يؤكد التاريخ دائما أن الحرب تبدأ في العقول كما يبدأ فيها السلام، هذا الاستنتاج الذي اتخذته منظمة اليونسكو شعارا لها، منذ إنشائها في نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1945، لا زال يثبت جدارته وصحته مع مرور الأيام.
لذا تشرف مركز المسبار للدراسات والبحوث أن يقدم عدده الخامس حول “السلفية الجهادية” التي تمثل المرجعية الفكرية للحركات الجهادية العالمية، سواء كانت “القاعدة” أو من التحق بها أو ارتبط معها من جماعات أخرى، والتي لا زالت بحاجة لكثير من القراءة والتحليل العلمي الرصين، الذي يكشف عن بناها المعرفية، وتأويلاتها الفقهية والسياسية، التي تنغلق عليها وتؤمن بها.
كما سعى العدد من خلال دراساته المختلفة لقراءة مراحل السلفية الجهادية المختلفة، منذ انطلاقها من أفكار الحاكمية لدى سيد قطب والمودودي، إلى محاولات دمجها بأصول الدين والعقيدة وفق التصور الوهابي والسلفي، وكذلك تطوراتها الحركية منذ بداية بروزها عقب حرب الخليج الثانية عام 1990 إلى حرب العراق سنة 2003.
إن الحرب على الإرهاب ليست حربا أمنية فقط، ولكنها حرب فكرية بشكل ما في المقام الأول، فإيدولوجيا الإرهاب ليست فقط خطباً وبيانات قيادات القاعدة عند حوادث القتل العدمي هنا أو هناك، لكنها خطاب يقف وراء كل ذلك، أذكته نار الكراهية للآخرين المخالفين، وولع شديد بتكفير المسلمين، وتقسيم العالم إلى فسطاطين، يكونون هم وحدهم في أحدهما من الناجين، وما خلاهم في الآخر هالكين.
حرصنا في تناول هذه القضية المهمة لإيدولوجيا الحركات الجهادية أن تتنوع المقاربات والاجتهادات في قراءتها، فكتب الباحث الأستاذ مروان شحاده حول تأصيل السلفية الجهادية من سيد قطب حتى أبي محمد المقدسي وأبرز رموزها ومنظريها وأهم أفكارهم واتجاهاتهم.
وحول موقف السلفية الجهادية من الجماعات الاسلامية الأخرى، كتب الأستاذ إبراهيم المدو مؤكداً على نهجها الأحادي والاتهامي لغيرها من هذه الحركات، فيما كتب الأستاذ حسن أبوهنيه تحت عنوان “دار الإسلام والنظام الدولي في فكر السلفية الجهادية المعاصرة”، قارئا لتطور مفهوم دار الإسلام في مواجهة دار الحرب في فكر هذه الجماعة، سواء في أسانيدها القديمة، التي يرى أحدها أن شرط دار الإسلام أن يكون إمامها مسلما وإن لم يكن بها مسلمون! أم تلك التي رآها المودودي في قرية صغيرة وقفها صاحبها لله، وهاجر إليها هو نفسه سنة 1937 مسميا إياها دار الإسلام؛ وهي لا شك عند من قالوا بالفسطاطين عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تكن سوى جبال أفغانستان، وما خلاها من العالم كان دار حرب ولا زالت كذلك.
وكتب طاهر الشرقاوي حول شخصية أبي محمد المقدسي، وكيف تجتمع عند منظر السلفية الجهادية الأشهر الآن، ثنائية المقدس والعنف، وهو يكشف من خلال قراءة مسار الرجل وسيرته ومؤلفاته، كيف كان تأليفه لأغلب كتبه في السجن، فأتت كتبه ساجنة للاخرين دائما في سجن التكفير، أو على الأقل الاتهام في دينهم، وكيف تمثل الوحدة والانعزال والذاتية المفرطة السمة الأبرز في خطابه، كما كانت عند غيره من قيادات السلفية الجهادية، حيث تولى أيمن الظواهري المصري مثلا إمارة أول جماعة جهادية، ولم يتجاوز عمره بعد الخمسة عشر عاما.
ويقرأ أحمد حسني واحدا من أهم كتب أبي محمد المقدسي وهو كتابه “إمتاع النظرفي كشف شبهات مرجئة العصر” والذي خصصه للدفاع عن تكفير المتعين، فهو كتاب في الجنوح للتكفير وعدم التوقف عنه خاصة في وجه الأنظمة والمخالفين.
ويضم العدد أيضا قراءة أخرى لهاني نسيره: ميثاق الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر، التي غيرت اسمها مؤخرا إلى القاعدة في بلاد المغرب العربي، والتي تعد التنظيم القتالي الأبرز في الجزائر الآن، كاشفا عن خطابها وأسسها النظرية ومناهجها في فهم الدين والدولة، ومواقفها من مخالفيها سواء على المستوى السياسي أو الديني، وفق منهج إقصائي تلفه من بعيد دعوة معطلة وادعاء مشلول بالحرص على وحدة المسلمين.
ثم تأتي قراءة الباحث الفرنسي توماس هيغهامر “الحركة الجهادية العالمية بعد حرب العراق” والتي تنطلق من سؤال رئيسي هو كيف أثر غزو العراق على أيدولوجية الحركة الجهادية العالمية؟ وقد قسم الباحث دراسته لثلاثة محاور رئيسية هي: أهمية العراق لما يسمى بالجهاديين العالميين، وثانيا نظراتهم المختلفة تجاه هذا الصراع، وثالثا كيف تغيرت نظرتهم للعدو بعد الغزو متعدد الجنسيات للعراق، وهو يقرأ في هذا السياق المصادر الأساسية لهذه الحركة من عام 2000 حتى التاريخ المعاصر للكشف عن تحولات هذا الخطاب وانعطافاته.
ويضم العدد في خاتمته قائمة ببليوجرافية بآخر الإصدارات الأجنبية حول السلفية الجهادية التي كتبت باللغة الإنجليزية.
أما دراسة العدد للباحث اللبناني الدكتور أحمد الأمين فتتناول موضوعا بالغ الأهمية، وهو التحول الديمقراطي في العالم العربي، وجاءت تحت عنوان “مقدمات للتحول الديمقراطي عربيا”، قرأ فيها تطور مفهوم المجتمع المدني عالميا وعربيا، كشرط أولى لتحقق الديمقراطية في هذه المنطقة من العالم.
أخيرا ومع إدراكنا أن موضوع “السلفية الجهادية” لا يفيه عدد واحد من كتاب المسبار، فإننا نرجو أن تسد الدراسات الواردة به بعض النقص في المكتبة العربية حوله، آملين أن نجلو جوانب أخرى من هذا التيار وغيره في أعدادنا المقبلة.