الطائفية هي الفتنة، و”الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها” كما جاء في الأثر المشهور، غير أننا نشهد اليوم أشخاصاً وجماعاتٍ ودولاً لم تزل تنفخ في رماد الطائفية المنطفئ عسى أن تشعل جمرة تكون نواة جحيم ينفتح على العالم.
إن مركز المسبار للدراسات والبحوث وهو يخصِّص عدده الرابع لموضوع الطائفية يدرك أنه يخوض في حقل ألغامٍ شديد التعقيد والخطورة، وقد سعى المركز جهده أن يكون العدد موضوعيّاً ومتوازناً، وأن يقدِّم قراءات لانتشار الطوائف وعلاقاتها وتداخلات الديني والسياسي في وجودها وطبيعة تفاعلاتها مع بعضها البعض.
إن المنظومات الفكرية الكبرى كالفلسفات والأديان، لا يمكن حصر صورتها في تصوُّر وحيد ورؤية واحدة، ولكن الطبيعي أن زوايا النظر لها وآليات تفسيرها وتأويلها تتخذ صوراً شتى وتتلون بألوان مختلفة، والإسلام ليس استثناء من هذا السياق، فقد خرجت من رحمه آليات تفسيرية وتأويلية متعددة ومتباينة، تشكلت بناء على مجموعة من العناصر السياسية والاجتماعية وغيرها، وتأثرت بالسياقات الزمانية والمكانية التي خرجت فيها، وكان ميلاد الطوائف في التاريخ الإسلامي.
انتحت كل طائفة من الطوائف في التاريخ الإسلامي برؤيتها ومنظومتها التأويلية جانباً، وبدأت تفتِّش عن مساحات اختلافها مع الآخرين، وتركِّز على نقاط تميُّزها عنهم لتسوِّق بذلك نفسها للمجموع وتكتسب المزيد من الأتباع، ثم بعدت الشقًّة بين الأطراف ودخلوا صراعاً مريراً مع بعضهم وأصبحت عداوة بعضهم لبعض تزداد، وتنحسر معها أخلاقيَّات الدين وأبجديات الأدب الإنساني وقبل ذلك أحكام الشرع في العدل والإنصاف والتراحم.
إن طوائف المسلمين لا تكاد تحصى عددا، بعضها كبير مشهور وحاضر بقوة في المشهد المعاصر كالشيعة والسنّة، وبعضها صغير متوارٍ كالمعتزلة والجهميّة، وبعضها مغمور مندثر كالكرّاميّة وغيرها.
إن صفحات التاريخ ملأى بالعنف الطائفي الذي تقطر سطوره دماً ومذابح وأشلاءً، كان يقترف كلّه باسم الله وباسم الجهاد في سبيله، وبحجّة قمع المبتدعين وقتل المرتدين.
لقد صعد مفهوم الطائفية بقوة في مجتمعاتنا في الآونة الأخيرة، وتصاعدت معه المطالب السياسية ذات المنطلق الطائفي، وهو ما يعبرعنه خطاب المحاصصة حينا ومنطق الولاءات المبطنة والمعلنة حينا آخر في كثير من الأقطار العربية، كما تعبر عنه الحرب الأهلية الضروس الدائرة في العراق بفعل فرق الموت السنية والشيعية.
لم تستطع الطائفية المقيتة يوما أن تلغي الآخر أو تبيد خضراءه، حتى ولو امتلكت السلطة السياسية المطلقة وحشدت جيوش المبررات الإيديولوجية العمياء ومارست أعتى أنواع الظلم والتعسف، لأن عقائد الطائفة ومبادءها تتحول لدى أتباعها -حينذاك- إلى ما يشبه «الهوية»، فيزدادون تشبثا بها، حتى تحين لهم ساعة الانتقام، فيردّون الصاع صاعين.
إن مركز المسبار حاول في هذا العدد إلقاء الضوء على “الطائفيّة” في أهم الدول الإسلامية التي تشهد وجوداً طائفياً، وذلك بغرض تقديم صورة وصفيّة للمشهد الطائفي المعاصر: فكتب يوسف الديني حول “مفهوم الطائفية” كاشفا عن مناطق التجاذب بين الديني والسياسي في هذا المفهوم الملتبس والإشكالي، كما قرأت دراسة رشيد الخيون العلاقة بين السنة والشيعة في العراق، من منظور تاريخي وتحليلي ومستقبلي يبحث في أصول المسألة الطائفية المحتدمة في العراق، وكذلك تطورها المتدرج وصولا إلى المشهد الآني.
وجاءت دراسة أكرم ألفي “شيعة الخليج من المصادمة إلى المشاركة السياسية” لتجلي الكثير من الميزات الفارقة بين الشيعة في الخليج وغيرهم، وكذلك تطورات خطاباتهم المختلفة. ومن منظور تاريخي ووصفي جاءت دراسة علي آل غراش “الطائفية في الخليج” متناولة المشهد الطائفي في الخليج عموما، وكذلك التجاذب المذهبي بين المذاهب السنية المختلفة.
بينما قرأ أحمد الزعبي أوضاع الطائفية في لبنان، ولم ير علاجا للطائفية إلا بالعودة لاتفاق الطائف كضمانة حيث يعلو ولاء الوطن على ولاء الطائفة. وجاءت دراسة أحمد الأهوازي حول الطائفية في إيران كشفا عن المعمي والمسكوت عنه، عن أوضاع السُّنة والأقليات داخل حكومة الثورة الإسلامية في إيران.
ثم أتت قراءة هاني نسيره لـ “خريطة الأقليات في العالم العربي” محاولا في بدايتها اختبار تفسيرية مفهوم الأقلية نفسه، والذي يثبت عدم كفاءته في حالات كثيرة توصف بالأقلية وهي أكثرية، وكذلك وجود صعوبة في تحديد المفهوم والتحديد الإحصائي وهو ما تكشف عنه الفروق الواسعة بين إحصائيات الأقليات في المجتمعات العربية. ويقرأ يوسف الديني كتاب الدكتور برهان غليون “نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة” ككتاب مهم في معالجة المسألة الطائفية، وإن كانت سيميائية عنوان هذا الكتاب الصادر عام 1995م توحي بالتراجع من الانتماء للدولة إلى الانتماء للقبيلة وهو ما يمكن تلمسه في ثبات وصعود المشهد الطائفي في العالم العربي المعاصر بشكل كبير.
وتأتي دراسة العدد للأستاذ المفكر جمال البنا “التجديد الإسلامي؛ الماضي والحاضر” محاولا قراءة مفهوم التجديد وظهوره منذ عهد الرسول ثم أبرز ممثليه واتجاهاته على مدار التاريخ الإسلامي، ومعالجا لبعض إشكالاته التي يأتي في مركزها سيطرة الصورة الذهبية لدولة المدينة على ذهن كثير من الإسلامييين.
ويأمل مركز المسبار للدراسات والبحوث أن يكون قد قدم بهذا العدد الرابع من كتابه الشهري، إضاءة تحفز على قراءة الطائفية من مختلف أبعادها، حرصا على تنوع الآراء، وترسيخا للدعوة للتسامح وثقافة المواطنة كمعالم رئيسة نحو نهضة عربية طال انتظارها.