ثمة طفرة في صعود الدراسة الأنثروبولوجية والميدانية في دراسة التجليات الاجتماعية والسياسية للفكر الديني والفلسفي في الواقع وحالاته، وهو ما دعت له الحاجة الواقعية لمعرفة أكثر بالواقع من أجل عمق النظر فيه، كما دعت له وأكدته رغبة عميقة في تجاوز التنظيرات الأيديولوجية التي دأبت على تصوير ما تريد تغييره كما تتخيله وليس كما هو، فغاب الواقعي الماثل لصالح التنظيري أو المتخيل الغائب.
من هنا كان تحول الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا، وتحولت العديد من الدراسات الفكرية لدراسات ميدانية ونماذجية في المقام الأول، بادئة من عالم الواقع والناس قبل أن تبدأ من عالم الأفكار المتعالية والمثالية كما كان طوال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ونشط وصعد في الآن نفسه دور مراكز البحوث الاجتماعية والسياسية والجنائية في تقصي الحالات قبل وضع السياسات، ورصد السلوكيات قبل وضع السيناريوهات.. إيمانا صار راسخا بأن التنظير السابق لدراسة الحالة دراسة واقعية وملتحمة بها ليس أكثر من ترف فكري أو بيان إنشائي يملأه الخواء!
كان لا بد من هذه الملاحظة ونحن نقدم للكتاب الثاني من مشروعنا البحثي حول” التعليم الديني” في وهو الإصدار الأربعون من سلسلتنا كتاب المسبار الشهري، وقد خصصناه للتحليل والقضايا والمداخل المختلفة في قراءة هذه الظاهرة، بعد أن خصصنا الكتاب السابق لدراسة حالات ونماذج بعينها، فلم نرد أن يسبق الدرس الحالة، والواقع النظر، وإن كنا نؤمن ليبراليا أن الثقافة تصنع الواقع، كما أراد ماكس فيبر، وليس العكس صحيحا كما نظرت له الماركسية فترة طويلة عبر مقولتها حول البنى الفوقية والبنى التحتية المنشئة إليها عبر علاقات الإنتاج، فالثقافة تصنع الواقع وعلاقات الإنتاج، وتخرج منها مشاريع النهوض والتقدم، فمن الإصلاح الديني البروتستانتي خرجت الرأسمالية ومن الرأسمالية خرجت تجربة الحداثة في الغرب، هكذا تواضعت وانتهت سوسيولوجيا الأديان، فالأهمية تكاد تكون متساوية ومتوازنة بين تشخيص الداء وتحديد الدواء!
في البداية يقرأ الدكتور عبد الرحمن حللي في دراسته” أزمة التعليم الديني: أسئلة وأبعاد” عددا من الأبعاد المختلفة لهذه الأزمة، منها البعد التاريخي والحديث لها، والبعد المعرفي الذي يدعوه بالأزمة الداخلية لها، التي يراها” تمتد في التاريخ قروناً طويلة” ولكن رغم أنه قد عولجت جوانب كثيرة منها، إلا أن جوانب جوهرية ما تزال غائبة عن النظر، ولا زال الحفظ وحسن التلقي وإتقان التعامل مع مصادر التراث (المتون والشروح والحواشي والتعليقات) هو المؤشر الأساسي للنجاح في التعليم الديني على اختلاف المستوى والمطلب، وأنه يحمل خللا في المنهج والتطبيق وكذلك خللا في الأولويات، وهي دراسة مفتاحية تعرض لمختلف الاتجاهات والمداخل والفعل وردود الفعل حول أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي.
ويتناول الخبير الدكتور عماد صيام مسألة خطيرة وجد مؤثرة على التعليم الديني، وتحديدا في علاقته بالتطرف والإرهاب، خطاب القتل والمجابهة الذي تتبناه الجماعات الإسلامية، في جلها إن لم يكن في كلها، وهي كيفية اختراق الإسلاميين للمؤسسات التعليمية، في الحالة المصرية، من خلال قضايا عديدة ومحاضر تحقيقات ومقابلات، حيث عمل كثيرون من قيادات الحركات الإسلامية في مجال التعليم، وكذلك كان بعض المتهمين في القيام بحركات عنفية يمتهنون التدريس، ومن خلاله يتم تجنيد الأطفال، ويتحول التعليم من المعلومة- في أي مقرر تعليمي- إلى المقولة الأيديولوجية التي يتم تلقيها من الطفل والشاب غالبا بالتبني ثم الانتماء ثم التعصب ثم الانخراط العملياتي نصيرا وجنديا فاعلا في حركة إسلامية ما.
وتتميز دراسة د صيام باحتوائها على ثبت وجداول متعددة بأسماء عدد كبير من أعضاء الحركات الإسلامية ممن عملوا في مهن التدريس وداخل المؤسسات العلمية، مما يملأ فراغا مهما في الدراسات الميدانية لخطورة الاختراق الأصولي للتعليم في العالم العربي، حيث تتضح ندرتها في هذا الاتجاه.
ويقرأ الدكتور رضوان السيد في دراسته المعنونة” التعليم الإسلامي الجامعي والدراسات الإسلامية” لجانب آخر من الأزمة مركزا على التعليم الجامعي تحديدا، عارضا لاتجاهات ثلاث للتعليم الديني التقليدي المحدث والسلفي والإحيائي، كما يعرض لمواقف السلطة منه، والتي قسمها لثلاثة مواقف إقصائي واستيعابي وموقف حيادي إيجابي وسلبي، ويشير رضوان السيد إلى الفروق بين التعليم الديني الإسلامي العالي، والدراسات الإسلامية، هو حديثٌ عن الفروق بين تعليم الدين، أي دين، للأجيال الشابّة، والآخَر الرامي إلى التخصُّص في سوسيولوجيا الدين أو تاريخيته. وهو حديثٌ عن الفروق بين التلقين الدوغمائي والأيديولوجي للعقيدة أو التعليم، والآخَر الرامي إلى فهم ومقاربة المجال الثقافي والحضاري/الديني للإسلام والمسلمين، والأخير هو ما تدعو إليه هذه الدراسة.
ثم تأتي دراسة الدكتور عبد الحميد الأنصاري بعنوان” التعليم والديمقراطية والتربية الآمنة ” مؤكدا فيها على حق الطفل والنشء العربي والمسلم في تربية آمنة وديمقراطية، تبدأ من الأسرة وتنتهي للمدرسة والمجتمع، ويحدد الأنصاري شروط هذه التربية الآمنة، ووسائل تحققها، وعوائقها وكذلك عوائق التعليم الديمقراطي والمتسامح للنشء المسلم، عارضا ملامح أزمة التعليم ككل وأزمة التعليم الديني بالخصوص، وداعيا لتربية مدنية وديمقراطية تعد النشء للعصر، وتفهم صحيح الدين وجوهره، دون أن تجعل أطفالنا كلأ مستباحا لذئاب التطرف.
ويقرأ الدكتور مصطفى الأمين في دراسته المعنونة” دعوة إصلاح التعليم الديني من التطرف إلى المواطنة” موضحا أصالة هذه الدعوة، وكذلك اتجاهات التعاطي مع موضوعة إصلاح التعليم الديني، ما بين رفض إلى مطالب بالغائه وبينهما مطالب بإصلاحه وترشيده، كما يعرض للسيناريوهات المختلفة في عملية إصلاح التعليم الديني، سواء الإصلاح من داخل المنظومة الدينية أو التطوير من خارجها، أو المشكل المؤسسي المتعلق بعمل المؤسسة الدينية ككل، ويرى الأمين أن إصلاح التعليم الديني هو السبيل الوحيد لتجاوز المسافة بين التقليد والحداثة وعقد المصالحة بين الدين والعصر، والسلام بين المتدين والمجتمع فلا يصير متطرفا منغلقا مصرا على إقصاء الآخر وضرب الوطن أو المواطنة.
كان صعود دعوة إصلاح التعليم الديني مدويا، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكانت مثاراته سجالية في خضم الحرب على الإرهاب، حين زاد تفسير الأخير بمناهج التعليم الديني السائدة في الجامعات والمعاهد الإسلامية، وقد صدر عدد كبير من التقارير الدولية المؤكدة على أن التعليم الديني هو السبب الرئيس لفكر الإرهاب وعملياته، بدءا من تقارير ومنظمات مدنية شأن بيت الحرية( freedom House ) ومراقبة حقوق الإنسان( Watch) وبعض المعاهد والمراكز الأكايمية شأن مؤسسة راند (Rand Corporation) وكذلك التقارير الدولية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسات الأمم المتحدة المختلفة، وقد سعى الباحث ممدوح طه إلى تتبع موقف التقارير الدولية من موضوعة التعليم الديني في العالم العربي والإسلامي، وطرح وجهة نظر تجاه هذا التناول.
ويقرأ الدكتور حسان عبد الله، المتخصص في إيران وشئونها الثقافية، في دراسته المعنونة” التعليم الديني في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والحالة التعليمية في إيران دالة، فهي حالة التعليم الديني داخل دولة طائفية وكذلك دولة ثيوقراطية أو دولة ولاية الفقيه ويؤكد حسان عبد الله أن نزوع الطائفة ومقولاتها والرغبة في التمايز والخصوصية رعاية للهوية ووعيا بآخريها ظل محركا لقضية التعليم الديني في دولة دينية.
وتأتي دراسة وحدة البحوث بالمركز بعنوان” التربية الدينية من الأصولية إلى العولمة” والتي تفرق بين التربية الدينية والتعليم الديني، حيث يتسع الأول لما هو أوسع من الثاني، كما تشير إلى خطورة مسألة التعليم الأصولي الجماهيري السائد، الذي صار يجد منابر كثيرة ينفذ منها لوعي النشء والأجيال الجديدة، مثل الفضائيات الدينية ومواقع الإنترنت وشرائط الكاسيت، والتي تصنع وعيا متصاعدا يتجه وينزع نحو التطرف والتعصب الطائفي، وهو ما تفسره الدراسة بمأساة نجع حمادي الأخيرة في مصر، حيث أطلق مجرمون جنائيون النار على احتفال للمسيحيين بعيد الميلاد في الكنيسة الكبيرة بالمدينة، ورغم إجماع الناس والعامة بل ورجال الدين المسيحي والمسلم، أنهم غير متدينون ولا ينتمون لجماعات أو حركات أصولية، إلا أنهم مارسوا العنف الطائفي على أساس ديني وفعل يرونه دينيا، اخترقتهم الأصولية فكرا عبر التربية الأصولية السائدة، وإن لم تخترقهم تنظيما، كما اخترقت عددا كبيرا من طلاب المعاهد الدينية الذين طاردوا المسيحيين في الطرقات واضطروا البيوتات المسيحية لإغلاق أبوابها على أصحابها من الداخل خشية اقتحامهم له، مما يعني ويؤكد أن العولمة التي تعني التنوع والتسامح في جوهرها قد تم استغلالها من قبل الأفكار المتطرفة لتصير جسرا تعبويا للفكر الأصولي وإن لم يكن حاملا تنظيميا له.
وتقرأ هيئة التحرير في المركز كتاب المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي” الثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني” والذي يصب فيه مؤلفه جام غضبه على علم الكلام التقليدي الذي دشنته الفرق الإسلامية القديمة والمتكلمون، كما يدشنه الآن المتكلمون الجدد من ممثلي الفكر الأصولي الساعي لاحتكار الحقيقة وهيمنة سلطانهم الروحي على الناس، مما يحرمهم من علاقة مباشرة بالله، كما أراد أراد الله اوأكد الإسلام بتداء.
وتأتي دراسة العدد ضمن سلسلة الحوار بين الشرق والغرب حول موضوع المآذن طارحة وجهة نظر غربية حول الموضوع كتبها البروفيسور ج إن فرانسوا مايير رئيس مرصد الأديان بسويسرا، والأكاديمي المعروف، والذي يعرض فيه لتفسير الأسباب التي دفعت الأغلبية السويسرية للتصويت لصالح قرار حظر بناء المآذن في سويسرا، يوم 29 نوفمبر سنة 2009، وهي رؤية غربية تتوازن مع الرؤية العربية السابقة التي طرحناها في الكتاب السابق حول نفس الموضوع.
ويشتمل كتاب المسبار الشهري في إصداره الأربعين على ببليوجرافيا تضم أهم المؤلفات العربية والأجنبية حول موضوعة وقضايا التعليم الديني، وكذلك ذاكرة بالكتاب.
ختاما يظل البحث في إشكالية التعليم الديني بحثا مفتوحا على مصراعيه يحتمل الكثير والكثير من الجهد والدرس ووجهات النظر التي تكشف الصورة وتكشف الأزمة كما تسعى للحل.