أهم التواريخ الزمانية في تاريخ هذه الظاهرة، كما وردت في الكتاب.
ختاماً نأمل أن يكون كتابنا عن الجامية قد ملأ فراغاً بحثياً كان بحاجة للملء، حيث ظل هذا التيار الذي ينشط منظروه في المملكة العربية السعودية، كما نشط ممثلوه في أفغانستان مع جميل الرحمن وظل مع أتباعه بعد مقتله، كما ينشط دعاته في مصر والجزائر الآن بدرجة كبيرة، قد يكون تناولها ودرسها جزءاً من الحالة السلفية في هذه البلاد، التي تتناولها بعض من كتبنا القادمة.