ظل مفهوم العنف في التراث الإسلامي مسيطراً على المشهد الديني والسياسي لفترة طويلة من الزمن، وتم تسويق العنف عبر حزمة من المفاهيم الشرعية، مثل: “الجهاد” و”القتال” و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ونحوها من المفاهيم، وأصبح العنف بهذا التسويق عبر المفاهيم الدينية والاستخدام السياسي هو المهيمن على الرؤية الشرعية بعامة.
إلا أن هذه القراءة التبريرية للعنف عبر مفاهيم دينية، لقيت معارضة لها في القديم والحديث، وتجلّت قديما في عدد من النصوص الدينية، واجتهادات عدد من الفقهاء، وبالذات علماء الحجاز، الذين كانوا بعيدين عن “الثغور” والمناطق الساخنة على حدود الدولة الإسلامية.
لقد بقيت تلك النصوص والاجتهادات مغيّبة عن المشهد الإسلامي العام، بحكم استمرار الصراعات والنزاعات العنيفة، حتى ظهر تيار فكري وديني يتبناها ويطرحها بقوّة، في إطار مدرسة تقدّم رؤية جديدة في قراءة التراث والواقع قراءة “لاعنفية”، بمعنى أنها تعيد من خلال النص الديني والتراث الفقهي تقديم تفسيرات للمفاهيم الدينية، التي اعتمد عليها العنف في تسويق نفسه، من مثل مفهوم الجهاد والقتال وغيرها، ومن خلال التركيز على مفاهيم جديدة كمفهوم “السلام” و “السلم” و نحوها.
من هنا جاء عنوان العدد الثالث من كتاب المسبار الشهري (اللاعنف)، ليسلّط الضوء على هذا المفهوم غير المتداول كثيراً في أوساط المتابعين والمهتمين بقضايا الإسلام والحركات الإسلامية، وليعرض لأهم المؤسسين والمؤصلين والداعين له، والإشكاليات التي أثارها طرح أو إحياء هذا المفهوم، وموقف المعارضين له؛ كما يبرز أيضا الخبرات اللاعنفية العالمية ومدى تأثيرها وتأثرها بتلك التي ازدهرت في العالم الإسلامي مؤخرا، وفي إطار نخبوي حتى الآن.
في هذا العدد عرض الداعية اللاعنفي، خالص جلبي، تأملاته في جدلية الصراع الإنساني وتحييد العنف، ليخوض في تفكيك آليات العنف واللاعنف، وانعكاسات ذلك على واقعنا المعيش، وصراعاتنا الراهنة، وكيفية التعامل مع التحديات الملحة، من منظور لاعنفي أو سلامي، لا يعني الاستسلام أو الخضوع.
ثم يصحبنا إدريس المهدي في دراسة مستفيضة عن مبدأ اللاعنف وتحدي العمل الإسلامي، فيسلط الضوء أكثر على مبدأ اللاعنف في المستوى النظري والفلسفي والأخلاقي، وفي علاقة العنف واللاعنف بالعمل السياسي، إذ أن تفشي العنف يعني فشل رجال السياسة، وبالتالي فإن المبدأ الأساسي لفلسفة العمل السياسي هو بناء مجتمعٍ خالٍ من العنف، ثم يدلف إلى مبحث هام عن “اللاعنف والجهاد”، ويرجع للتاريخ الإسلامي في محاولة لاستجلاء العلاقة بينهما، كما يسرد لتجارب لاعنفية من تاريخ الإنسانية، ومنها التاريخ العربي والإسلامي.
وفي مقابل تلك الأفكار، يأتي بحث معمّق عن دعوات اللاعنف الإسلامية، يعرض فيه محمد مسعد لتلك التيارات الفكرية أو الحركات الاجتماعية السياسية الحديثة، التي تتخذ من اللاعنف سبيلاً ومذهباً، ثم تحاول غرس نبتته غرساً وقسراً في تراث الإسلام وعقيدته، ويضع تلك التيارات في السياق الحداثي الذي ظهرت فيه، ويفنّد الأصول الفكرية والسياسية التي سبقتها وواكبتها، لينأى بها عن التراث الإسلامي.
وفي محاولة لقراءة ما بين العنف واللاعنف، لاستشراف منطقة الاشتباه، أو قوس قزح بينهما، تدخل نادية سلطان هذه المنطقة، مؤكدة أن الثنائية الحادّة ألغت ما بين العنف واللاعنف من مساحات يمكن النظر إليها، والتأمل فيها، والخروج بحلولٍ لم تكن واردة في ظل تلك الثنائية القلقة.
ومن أجل التعريف برموز تيار اللاعنف الإسلامي، اختار بلال الشاغوري اثنين من أبرز الدعاة، هما جودت سعيد، الذي يعد رائداً في التأصيل لهذا المفهوم، وخالص جلبي، الذي يسير على خطى سعيد، بل هما رفيقا درب وكفاح مشترك، من أجل ثقافة لاعنفية، اجتهدا في تأسيسها ورعايتها بكل ما أوتيا من أدوات بحث وعلم، حتى صارت جهودهما علامة على “أسلمة” اللاعنف، وصارت دعوة مثيرة للنقاش.
وحتى تكتمل الصورة، عرض يوسف الديني، لواحد من أبرز المؤلفات المعبرة عن تيار اللاعنف، أو الجهاد السلمي، والذي وضعه الشيخ جودت سعيد، وهو كتاب “كن كابن آدم”، والذي يحاول المؤلف من خلاله، أن يستخلص الموقف الشرعي من العنف، عبر إبراز الاسلوب الذي زكَّاه الله، في موقف ابن آدم الأول من أول نزاع حدث في مطلع البشرية.
أما دراسة العدد المستقلة، فقد خصصها د. عبد الحميد الأنصاري، لوضعية المرأة في التشريعات العربية المعاصرة، واستعرض الأنصاري من خلال دراسته المقارنة سبعة عشر حقاً من حقوق المرأة المنقوصة في تلك التشريعات، بدءاً من حقها السياسي في الترشح والانتخاب، وصولاً إلى حق حضانة الأطفال ونفقة المتعة؛ ولم يغفَل في سياق بحثه عن تفنيد التفسيرات المتضاربة للنصوص التراثية، والتي استندت إليها تلك التشريعات.
إن مركز المسبار للدراسات والبحوث، وهو يواصل مسيرته الحثيثة، أملاً في سدّ فراغات معرفية في مكتبتنا الثقافية، ليرجو أن يكون هذا العدد من كتاب المسبار الشهري، قد لبَّى، ولو جزئياً، هذه الحاجة؛ الأمر الذي يدفع إلى مزيد من البحث والتنقيب عن عناوين أخرى بحاجة إلى نفض الغبار عنها، وتسليط الأضواء عليها.