حين تكون هناك حركتان عنفيتان وإرهابيتان تحملان اسم “طالبان”، أي طلاب المدارس الدينية، تمثلان الحاضن الرئيسي للإرهاب والعنف في أفغانستان منذ عام 1993 وباكستان منذ عام 2007، فإن مسألة إصلاح التعليم الديني لا تكون حينئذ ترفاً فكرياً، ولكن ضرورة تمليها المجريات، كما تفرضها التحديات.
كانت هناك جهود مبكرة كثيرة لأجل إصلاح التعليم الديني والوظيفة العلمية والتعليمية للمؤسسات الدينية، بدأها أمثال خير الدين باشا التونسي سنة 1875 في تونس بإنشائه المدرسة الصادقية، وبعدها بعام بقراره بإصلاح التعليم الزيتوني، وقبل ذلك كانت جهود علي باشا مبارك في مصر بتأسيسه كلية دار العلوم سنة 1872 لتكون نواة للتعليم الديني المتصالح مع العصر، ثم جمال الدين الأفغاني، الذي كان أول من دعا لتدريس الفلسفة وتراث ابن سينا والفارابي في أروقة الأزهر، ثم جهود الشيخ محمد عبده في مصر في أخريات القرن التاسع عشر من أجل إصلاح التعليم في الأزهر، والتي تابعها تلامذته أمثال الشيخ مصطفى عبد الرازق ومحمد مصطفى المراغي من شيوخ الأزهر وغيرهم، شأن عبد المتعال الصعيدي وكتابه الصادر عام 1924 “نقد التعليم الديني في الأزهر”، وفي غيرها من بلدان العالم العربي مثل جهود الشيخ محمد راغب الطباخ في سوريا، ومحمد الطاهر بن عاشور في تونس الذي لقبه محمد عبده بـ”سفير الدعوة”.
حين يكون كل ذلك موجوداً في تاريخنا الحديث وماضينا القريب، فهل يصح وصف دعوة إصلاح التعليم الديني بأنها دعوة مستوردة، أو مجرد أمر مفروض من الخارج، رغم أنه كان محورا رئيسياً من محاور الأطروحات النهضوية منذ أواسط القرن التاسع عشر.
أفكار كثيرة وإشكالات متعددة تستدعيها وتستثيرها مناقشة موضوع “التعليم الديني في العالم الإسلامي”، من قبيل العلاقة بين التعليم الديني والعنف، أو علاقته بالنهضة والحداثة في ظل غلبة أنماطه ومنهاجه التقليدية والمحافظة؛ هذا التعليم الرافض لأي إصلاحات داخلية أو خارجية، والرافض أيضاً لأي طرحٍ لمناقشة العلاقة بينه وبين الإرهاب في ظل نشوء حركات دينية متعددة من رحم المدارس الدينية، شأن طالبان أفغانستان وباكستان، أوفي اليمن، أو وجود تنظيرات داخل بعض مؤسسات التعليم الديني تدعم أطروحات حركات الإرهاب.
لهذه الأسئلة وغيرها كان هذا الإصدار التاسع والثلاثون من كتاب المسبار الشهري حول التعليم الديني، والذي خصصناه لدراسة وتوصيف حالات بعينها تكشف عن الأزمة، وتكشف كل منها عن دلالات مختلفة من ملامح هذه الأزمة، بينما نخصص الإصدار المقبل لعدد من الدراسات التحليلية وسيناريوهات الحل والتعاطي مع مسألة إصلاح هذه الحالات، فبينما يمثل هذا الكتاب توصيفاً للمشكلة عبر عدد معبر من نماذجه الكبيرة، يمثل الكتاب المقبل تحليلاً ودراسة للحل عبر عدد من وجهات النظر المختلفة والمتباينة.
في بداية هذا الكتاب تطالعنا دراسة لبيبة النجار حول “أزمة التعليم الديني في الأزهر”، والتي تعرض فيها الكاتبة المتخصصة في قضايا التعليم ملامح هذه الأزمة، عبر استقرائها لموضوعات ومناهج الدراسة في الأزهر، وإشكالاتها ووجهات النظر المختلفة حولها.
ثم تأتي دراسة محمد العواودة حول نمط آخر، وهو التعليم الديني في فلسطين، كيف يعمل في ظل خصوصية هذه المنطقة -المحتلة والمحاصرة سياسيا وثقافيا- وإشكالاتها وانقساماتها، عارضاً لتاريخ التعليم الديني في هذا البلد، والتأثيرات السياسية والحركية عليه.
وبينما قرأت الدراسة السابقة إشكالية التعليم الديني في بلد محتل، تقرأ دراسة أحمد بهنسي -المتخصص في الشؤون الإسرائيلية- واقع التعليم الديني في إسرائيل -سلطة الاحتلال- عارضة لتاريخه ورؤاه والجدل الإسرائيلي حوله، حيث يتماهى التعليم الديني مع الهوية والقومية في آن، لدولة استيطانية قامت على أساس ديني، كما يلفها الصراع مع محيطها ويوجهها في أغلب الأحيان، ويمثل التعليم الديني لها هوية كما هو الدين لها قومية، وقد أضفنا هذه الدراسة لتمكّن القارئ من المقارنة بين التعليم الديني في العالم الإسلامي الذي هو اختصاص هذا الكتاب وبين التعليم الديني في دولةٍ غير إسلامية لهذا النوع من التعليم دورٌ هامٌ فيها وهي دولة إسرائيل.
ويقرأ الدكتور الحسين أعبوشي التعليم الديني في المغرب، مركزاً على التعليم الديني الجامعي تحديداً، من خلال دراسة وتحليل المقررات والدعائم التربوية المتعلقة بالتعليم الديني، خصوصاً بكليتي اللغة -جامعة القرويين- وبكلية الآداب شعبة الدراسات الإسلامية.
ثم تأتي دراسة محمود الطنطاوي بعنوان “المدارس الدينية في باكستان”، لتسلط الضوء على قضية التعليم الديني في هذا البلد، الذي يمثل أكبر نظام تعليمي غير رسمي في العالم، كما صرح الرئيس السابق برويز مشرف سنة 2002 في خطابه المشهور، حيث كانت هناك عشرات الآلاف من المدارس خارج سيطرة الدولة، بإداراتها ومناهجها، مما دفع الدولة الباكستانية لتقنين وضعيتها عبر عدد من الإجراءات وإلغاء بعضها الآخر، بل والحرب على إحداها، وهي مدرسة المسجد الأحمر، التي أعلن طلابها إمارة باكستانية في منطقة وجودها بالعاصمة إسلام آباد سنة 2007، كان من نتيجته سقوط كثير من القائمين على المدرسة وطلابها، ونشوء حركة طالبان الباكستانية.
ويقرأ الدكتور عبد الغني عماد من منظور مقارن قضية التعليم الديني في لبنان، بشقيه المسيحي والإسلامي بفرعيه السني والشيعي، مؤرخاً له، وكاشفاً عن أزماته ومشاكله وعلاقته بالوطن وطوائفه وتوجهات كل منها، وهي دراسة تكشف للقارئ عن إشكاليات التعليم الديني في بلد متعدد الطوائف الدينية، ويكشف عن تعاطي كل طائفة منها مع مشكل التعليم الديني.
وتأتي دراسة الباحث حسين رفاعي حول “التعليم الديني في تونس” كاشفة عن أزمات الجامع الأعظم في تونس (جامع الزيتونة) وجامعته، وصراع التقليد والإصلاح فيه عبر التاريخ، وكيف كانت النخب السلفية والتقليدية عائقا من عوائق الإصلاح دائماً، رغم بكور وريادة جهود الإصلاح التونسية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعلى مدار القرن العشرين، وتأثير صراعات السلطة والإسلاميين على قضية التعليم الديني، ومراحل الإصلاح وممكناته، التي تبدو مبشرة في السنوات القليلة الماضية.
أما دراسة الدكتور إبراهيم العاتي بعنوان “التعليم الديني لدى الشيعة الإمامية” فتركز على مفهوم الحوزة والمرجعية ومسارات التعليم الشيعي الإمامي وإشكالاته ومناهجه، مؤكداً على عمق مسألة الوجود العلمي والتعليمي للشيعة الإمامية عبر التاريخ، والذي يمثل بديلاً عن الوجود السياسي، أو متماهياً معه متى وجد الأخير في دولة شيعية.
ويستعرض فهد الشقيران مشكل التعليم الديني في المملكة العربية السعودية، من خلال قراءة كتاب الدكتور أحمد العيسى “إصلاح التعليم في السعودية”، والذي يلمس كثيراً من مشكلات الواقع التعليمي ومحدداته، كما يناقش العديد من مسارات السياسات الإصلاحية له في المملكة.
وتأتي دراسة الكتاب معاصرة لحدث كبير مر علينا منذ فترةٍ قصيرةٍ، وهو حدث حظر بناء المآذن في سويسرا، والتي أعادتنا لسلسلتنا الفكرية حول “العلاقة بين الشرق والغرب”، ونقدم هنا دراسة للباحث حسام تمام حول هذا الموضوع نتبعها بدراسة تمثل وجهة النظر الغربية في الكتاب المقبل.
ويضم الكتاب كالعادة من أبوابه الثابته: “ذاكرة الكتاب” التي تحوي أهم التواريخ التي وردت فيه، وببليوغرافيا بأبرز المؤلفات الصادرة حول موضوع التعليم الديني.
وختاما نأمل أن يكون هذا الكتاب عن التعليم الديني، بنماذجه وحالاته، معبراً وكاشفاً عن أزمة هذا التعليم، ومؤكداً على ضرورة التعاطي الجاد والعلمي مع هذه الأزمة، بعيداً عن منطق المؤامرة أو قداسة التقليد أو شهوة العنف الرمزي، الذي يصر عليه بعض سدنته، رفضاً للتجديد والتطوير وحركة التاريخ، فيظلمون التعليم الديني من حيث يظنون أنهم ينتصرون له.