تقديم
مثّلت ثورة الياسمين 2011 حدثًا غيّر وجه الخارطة السياسيّة في تونس والشمال الإفريقي والشرق الأوسط بأسره، فسرعان ما انبجست عنها ثورات أخرى في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وتوّلدت على إثرها في تونس مساحات مُغيّبة من الصراع السياسي المخبوء، وحازت تونس أيضًا قصب السبق في ابتداء دوران عجلة التحوّل الديموقراطي، فشهد الشهر الماضي أكتوبر (تشرين الأول) 2011، أوّل انتخابات تشريعيّة بمشاركة التيارات السياسية التونسية الفاعلة، انتهت بخارطة جديدة لثقل التيّارات السياسية، وبدأت التحليلات المثيرة حولها، ورُصدت التغيرات الفكريّة بها.
من خلال جزئين نشرح الخارطة الجديدة التونسية، منذ ثورة الياسمين إلى ما بعد إفرازات الانتخابات التونسية الأخيرة. ويغطي كتاب المسبار التاسع والخمسون، لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، الجزء الأول.
قدّم للكتاب المفكر التونسي محمد الحداد وهو أستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة، وعضو هيئة تحرير كتاب المسبار الشهري. يتساءل الحداد كيف سيصنّف يوم 14 يناير 2011 في التاريخ التونسي المعاصر؟ هل سيعتبر الموعد التاريخي لبداية مسار ديمقراطي في تونس ثم في كل العالم العربي؟ أم سيكون فاتحة استيلاء الإسلاميين على الحكم في تونس بطريقة ليّنة ومتدرجة؟ أم سيتضح أنه كان بداية المرحلة الثانية من مخطط إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير وتطبيق نظرية “الفوضى الخلاّقة” بعد انتقال المشروع الأمريكي من شكله الحربي في عهد بوش الابن إلى شكل ناعم في عهد أوباما؟
فاتحة دراسات العدد لعبدالحكيم أبو اللوز، عرض فيها للأساس التوثيقي والتاريخي الراصد لحركة النهضة التونسيّة من تأسيسها إلى ثورة الياسمين 2011. وحاول أبو اللوز أن يُبرز خصوصية حركة النهضة، التي يراها مختلفة عن الحركات الإسلاميّة الأخرى، مؤسساً نظرته هذه على خصوصيّة البيئة التونسية التي أنتجت الحركة، وخصوصيّة الظرف التاريخي الذي خرجت فيه الحركة واختلاف فكر زعيمها. وفصّلت الدراسة دور راشد الغنوشي ومرجعياته المتعددة؛ في صياغة فكر الإسلام السياسي التونسي، كما وثقت لمراحل تاريخيّة مهمة شكلت علاقة النهضة بالسلطة وبالفكر. ويرى الكاتب أن فترة القطيعة التي أرغمت الحركة على البقاء خارج تونس فتحت مجالاً للنظر في الفكر، حيث استطاع الغنوشي في رؤيته الجديدة إعادة بناء مفهوم السياسة، وتحديد أنماط الشرعية، لتحقيق سبق في مجتمع ما بعد الثورة.
حركة النهضة بعد الثورة، تناولها صلاح المطيراوي، الذي تساءل إن كانت حركة النهضة التي ظهرت بثياب مدنية، بصدد تغيّر حقيقي ونهائي، أم أن ذلك لايعدو أن يكون مجرّد تغيير شكلي أملته ظروف سياسية خاصة. أجرى الكاتب مقارنة بين البيان التأسيسي الأول 1981 والبيان التأسيسي الثاني2011، كاشفًا غموض الأخير الذي غيّب هوية الحركة، واعتمد على مضامين حديثة وحداثية تبدو كأنها تعلن القطع مع تراث الحركة القديم. ويرى المطيراوي أن الساحة السياسية اليوم إمّا أن تُفضي إلى قيام النهضة بـ”معجزة” إصلاحات جذرية عميقة داخليا وخارجيا، وبذلك قد تنجح في تحقيق “اختراق” سياسي مهم، وإما أن تُفرِز طرفا جديدا ينقذ البلاد، وحينئذ فقط يصحّ القول إن تونس أقامت ثورة؟
ولكن كيف تعامل الشارع التونسي، مع الخطاب العام للحركة، وكيف كانت رؤيته لها، ولماذا أقبل عليها؟ هذا ما كشفته الباحثة منيرة زرقي في دراسة ميدانيّة إحصائية، واستبيانات في عيّنة تم اختيارها بشكل عشوائي، مثلت 200 فرد، ناقشت تجليات تعاطي الرأي العام التونسي مع حركة النهضة، فتبين أن 52% يعتقدون أن صورة حركة النهضة إيجابية، في حين يرى 33,5 % أنها ازدواجية وأبدو عدم اطمئنانهم لفحوى خطابها. بينما يعتقد 9,5% أن الصورة الإعلامية مشوهة عمدًا، فيما يعتقد 5% أن هناك تلميعا لصورة الحركة. في حين يعتقد 44% أن حركة النهضة تتسق نضالاتها مع باقي أطياف المعارضة وأن انخراطها في النضال جاء متأخرا سياسيا بالمقارنة مع اليسار، وحول مظاهر توجس الرأي العام التونسي من النهضة أبدا 35 % توجسهم، بينا ذهب الـ 65% المتبقون إلى أنهم مطمئنون لخطاب النهضة المعتدل.
حاول كمال الحوكي، وهو عضو سابق بحركة النهضة، وسجين سياسي سابق، تحديد توجّهات حركة النهضة، ملمحًا إلى أنّ خطاب النهضة، في 2011 اختلف عن خطابها في 1981، فيلاحظ غموضا في بيان 2011، واختلافات جوهريّة، في استعمال كلمات مثل (الشورى) التي استبدلت بالديموقراطية في بيان 2011. خلص الحوكي إلى أن خطاب النهضة انتهازي ونفعيّ أوقعها في ازدواجيّة في مواجهة التحدّي الخارجي، وانتهى الباحث إلى أن الخطاب الإسلاموي تهرّب من مواجهة تحديات ستتجاذبه مستقبلا، وسيقع في محاذيرها مالم يتحلَ بالشجاعة والوضوح.
أعلية علاني، الأستاذ بجامعة منوبة التونسية، تناول في دراسته الخارطة السياسية الجديدة ومستقبل التحالفات في تونس، وموقف الإسلام السياسي منها. شارحاً أن انتقال الإسلاميين التونسيين من الاضطهاد إلى المشاركة السياسية بعد الثورة التونسيّة أوجد واقعًا جديدًا. قدّمت الدراسة رسما لخريطة التحالفات الجديدة، وملاحظات واستنتاجات تفسيرية حول علاقة حركة النهضة بالغرب، وتأثير تداعيات الثورات العربية على المشهد التونسي، ملمحًا إلى وجود إصرار أمريكي على دخول الإسلاميين المعتدلين إلى السلطة.
ويرى الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للحضارة بتونس مرشد القبي في دراسته أن المنظومة التي يتحرّك فيها راشد الغنوشي ونظراؤه في الفكر الإسلامي المعاصر تفرض على خطابهم مرونة وتدفع أفكارهم ومواقفهم إلى ضروب من التذبذب بل والتناقض أحيانا يظهر عند المعتدلين والمتشدّدين على السّواء. مستبعداً إمكانية التوافق مع موقف سلفيّ شديد التحوّط من الوافد من بلاد الكفر حريص على نقاء الإسلام ونظامه والتّغاضي في الوقت ذاته عمّا وفّرته الحياة الديمقراطية في الغرب من نعيم الحريّة والأمن على السلامة الشخصيّة التي استفاد منها الإسلاميون في منافيهم وافتقدوها في البلاد المسلمة.
ويرى القبي أن من دواعي الحكمة العمل على حصر الدّائرة الزئبقيّة التي تتحرّك فيها النهضة، وذلك بالتكثيف من الجوازم القانونية التي تفرض على ممثّلي النهضة وعلى الإسلاميين عامة التزامات لا تقبل النّقض في أيّ مشروع للتّوافق السياسي على إطلاق مسار الانتقال الديمقراطي وبناء قواعده.
الباحث التونسي أنس الطريقي تناول الصحوة الإسلاميّة بين مطلب الدولة المدنيّة وقيد الدولة الدينيّة. يرى الكاتب أنّ تمسّك الغنّوشي كبقيّة الصحويّين بالخلفيّة التوحيديّة المشتركة بين أجيال الإسلام السياسيّ -وهي الخلفيّة المتضمّنة في مفهوم الحاكميّة قانونا كونيّا عامّا يقف مانعا لهذا الفكر من تحقيق أيّ نجاح على سبيل التأسيس الدينيّ للسياسة المدنيّة. دعا الكاتب مفكّري الإسلام الجدد لمراجعة المسلمات العقائدية كي يفجّروا في الإسلام كلّ الطاقة التحرّريّة التي جاء من أجلها بوصفه ديانة توحيديّة.
كان لإشراف ومتابعة البروفيسور محمد الحداد الفضل الأكبر في خروج هذا الإصدار إلى النور. وماتجدونه بين دفتي الكتاب هو ثمرة ستة شهور من العمل المتواصل مع الباحثين ومراجعة الدراسات وإكمال النواقص وتحديث المقالات بعد كل تطور.وكان للحداد الفضل في قيادة فريقنا في كل مراحل هذا المشروع بجزئيه.
قرأ لنا الباحث الأردني محمد العواودة كتاب “التحولات والثورات الشعبية في العالم العربي الدلالات الواقعية والآفاق المستقبلية”، والكتاب لمجموعة باحثين تناول الثورات الشعبية العربية، ودوافعها، وأمالها وتطلعاتها، ودروسها، والكتاب مساهمة مبكرة في تحليل ظاهرة الثورات العربية.
أثناء الإعداد لهذا الكتاب ألمت بفريق المسبار مشاعر الأسى لرحيل زميل صحب مسيرتنا منذ الأعداد الأولى. فقد كان رحيل حسام تمام في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بعد إصابته بالمرض فقداً كبيراً، لأنه فارقنا في ذروة عطائه واكتمال شبابه. وكان الراحل قد خص المسبار بأربع دراسات، أرسلها في أيامه الأخيرة بعد اشتداد المرض في 19 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قبل أسبوع واحد من وفاته. وسوف نوالي نشر دراساته الأربع تباعاً ابتداء من هذا العدد، ليس تكريماً له زميلاً وأخاً ووفاء لذكراه فحسب، وإنما لكونه باحثاً امتاز طوال العقد الماضي برؤية ثاقبة موشاة بالعمل الدؤوب والنظرة الناقدة.
في دراسة هذا العدد يبين حسام تمام أنه لأكثر من خمسة عشر عاما مضت، لم تشهد جماعة الإخوان المسلمين انشقاقات أو خروجات تنظيمية مؤثرة، بل كانت أقرب لتسربات أو خروجات أخذت الطابع الفردي قام بها في الأغلب رموز من جيل الوسط أو الجيل التالي له، مشيراً في دراسته إلى أنه حين يدخل الفرد الإخواني مجتمع الجماعة لا يعود لديه القدرة أو حتى الرغبة في الخروج من الجماعة، وإذا فعلها يكون خروجه كمن يخرج من جلده، فلا يخرج غالبا إلا بقطيعة وصدام عنيف بقدر العنف الذي يولده إحساس الإنسان بالرفض للمجتمع الذي نشأ به، وهو رفض لابد أن يكون متبادلاً.
في ملف العدد اخترنا لمشتركيا ثلاث مقالات مترجمة، أولها لآرون زيلين الباحث المشارك في جامعة برانديز، عن صعود السلفيين في تونس بعد سقوط بن علي، معتبرًا أن الثورات العربية أعلنت نظريًا تهميش الأيديولوجية الجهادية، راصداً صعود جماعة أنصار الشريعة، السلفية، وتناول أحدث نشاطاتها.
المقالة الثانية لروبرت وورث “المثقفون العرب الذين لم يزأروا”، عن دور المثقفين العرب في الأحداث التي تشهدها المنطقة، ، مشيرًا إلى أن الانتفاضة العربيّة لم تسفر عن أي مشروع ثقافي ، ومنتقداً المقارنة بين التجربة الإسلامية التركية، ومستقبل التجربة الإسلاموية العربية.
المقالة الثالثة لأستاذ التاريخ الأوروبي الحديث في جامعة بنسلفانيا، جوناثان ستاينبرج، حيث قدّم سياحة تاريخيّة لاستقاء الدروس من الثورات الأوروبيّة في العام 1848موضحاً أنّ الإطاحة بالنظام القديم أسهل من بناء نظام جديد، وأن الصراعات في العالم العربي، بين الحكام الجدد وبقايا النظام القديم، تتزامن ودعوة الثوار إلى “الديمقراطية” و”الحرية”، في الوقت الذي لا أحد يعرف بالتحديد ماذا قد تعني هذه المصطلحات لمجتمعاتٍ لاخبرة لديها كافية في حقوق الإنسان والدستور والمساواة. ويرى ستاينبرج أن النهايات السعيدة تبدو غير قابلة للتصديق.
رئيس المركز