بعد شهر من صدور هذا الكتاب، وفي التاسع من يوليو المقبل 2011، ستصبح دولة جنوب السودان أحدث دولة يعترف بها المجتمع الدولي، وآخر الدول تشكلاً في العالم، وستكون بدايتها نهاية لفصولٍ طويلةٍ من النزاع الملتبس بالعرق و الدين و الهوية الذي ربطها بالدولة الأم “جمهورية السودان” التي ستصبح جارتها الشمالية، وعلى امتداد عقود طويلة ظلّ الإسلام رقمًا محسوبًا على الشمال لدى الجنوبيين، واتسمت كل المعلومات حول وجوده في الجنوب بالضبابية حينًا و بالندرة حينًا آخر وتكاد تنعدم في غالب الأحيان، لذلك أخذنا على عاتقنا في مركز المسبار للدراسات والبحوث أن نُسابق ميلاد الدولة الجديدة، بالحديث عن الإسلام في دولة جنوب السودان، تأريخه و تراثه، رموزه وشخصياته، تصوفه و سلفيته، حركيته وخلافاته، حتى مخاطر التطرف والإرهاب، وحتى الأصوات المسيسة له “الإسلام الحركي”. شارك في كتابنا باحثان من جنوب السودان، وآخرون من شماله، و واحد من شمال الوادي.
بدأنا الدراسات برسم الخارطة التاريخية للإسلام في جنوب السودان، وكان ذلك في دراسة الباحث طارق محي الدين، الذي نحت خارطة للسودان القديم بدياناته المختلفة والسلطنات المتعاقبة التي قامت فيه على امتداد تاريخه، مرورًا بدخول الإسلام ومن بعده المسيحية، قدّم الباحث لمحة عن الجنوب و تناول قبائل الجنوب وأنماط حياتها قبل دخول الأديان السماوية، كما عرضت الدراسة للقبائل النيلية (الدينكا، النوير، الشلك)، و القبائل النيلية الحامية مثل الباريا، والتوبوسا والتوركاتا، والمجموعة السودانية مثل الزاندي، وتناولت الدراسة العوامل التي ساهمت في دخول الإسلام إلى جنوب السودان، مشيرًا إلى مساهمات دولة الفونج، والمهدية، وألمح بصورة تبريرية لتاريخ الزبير باشا المثير للجدل، كما تناولت محاولات ما أسماه الباحث “تطويق الإسلام في جنوب السودان”، منذ الحكم الثنائي (البريطاني المصري)، والسياسات الاستعمارية في العهد البريطاني، و محاولات تصفية الوجود الإسلامي في الجنوب، وتناول حكومات ما بعد الاستقلال، و التحديات التي واجهتها.
أما الدكتور محمد عاشور فبعد أن قام بتقديم التعريفات العلمية للتعددية تناول بتوسع التعددية في جنوب السودان، عواملها و ملامحها، فجنوب السودان يزخر بالتعدد القبلي والديني بحسب دراسته التي استغرقت الكثير من مساحتها في دراسة التعدد الديني الذي يحفل به جنوب السودان، وتناولت ما حملته المجموعات الجنوبية من مطالب إبان تكوينها في السودان القديم ومبررات هذه المطالب وكيف غذّت هذه المطالب مبررات تاريخية، و كيف سند هذه المطالب ثقل سكاني وتركز إقليمي متميز، ساهم في منحها الفعالية المطلوبة لبلوغها نصاب النجاح.
أما عميد البحث العلمي بجامعة إفريقيا العالمية، الدكتور عبدالرحمن أحمد عثمان، فقدم دراسة عن التصوف في جنوب السودان، متحدثًا عن مراحل أربع مرّ بها التصوف في جنوب السودان، وشرحت دراسته علاقة هذه المراحل بالتحولات التاريخية، ورسمت خارطة الانتشار الجغرافي للمتصوفة ومنسوبي الطرق بمختلف مشاربهم، فتحدث عن انتشار الطريقة التيجانية في مناطق الجنوب وفسّر تغلغلها في أعماق الجنوب ، كما فسّر وجود الطريقة الأحمدية وبيّن ارتباطها بموظفي الري المصريين والسودانيين، وأرّخ للطريقة القادرية التي دخلت إلى واو في 1940، وكذلك الطريقة الختمية وعلاقة راعيها السيد علي الميرغني بخلفائه في الجنوب، وختم دراسته برؤيته أن الصوفية استفادت من الوجدان الشعبي واعتمدت على وسائل إيقاعية أقرب لنفس شعب الجنوب، ولم تعرض الإسلام لمجافاة لطبيعة الإنسان الجنوبي، بل وضعته كمسحة أخلاقية ونفس روحي يضفي على وجوده مزيدًا من الألفة، وهذا ما ساهم حسب رأيه في نجاحها، و اعتبر أن هذه الطرق قد تفقد دورها إن لم يعد الاهتمام بها.
أما الباحث والصحافي محمد الخليفة الصديق فتناول بالتفصيل وجود التيار السلفي في جنوب السودان، فبعد أن مرّ على تعريفات السلفية، ونشأة التيار السلفي في إفريقيا وانطلاقها من مصر إلى السودان، تناول جنوب السودان بجغرافيته و طبيعته البشرية، و التوزيع الديمغرافي لسكانه، وبعدها دلف إلى الحديث عن نشأة التيار السلفي في الجنوب وأرّخ له بأنه كان في بداية السبعينيات، و لم يوجد بصورة رسمية إلا بعد أن صادق عليه رئيس الوزراء الأسبق السيد الصادق المهدي في الثمانينيات من القرن الماضي، مرت الدعوة السلفية بانشقاقات وتصدعات كبيرة رصدتها ورقة خليفة، و تناولت أيضًا موقف التيار بأجنحته من الحياة والمجتمع إبان الحرب والسلام.
بينما تناول الباحث السوداني محمد أحمد إسماعيل “المجلس الإسلامي لجنوب السودان” في ظل وجود اتفاقية جديدة وضعت المسلمين في دولة علمانية، واحتمالية كونهم أقلية إذا استندوا على التقسيم الديني، تناولت الدراسة المؤسسات التي تُعنى بتمثيل المسلمين في الجنوب، سواء الهيئة الإسلامية لجنوب السودان أو غيرها مما ترعاه الخرطوم، أو تلك التي أقرّها الراحل الدكتور جون قرنق دي ما بيور منذ 1992، المتمثلة في المجلس الإسلامي للسودان الجديد الذي استمر إلى أن أقرّ الدستور الجديد في بدايته تحويل كل المؤسسات الدينية إلى منظمات المجتمع المدني ورفع الدولة يدها عنها، استمرّ الحال إلى أن دعت الضرورة إلى إعادة تشكيل المجلس في 2008 برعاية الحركة الشعبية وحكومة الجنوب، سجّلت الورقة الصراعات الداخلية التي رافقت هذا القرار وتداعياته المتمثلة في المنازعة على القيادة بين الطاهر بيور والمهندس محمود الحاج يوسف، ثم تناول المسلمين داخل الحركة الشعبية، والمؤتمر التأسيسي لمسلمي جنوب السودان، والتحديات التي أفرزها وناقشها.
الباحث والأكاديمي الجنوبي آدم سعيد كباوا سرد تاريخ جماعة المهمشين، وماهيتها، وأقدمية الإسلام في جنوب السودان، واعتبر أن جماعة المهمشين ظاهرةٌ مدينية بامتياز، تحدث عن وجود المسلمين الجنوبيين في المشهد السياسي في عهود الحكم منذ عهد الرئيس جعفر محمد النميري، راصدًا قيام الهيئات في ذلك الوقت واستغلال الإسلاميين للمصالحة لزرع أيادٍ في الجنوب وخلايا للحركة الإسلامية السودانية، انعكس ذلك بعد الانتفاضة التي أطاحت بالنميري إذ تكونت الجبهة الإسلامية التي تزعمها ووطدت نفوذها في الجنوب خاصة بعد وصول التيار الإسلامي إلى السلطة بعد انقلاب 30 يونيو 1989 العسكري، وتأثرت نواة الجنوبيين في الحركة وتذمرت من تهميشها إلى أن حدث الانشقاق بين جناحي الترابي والبشير، مما أضعف الولاء في صفوف التنظيم، و طفح الكيل بعد توقيع اتفاق السلام الشامل إذ اعتبر الإسلاميون الجنوبيون أنهم هُمشوا من قبل الجنوب والشمال فقادوا هذه الحركة التي حاول كباوا أن يعرف بها وبأفكارها ومستقبلها.
الدكتور سلام باب الله، وهو أحد السلاطين في جنوب السودان تناول المسلمين والحريات العامة في الجنوب، وحاول أولاً تأصيل الإسلام في الجنوب والعوامل العربية وغيرها، وشرح ارتباطات شعب جنوب السودان بجيرانه شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، خاصة التجار العرب، ومرّ على مرحلة الاستعمار وما أشعلته من بؤر الصراعات، مؤكدًا أن أسلافه اعتنقوا الإسلام عن قناعات تامة بالإسلام، مشيرًا إلى أن بعض سياسات “الاستعمار” مثل قانون المناطق المغلقة في عام 1922، و سياسات الإبعاد للمسلمين والتخلص من الهوية الإسلامية التي كان لها مردودات فصّلها الباحث في الدراسة بحسب ما قدَّره، كما تناولت الدراسة الحقوق والحريات العامة في جنوب السودان حاليًا، ووضع المسلمين والحريات العامة في جنوب السودان وحظهم من التعليم، وأشار إلى المطالبات حول قانون منصف للأحوال الشخصية والأوقاف في جنوب السودان، ومشكلاتها .
بينما تناول الأستاذ بجامعة جوبا الدكتور عمر الحاوي واقع الإسلام و ومستقبله وآفاقه في الجنوب، واستعرضت دراسته التكوين الثقافي والاجتماعي لكل من شمال وجنوب السودان، وأثرهما على الصورة الحالية (الاجتماعية والثقافية) للدولة السودانية، واحتوت دراسته أيضًا على الضروري من الخلفية التاريخية لدخول الإسلام إلى جنوب السودان وتفاعلاته، عبر فترات الحكم الوطني المختلفة وحتى الآن. كما وصفت الدراسة الواقع الحالي المعقد في جنوب السودان، بأبعاده السياسية والثقافية، وشكل ومستقبل الدولة الوليدة في الجنوب وتوجهاتها وانعكاسات ذلك على المسلمين هناك. وحاول توضيح مواطن القوة والضعف في النسيج المسلم في الجنوب، وحاول الحاوي استشراف مستقبل الإسلام في جنوب السودان على ضوء الهوية الثقافية للدولة الجديدة وتوجهاتها.
الوافدون الجدد إلى دولة جنوب السودان و احتمال تشكيلهم خلايا للقاعدة في دولة جنوب السودان، كانت القضية التي تناولتها دراسة الباحث وليد الطيب، فدولة الجنوب التي شهدت بعد توقيع اتفاق السلام الشامل في السودان في 2005 انفتاحًا اقتصاديًا تسبب في تدفق العمالة الإفريقية على الإقليم، تأتي في وسط منطقة تحيط بها دول تستأسد فيها القاعدة سواء في القرن الإفريقي أو دار السلام أو نيروبي أو غيرها من المناطق المجاورة، التي للقاعدة بها ما لها من تحالفات، تناول الطيب المُحفزات التي تجر الدولة الوليدة إلى العنف الإسلامي، فاستعداء القاعدة يكون بحسب الكاتب بإقامة علاقات مستفزة مع إسرائيل أو الغرب مثلاً، بشكل يجعل جمهورية جنوب السودان هدفًا للقاعدة –في تلك المرحلة- بوصف عملياتها محاولةً لتصفية الوجود الغربي، وحذّر الطيب من إمكانية استغلال القاعدة للمظالم المتصاعدة التي تتحدث عن وجود تمييز ديني يستهدف المسلمين، و ركّزت الدراسة على أن العلاقات مع إسرائيل قد تكون إحدى المحفزات لهذا العنف.
ولهذا العدد اختارت هيئة التحرير كتاب : تكامل السودان وتفتيته: نهضة إفريقية (Integration and Fragmentation of the Sudan: an african Renaissance ) لـ ماووت أكيج قورا، وهو كتاب جديد صادر في هذه السنة تناول انفصال السودان وبناء الدولة الجديدة، واعتبرها أملاً لنهضة إفريقية.
عرضنا في عدد الشهر الماضي – شهر مايو أيار 2011- أربع شهادات قًدمت أمام الكونجرس الأميركي في لجنة الاستخبارات، و وعدنا بترجمة الشهادة الخامسة لتصدر مع هذا العدد، وعليه فإن هذا العدد يتضمن ترجمة كاملة لشهادة لورينزو فيدينو مؤلف كتاب الإخوان المسلمون في الغرب الذي سيصدر عن مركز المسبار قريبًا، وقد أدلى لورينزو بشهادته أمام اللجنة فرعية بالكونجرس الأميركي، وحاول فيها توصيف الإخوان المسلمين في الغرب وأنجع سبل التعامل معهم.
دراسة العدد قدمها الخبير في الشأن الإيراني الدكتور نبيل العتوم، الذي رصد صورة الاحتجاجات العربية في صحف التيار المحافظ الإيرانية وركز على “حالة اليمن، البحرين، و سوريا”، موضحًا مواقف صحف التيار الإصلاحي والمحافظ من هذه الثورات أو الاحتجاجات.
ختامًا، نكون بهذا العدد قد قدمنا أول كتاب متخصص عن مسلمي جنوب السودان أو بالأصح عن مسلمي دولة جنوب السودان، ولسنا هنا في مقامٍ إرشادي لنقول إن سوء إدارة الأقليات و عدم التصالح مع تعدد الهويات والانتقاء في الرأي، هو ما أوصل السودان القديم بشماله وجنوبه إلى ما وصل إليه، ولكننا في مقام أمل، نتمنى فيه للدولة الجديدة أن تكون أنموذجًا جميلاً لدول القارة السمراء في التسامح و التعدد و المدنية.