تقديم
قدمنا لقرائنا خلال عام واحد ملفات عن المسلمين في جنوب أفريقيا، وفي أميركا، ودولة جنوب السودان، وهاهو كتابنا الثامن والخمسون في إصدار نادر بالعربية، يعرض الإسلام في المملكة الإسبانية، وجذوره الأندلسية، ومحنة بقايا الموريسكيين، وانبعاثهم من جديد.
توثق دراسات الكتاب التي كتبها إسبان غالبيتهم مسلمون، وفيهم من هم سلالة المؤمنين الأوائل محنة المسلمين بين نير الدولة الدّينية التي كانت وراء نفيهم في أواخر القرن الخامس عشر، ونعمة الدولة المدنية التي سمحت لإيمانهم بالتنفس والإعلان، يحكي هذا الإصدار حيرة مسلمي إسبانيا وشبابهم اليوم، بين أشواقهم نحو الحضارة الأندلسية، والحلم بمستقبل طامح والسعي للاندماج والتأقلم.
فاتحة دراسات العدد، للباحثة والمؤرخة الإسبانية البروفسورة أدا(أديبة) روميرو سانشيز، وتناولت فيها انسحاب الماضي على الحاضر، وتأثيره على حياة المسلمين في إسبانيا ومعاناتهم من تزوير تاريخهم. وقدمت الدراسة مرافعة عن تاريخ الإسلام وكاتبيه، وقصة تدوينه المنقسمة بين روايات العرب والروايات اللاتينية. كما وثّقت لتاريخ الموريسكيين، وتناولت قافلة المخطوطات الأندلسية التي كتبها الموريسكيون وخبأوها، ونقلوا الكثير منها معهم إلى شمال أفريقيا وبلاد السودان، ثم دلفت الباحثة إلى الواقع الحالي لمسلمي إسبانيا، منتقدة المناهج التعليمية التي تعرض التاريخ الإسلامي بشكل يبرر طرد الموريسكيين، مبرزة الضعف الأكاديمي للدراسات العربية، وندرة أقسام الدراسات العربية في الجامعات الإسبانية.
في مقالته حول الحوار الحضاري يعبر عبدالصمد أنطونيو روميرو رومان، أحد رموز المجتمع المسلم في إسبانيا،عن ما يعتلج في نفس ناشط برمزيته في المجتمع الإسباني، وتناولت مقالته التفاعل الثقافي، والعزلة والاندماج للمسلمين إضافة إلى التربية والتعليم الإسلامي ومستقبله في إسبانيا، كما دعا إلى أهمية الحوار وتعزيز التعايش، ومؤكداً على أن تنوع الثقافات والحضارات نعمة، وأن الوعي يحتّم استيعاب خصوصيات الحضارات، مشددًا على دور المجتمع المدني في مجابهة التهميش والظلم والعنف والتطرف.
الفنان التشكيلي الإسباني هاشم كابريرا، كشف لنا عن مظاهر إحياء الإسلام في إسبانيا ومسلمي الأندلس الجدد، مؤمناً بالدور المهم لمسلمي إسبانيا، متتبعاً مراحل مجتمعهم المتنامي، داخل سياق العولمة. تناولت الدراسة عودة الإسلام إلى إسبانيا بعد نظام فرانكو، و ركِّزت على أهمية “الذاكرة التاريخية” في إعادة طرح الإسلام في إسبانيا، مشيرًا إلى جهود جامعة ابن رشد الإسلامية العالمية بقرطبة ومديرها الراحل علي الكتاني، ودور المنظمات الإسلامية . وتناول كابريرا الخوف من الإسلام وكيفية تجاوز المسلمين لهذه العقبة، مشدداً على ضرورة تحديث فهم الإسلام توطبيقه ليتناسب مع الأجيال و الاتجاهات الجديدة.
تناول رئيس المجلس الإسلامي الكتالوني عبدالنور برادو في دراسته المطولة قضيتين هامتين، أولاهما الفكر الإسلامي الجديد في الأندلس في الوقت الحاضر، شارحاً خصوصيته وهواجس أصحابه، فالفكر الإسلامي الأندلسي الحديث -حسب برادو- هو مستقل ديمقراطيٌ ومناوئ للاستبداد، يرتكز على الإبداع، كما تناول أبرز روّاده وهو عبد الرحمن محمد معنان، وهو مسلم إسباني منحدر من أصول مغربية، مناويء لإسلام المؤسسات الذي يحول-في رأيه- الإسلام إلى دين رجعي متحجر. كما قدم لنا موجزاً لأفكار عبد المنعم آيا الجريئة، حيث كرس نفسه لـتنقية الإسلام من شوائب الديانات السابقة، والتفاسير اللاحقة التي شوهته، وثالث الأعلام هو إبراهيم كابريرا، الذي برع في التفسير وترجمة علوم الشريعة.
القضية الثانية التي درسها برادو مسألة الحقوق الدينية للمسلمين في إسبانيا، حيث مثّل دستور 1978 بداية لعصر الانفتاح، فعلمانية الدولة ضمنت عدم انتمائها لأي دين، مع اعترافها بالأديان عامة. في العام 1989 أعلن بأن الإسلام ضمن قائمة “الأديان الراسخة في المجتمع”، وشهد بدايات التعاون بين المسلمين و الدولة، وأشار الباحث إلى أن عدم تطبيق الحقوق الدينية يتمثل في صعوبة إنشاء المساجد، وفي إجراءات دفن الموتى وفقا للشريعة الإسلامية، متناولا حق تعليم الإسلام، و ندرة الأطعمة الحلال، وتلكؤ الحكومة في الإسراع بإنفاذ القوانين الضامنة للحقوق، مستغلة الانقسامات الداخلية للجماعات الإسلامية وخلافاتها ودخولها في منافسات إيديولوجية.
الشباب المسلمون في إسبانيا، موضوع ناديا أندوخار الباحثة الإسبانية المشرفة على قسم الثقافة والدين الإسلامي في جامعة كاميلوا خوسي ثيلا بمدريد. حيث يُشكل تعداد المسلمين ما بين المليون ونصف المليون مسلم في إسبانيا، والشباب يعيشون هويات متعددة في عهد العولمة، يتنازعهم الوطن والدين، وتذكر الباحثة بأن الأزمات الأوروبية والثورات العربية ولدت نموذجًا جديدًا في إسبانيا، يطالب بالديمقراطية الحقيقية. تناولت الباحثة ظاهرة الإسلامفوبيا وكونها بقايا خطاب قديم بممثلين جدد، وناقشت تفاعل الشباب معها، مستعرضة مشاركتهم في المجتمع والسياسة الإسبانية، وخلصت إلى أنّ الإسلام الإسباني، يحتاج إلى تعديل قواعده الأصولية، وتلمس طريقه الخاص به بين التيارات. إذ إنّ المجتمعات المسلمة الشابة تسير نحو الاندماج والتعايش البنّاء.
وحول الاستعراب وإسهامه في نشر الثقافة العربية والإسلامية في إسبانيا جاءت دراسة البروفيسورة باربارا بولويكس غالاردو، الأستاذة بقسم التاريخ بجامعة واشنطون في سانت لويس. ناقشت فيها خلاف علماء فقه اللغة وبعض المفكرين حول عمق التأثير الأندلسي على ثقافة ولغة وعلوم وهوية إسبانيا، متسائلة عن طبيعة الاستعراب، أهو استشراق داخلي، أم أنه مشابه للعبرنة الإسبانية ، مقدمةً نظرة تاريخية شاملة للاستعراب في القرنين العشرين والحادي والعشرين وأبرز المستعربين وأقسام الدراسات العربية والإسلامية بالجامعات الإسبانية والمراكز والهيئات والمجلات العلمية.
مانويل غوتييريث أونتيفيرو وهو باحث إسباني متخصص في الفلسفة، تناول موضوع تولد الصوفية ثانية في شبه الجزيرة الأيبيرية. مستشهدًا بآثار متصوفة مثل ابن مسرة في القرن التاسع، وفي القرن الحادي عشر بابن العارف و ابن باريان، وبنى على ذلك أن عودة التصوف ليست غريبة على التكوين الإسلامي الإسباني.في العصر الحاضر دُشنت العودة الصوفية في ثمانينات القرن الماضي بحركة المرابطين العالمية وشيخها عبد القادر المرابط الصوفي الدرقاوي، وفي التسعينات دخلت النقشبندية، ثم الطريقة التيجانية، فالحراجية، وغيرها وهو مابدا إحياء للتصوف بعد سنين من الغيبة.
المقارنة بين الإسلام في إسبانيا وأمريكا اللاتينية كان موضوع الباحث التشيلي قاسم فكتور سالاثار كابريرا، إذ شكلت الهجرة الموريسكية الأندلسية أحد أبرز الهجرات الإسلامية إليها، بالإضافة إلى هجرة إفريقيا الغربية، والشام والهند. تضمنت الدراسة عرضاً لتاريخ الهجرات، وعواملها، وآثارها، مع مقارنة بين نمطي الإسلام في إسبانيا وأمريكا اللاتينية سلوكا وممارسة وفهماً، في جولة مشوقة حول تاريخ بداية الإسلام، مع إشارة إلى نسبة انتشاره بين السكان الأصليين، والانتماءات السياسية والعقدية للمسلمين، ونظرة المجتمع للمهاجرين المسلمين، ومدى تمتعهم بالحقوق الدينية، وعلاقتهم بماضيهم، وتأثرهم بالثقافات الأخرى.
وقع الاختيار في هذا العدد على كتاب: الثقافة المورية في إسبانيا (MOORISH CULTURE IN SPAIN) تأليف تيتوس بيركخاردت (TITUS BURCKHARDT)، عرضه إيميليو ألزويتا (Emilio Alzueta)، وهي قراءة مطوّلة اختزلتها إشارة ألزويتا في نهاية عرضه الفاحص والناقد، من أنه “لقرون عديدة ظل الناس في العالم العربي ينظرون إلى الأندلس بحسبانها الفردوس المفقود، ولكن كانت هنالك أسباب مهمة أدت إلى عدم استمرار هذا الكنز، وأن الكتاب موضوع القراءة “الثقافة المورية في إسبانيا” يثبت الصراع الباطني والفقدان التدريجي للوحدة بين المسلمين والتدني والسقوط المتكرر في امتحان الطموح العالمي والإشراق الخالي من كل معنى مهما كان متحضراً أو متمدناً”.
أخذ العمل على هذه الدراسات عاماً كاملاً من المناقشة والاقتراحات والمتابعة وترشيح الباحثين المناسبين، و كان للبروفيسورة أدا روميرو النصيب الأكبر من كل هذا، فقد قامت بالإشراف والمراجعة والتحكيم لدراساته ، وكانت ثمرة الجهد المضني الذي بذلتْه -هي ومساعدها ا لباحث صهيب مولينا- مع فريق المسبار أن يرى هذا الكتاب النور.
ولملف العدد اخترنا لمشتركينا مقالتين إحداهما عن التهديد الناشيء للقاعدة في شبه جزيرة سيناء، والثانية للباحث التركي البروفيسور ألبر يلماز ديدي عن الانتفاضات العربية والنموذج التركي التي أشار فيها إلى أنه على عكس الناشطين الإسلاميين الذين يتزايد نفوذهم في المنطقة، يركز النموذج التركي على مزيدٍ من التواصل والتسامح المدني مع الإسلام بما يتماشى مع أهداف تختلف عن تأسيس إمارة إسلامية مبنية على الشريعة وممارسة الوصاية المعرفية على المجتمع بناءاً على المبادىء الإسلامية. فالإسلامية التركية حسب ألبر يلماز شاملة وتركز على جميع قطاعات المجتمع عبر نشاط أفرادها الذين يبحثون عن أسلمة بيئاتهم بالنشاط والتماسك الذي يتمثل في تشكيل شبكات اجتماعية والتركيز على التعليم الديني والعلماني وروح المبادرة واستخدام الإعلام وكل هذا في إطار العمل ضمن إطارات القوانين الديمقراطية.
و تكشف لنا دراسة العدد لمحمد أبو الرُب أستاذ الإعلام بجامعة بير زيت في فلسطين، عن وجود علاقة طردية بين انتشار تقنيات المجتمع الصناعي وما تحمله من أشكال ثقافية تقنية وبين علمنة المجتمعات؛ فكلما أوغلت المجتمعات في تسليع مخرجات التقنية، كلما انحصر دور الدين وتعلمنت هذه المجتمعات أكثر. وأن ثورة التقنية أحدثت تعارضا مع التعود التاريخي الطقسي في علاقة الداعية بالدين، وميل الداعية التقليدي للزهد، في مقابل ” تديين السوق، وتسليع الدين” كما هو سائد في عصر التقنية. وهو مادفع رجال الدين و الدعاة لتشجيع الناس للتعامل مع الاستثمارات الإسلامية على حساب غير الإسلامية.
رئيس المركز