تقديم
أصدر مركز المسبار للدراسات والبحوث عن الحركات الإسلامية الجهادية والسياسية في المغرب العربي أربعة كتب تناولت وجود الإسلام السّياسي في الجزائر والمغرب؛ وقد وظفت الدّولتان التّدين الشَّعبي لتُحدِثا توازنًا في المزاج الديني، وتقوّما الاعوجاج الذي سببه تسيس الدين وتكافحا التطرّف، فبرزت أسئلة علاقة التصوف بالحداثة والتحديث والمدنية، وضوابط الحضور السياسي للدين، والتّعامل مع الإسلام السياسي، كما أثيرت أسئلة أخرى عن علاقة المُتصوّفة بالسُّلطة، والدّولة الوطنيّة ، دفع إلى ذلك الاحتياج السّياسي بالإضافة إلى كون التصوّف المكوّن الشّعبي الأبرز للإسلام في المغرب العربي، هذا ما عالجه في كتابنا لشهر أبريل (نيسان) باحثونا الذين انتخبناهم من علماء الاجتماع والسياسة في المغرب العربي وإيطاليا.
فاتحة دراسات العدد كانت عن الزاوية الشرقاوية وأثرها الاجتماعي، في بحث تناوله الدكتور عبد الهادي أعراب الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الجديدة- فعرّف بالزاوية والزوايا منذ القرن السادس عشر، ذاكرًا دورها العلمي والجهادي والديني وشيوخها الذين توالو على رعايتها، اشتهرت الزوايا بالنشاط التدريسي العلمي وتوسعت في المجال الاجتماعي حتى حظيت بنفوذ عالي، نتج عنه توسع على مستوى المحيط القبلي والجغرافي، وكان دورها الاجتماعي الحيوي يتمثّل في الإيواء والإطعام والتمريض بالإضافة إلى أدوار اقتصادية، لم تقتصر الدراسة على الآثار الماضيّة بل تناولت الأوضاع الحاضرة، يذكر الباحث أن الزاوية مرّت بنكبات نتيجة لارتباك علاقتها «بالمخزن» أو السلطان، تناولت الدراسة «إيديولوجية الزوايا» بوصفها دعامة دينية طبعها التصوف كمرتكز ديني اجتماعي، لذلك لم تخل من صراعٍ على النفوذ الرمزي المتمثل في الصلاح، اجتهدت الزوايا في تزويد طالبيها بالطعام وتقديم الثقافة المناسبة لهم، إلا أنّ الأوضاع الاقتصادية أثرت على نسقها الثقافي والإيديولوجي، بحكم الظروف الراهنة.
قريبًا من الزاوية الشرقاوية، كانت دراسة مؤسسة الزوايا بين الروحي والسياسي التي تناولت الزاوية الشرادية، وتناولها أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة ابن طفيل عبد الرحيم العطري. فبعد الحديث عن الزوايا والحاجة إليها، انتقل إلى الدور السياسي، الذي تلعبه الزوايا، فالقبائل احتمت بالزوايا من بأس المخزن في القرن التاسع عشر مثلاً، لذلك وصلت العلاقة بين المخزن و الزوايا إلى إلى تخاصم وصدام، ويضرب مثالاً بالطريقة الشرادقية، وحربها القديمة مع المخزن في عهد «الرحامنة»، فقد عرفت نهاية القرن التاسع عشر حضوراً نوعياً للزوايا داخل المجتمع، والزاوية الشرادية استمدت وجودها من «دينامية» دينية وتاريخية وشعبية، تنبني على التعدد والتمازج، وترتكز بدرجة أعلى على «المعتقد» بوصفه مؤسساً ناظماً لأبنيته وعلاقاته وتفاعلاته.
لدراسة البعد الاجتماعي، وتأثير التصوّف على الهجرات، كانت دراسة الإشعاع الإفريقي للتصوف المغربي: زاوية سيدي العربي بالرباط نموذجا، للباحثة الإيطالية نازارينا لنزا، جاءت الدراسة نتيجة لبحث إثنوغرافي قضت فيه الباحثة أشهرًا، لتصل للفرضية التالية: يلعب شيخ زاوية سيدي العربي بن السايح بالرباط- وكذا عدد مهم من السينيغاليين الذين ينظمون الزيارة إلى المغرب، بصفة منظمة أو عفوية- دوراً حاسماً في تحول هذا المكان التعبدي الثانوي إلى مرحلة أساسية في الطريق إلى زيارة مقر الطريقة التيجانية بمدينة فاس. زيارة السينغاليين للزاوية الموجودة بمدينة الرباط، تساهم كذلك في استمرار الروابط والتنقلات ذات الصبغة الدينية، وذات القيمة المضافة من الناحية السياسية بين المغرب والسينغال الذين تجمعهم علاقات سياسية منذ قرون. فقدمت لذلك مقاربة سوسيو- تاريخية، بين البلدين، للإسلام والتيجانية، ولزاوية سيدي العربي بن السايح في المغرب ولدائرة المطاحن الكبرى بدكار وغيرها من المؤسسات التي تنظم الزيارات إلى الزاوية.
على المستوى السياسي يأتي حضور التجربة المغربية في توظيف التصوف في مواجهة الإرهاب والتطرف، اخترنا لتناولها الباحث في الإسلام السياسي والصحافي المغربي منتصر حمادة الذي يعتبر ورقة «التصوف» إحدى أهم الأوراق التي برزت في الحرب المغربية ضد التطرف، لكتنه يتخوّف أن يكون هذا التوظيف نوعا من أنواع الصراع على الإسلام، فالتدين المغربي عبر التاريخ كان لصيقا بالتدين التقليدي الطرقي الصوفي، على عكس الحركات الجهادية والإيديولوجية، تناولت الدراسة هذا التوظيف، وقدمت نقدًا سياسيًا له، خاصة وقد امتد التوظيف إلى باحثين أكاديميين وفعاليات سياسية حزبية، ويتناول الباحث أهم أعطاب هذا التوظيف، الذي يميع صورة التصوف ويختزله في طرق صوفية محددة.
عودة الصوفية إلى الحياة السياسية في الجزائر، تناولتها أمل بوبكير، أستاذة العلوم السياسية بمعهد كارنيجي، فالطرق الصوفية تعرضت للتهميش لفترات طويلة منذ ستينيات القرن العشرين. تناولت الباحثة تجربة الزوايا الجزائرية في مواجهة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وقد اتخذت الطرق الصوفية مواقف سياسية داعمة لصلاحيات بوتفليقة فوق الرئاسية، ففتحت قناة جديدة للوجود السياسي، ولاقت الزوايا ترحيبا، واعتمد الرئيس بوتفليقة بشكل كبير على الأصول الروحية الصوفية، وتقدم الزوايا نفسها على أنها من المجتمع المدني، ولكن بوبكير تقول إن تقييم نجاحها في ذلك صعب، لظهور مشاكل تنظيمية في داخل الطرق، إلا أن التوجه بشكل عام يكشف أن بحثاً عن إسلام معتدل يخالف السياسة، فالأنظمة قامت بدعم الجماعات الإسلامية في الماضي كقوى موازنة للحركات والتوجهات العلمانية واليسارية في 1970، وندمت على ذلك.
أما العلاقة بين التصوف والحداثة فتناولها الدكتور جمال فزة، الكاتب والباحث في علم الاجتماع والتصوف، وحاول في دراسته إلقاء الضوء على مختلف الجوانب التي تثيرها علاقة التصوف بالحداثة، عالج الجزء الأول من مقالته القضايا الفلسفية المحضة وبيّن ما يندرج في إطار الفلسفة الاجتماعية وعلم الاجتماع السياسي، وطرح الآراء التي تضع النزعة الصوفية في الغرب في إطار مواجهة العدمية، وفي الشرق المسلم تضعه في إطار مواجهة توظيف الدين لخدمة مصالح السلطان. يجيب فزة عن قدرة التصوف على خلق فلسفة جديدة للتحرر وينظّر لذلك. وفي تناوله للتصوف والمجتمع يدرس الباحث الالتقاء الممكن بين الحداثيين والمتصوفة، ولكنه يحذر من كون بعض الطرقية هي التفاف على القيمة التحررية للتصوف.
الدكتور الطيب غماري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة معسكر، تناول الحالة الجزائرية التي تختبر التصوف والحداثة، فاستعرض التأريخ للنهضة في العالم الإسلامي بدءاً من مطلع القرن التاسع عشر، والتفاعلات التي تمت بين التصوف والحداثة في الجزائر من خلال عدد من المحطات المفصلية في تاريخ الجزائر الحديث؛ منذ تجربة الصوفية للأمير عبد القادر الجزائري، وانتهاء بالاندماج الأخير، مستذكرًا استراتيجيات التيار الصوفي للتجاوب مع الحداثة بعد انتهاء المقاومة، تناول الباحث علاقة التيار الصوفي مع الدولة الوطنية باعتبارها مظهرا من مظاهر الحداثة، وغطى وضعية التيار الصوفي في ظل أزمة الدولة الوطنية الحديثة. وتناول علاقة التيار الصوفي بالهوية المدنية والهوية الدينية، وختم بعلاقة التيار الصوفي بمسألة المرأة.
عبد الحكيم أبواللوز، الأستاذ المختص في دراسة الحالة السلفيّة في المغرب العربي، تناول في مقالة طريفة العداء المذهبي الذي تكنه السلفيّة للصوفية، ومظاهره. والنزعة العدائيّة لدى السلفيّة تثيرها هالة القداسة التي يظهر بها المتصوفة، وتحررهم عن القراءة السلفية للنصوص، فيعدد تفاسير السلفية والتفاسير الأخرى ومنها الصوفيّة مبيّنًا الفوارق، مشيرًا إلى أنّ السلفيّة يعدّون بعض كتب الصوفيّة كتبًا ليست من الإسلام.
كتابنا لهذا العدد هو شوق، من إصدارات دار مدارك للنشر، للمؤلفة التونسية أولفة يوسف، يقرأه لنا الدكتور رشيد الخيون عضو هيئة التحرير في المركز، قدّمت فيه قراءة لروح العبادات، وتأملات جديدة، أقرب إلى الروح الصوفية.
عقد الكونجرس الأمريكي، جلسة استماع لتقييم الأوضاع في مصر بعد انقضاء عام منذ ثورة 25 يناير(كانون الثاني)، تناولت أزمة الحكم، وصعود التيارات الإسلاميّة، وتملصها من وعودها، وتضمنت رأي الخبراء في مستقبل العلاقات الأمريكية المصرية، ومدى التأثير عليها، في ظل حكم التيارات الإسلامية، وتناولت ملف المعونة الأمريكية التي تتلقاها مصر، وأزمة المنظمات المدنية التي عايشتها مصر، وأثرت على علاقتها، نقوم بعرض ترجمة لشهادتين من الشهادات المعروضة في هذا العدد.
دراسة العدد لأستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود سابقاً سعد الصويان، بعنوان(الرواسب الوثنية في الثقافة الشعبية) وقد تتبع فيها الكثير من ثيمات السرد الشعبي التي يعتقد الكثيرون أنها من أخص خصوصيات الثقافة الشعبية في الجزيرة العربية، لكننا لو تعمقنا في البحث لوجدنا ما يماثلها ليس فقط في العصر الجاهلي بل حتى عند قدماء الإغريق وعند الشعوب السامية القديمة، ويدعو الصويان إلى أن علينا أن نعنى بدراسة ثقافة صحراء الجزيرة في الحقب المتأخرة من أجل إضاءة جوانب لا زالت تخفانا في الحقبة الجاهلية، لافتاً إلى أن الجزيرة العربية هي الموطن الأصلي الذي تفرقت منه الشعوب السامية، وأن قبائل البدو العربية تمثل النموذج الأولي لحياة الساميين القدماء، لذا فهي تحتل مكانا بارزا في الدراسات التاريخية والإثنوغرافية المقارنة التي تتعلق بعادات الساميين ودياناتهم وثقافتهم المشتركة.
نسق هذا العدد وأشرف على إخراج دراساته والتواصل مع الباحثيين الزميل عبدالحكيم أبو اللوز، وقد بذل جهداً كبيراً لتحقيق ذلك، فله الشكر والتقدير من فريق المسبار.
رئـيـس المـركـز