تقديم
مثّلت بلاد الشام عبر التاريخ الإسلامي ينبوعًا من ينابيع التصوّف ومحطًا لأكابره وأقطابه. يدرس هذا الكتاب تاريخ التصوف ورجاله في سورية والأردن وفلسطين ولبنان، ويتتبع أطوار التفاعل الشَّعبي معه، ولا يُنسَج الكتاب من التاريخ وحده؛ بل يَمزِج الحاضر وألوان تقلباته وصوره وتحدياته وقضاياه.
مستكشفاً علاقة الصوفيّة بالسُّلطة السياسية، وتأثيرهاالشَّعبي، والموقف من حركات الإسلام السِّياسي والجماعات الإسلاميّة الأخرى، كما يستكنه المستقبل، الذي تحرّكه التوتّرات الشعبيّة الحاضرة، ويلج بذلك لسوح جديدة ويطرق باباً يهابه الآخرون، ويستكمل دراسة الجماعات الإسلاميّة والحركات والتدين الشعبي.
يعتبر الدكتور أمين يوسف عودة الأستاذ المشارك، في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة آل البيت الأردنية، في دراسته «التصوف في بلاد الشام بين الواقع والمأمول»، بلاد الشام مركزاً عميداً للطرق والشخصيات الصوفية المرموقة. وقد أسهم موقف الصوفيّة في الحروب الصليبية ومشاركتها الشّعبية الفاعلة في ترسيخها، ويرى الباحث أنه على الرغم من نجاح التيار السلفي في تحقيق بعض النفوذ – وهو نفوذ غير مؤثر على نحو جذري بحسب الباحث- فقد ظلَّ التصوف مسلكاً دينيّاً راسخاً في المجتمع، ونمط التدين الأكثر رواجاً بين طبقاته، «ومن البديهي أن تستثمر السلطات السياسية الحاكمة هذا الموقف الديني المسالم، وتقوم باحتضانه ودعمه وتمكينه والترويج له، على نحو مباشر أو غير مباشر، بغية الإسهام في المحافظة على استقرار الحكم وسياساته».
وفي دراسة وصفية تأصيلية عن «الطرق الصوفية في فلسطين ما بين عامي (1989/2011م)»؛ قدم البروفسور مشهور الحبَّازي الأستاذ بكلية الآداب في جامعة القدس، عرضاً لأهم الطرق الموجودة في فلسطين في حقبة الدراسة، وهي الخلوتية التي دخلت إلى فلسطين في بداية القرن الرابع عشر الهجري على يدّ الشيخ محمود الرافعي الطرابلسي، والقادرية «وأشهر أعلامها في فلسطين الشيخ محمد هاشم البغدادي (1994م)»، والتيجانية، والنقشبندية «وأميرها في فلسطين هو الشيخ عبدالعزيز البخاري»، والعلاّوية. تناولت الدراسة أيضاً المجلس الإسلامي الصوفي الأعلى الذي تأسس بقرار رسمي من الرئيس ياسر عرفات في أوائل العام 1995م، وتؤكد الدراسة أن فئات من الشعب الفلسطيني تمارس التصوف، ويمارس الكثيرون من أتباع هذه الطرق حياتهم الدينية دون أن يُصرّحوا بتصوّفهم لأسباب كثيرة.
شهادةٌ من الخبرة الميدانية، عن أنماط التدين الموجودة في المجتمع الأردني، قدّمها الدكتور عبدالجليل علي العَبادلة، الأستاذ بكلية الشريعة في الجامعة الأردنية، الذي أفاض في أنماط التدخين عند الإخوان المسلمين في الأردن، وتناول الكاتب ظاهرة التديّن في الحركة معقّباً عليها بأن «غاية ما هنالك، أنهم قد اتخذوا من الدين غطاء ظاهراً يخدعون به عامة المسلمين كسباً لشعبيتهم، وحيازة لأصواتهم في الانتخابات البرلمانية والبلدية»، «كان أول مشروع عملوا عليه حين أُسندت إليهم وزارة الأوقاف هو إلغاء دار القرآن وكانت أول دار أسسها شيخ طريقة شاذلية»، ويواصل «إن جماعة الإخوان المسلمين دائمة الاتهام والتشويه للحركات الصوفية»، ويضيف في شهادته «وقد عانى طلبة الشريعة من غير أتباعهم من الظلم والتضييق عليهم الكثير؛ حتى لا يتخرج خصوصاً في الدراسات العليا إلا من كان منتسباً لحركتهم».
ولكن ماهو موقع التصوف اليوم في التاريخ المعاصر لبلاد الشام، في ظل التفاعلات التي تموج بها المنطقة؟
من فلسطين رسمت الدكتورة نادية «سعدالدين»، الباحثة والصحافية الأردنية، مساراً تاريخياً للطرق الصوفية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم تناولت معادلة ما أسمته «الولاء مقابل الرعاية» التي صبغت شكل العلاقة بين السلطة والطرق الصوفية في الخارطة السياسية الفلسطينية. استند الصوفيون فيها إلى «المعتقد الأشعري» المشترك مع حركة فتح، فناصروا مواقفها وعملوا في إطار ما أفرزته اتفاقية أوسلو، وفي ظل الانقسام الفلسطيني الحالي، تبنى الصوفيون موقف السلطة من الانقسام بوصفه «انقلاباً» وخروجاً حمساوياً على الحاكم، واقترح بعضهم تأسيس مجلس «علماء دين» فتحاوي مضاد لما تصدره حماس من أدبيات وفتاوى، غير أن بعض الجماعات الصوفية في غزة اعتمدت خط «المهادنة» في ظل «احتواء» حماس لهم؛ لمواجهة السَّلفية. وتناولت الباحثة موقف الطُرق من الثورات العربية، وقد أحالت موقفها من الثورات العربية إلى ثيمة محاذير النواتج، بعمل مقارنة مع انتفاضة الأقصى عام 2000م، في فلسطين التي أَطلقت – بحسب الشيخ سعد شرف – «يدّ الاحتلال الاستيطانية والتهويدية».
يعتبر الأردن بيئة صوفية بامتياز، هكذا ابتدر الباحث في الإسلام السياسي والحركات الإسلامية محمد العواودة دراسته عن الصوفية في الأردن، وبالرغم من تاريخ الصوفية المشرق المرتبط بتأسيس الأردن، إلا أنّ التصوف تراجع في مرحلة لاحقة لحساب الحركات الإسلاموية، وبالرغم من عراقة الطرق الصوفية في الأردن المتمثلة في الشاذلية وفروعها، والقادرية والرفاعية والخلوتية والتيجانية، إلا أنَّها لم تتمكن من إيقاف ذلك التَّراجع، إلا بعد انتشار التفجيرات وفشو التشدد فتنبَّه الناسُ إلى الأصل الصوفي السَّمح والمتوائم مع النظام وتركيبة المجتمع ومتطلباته، يقول العواودة إن التصوف في الأردن بقي قادراً على الصمود والبقاء، وأنّه شهد في السنوات الأخيرة تطوراً بشكل عام، إلا أنّ دورهم السِّياسي ظلَّ هامشيًا، لابتعادهم عن السياسية ومجاريها ومتاعبها؛ من أجل التَّفرّغ للهدف التاريخي الذي قامت عليه الصوفية وهو «عبادة الله».
تناول الباحث في مركز دلتا للأبحاث المعمقة في بيروت محمود حيدر، جغرافية التصوف اللبناني والدَّور السياسي، وقال إنّه ينتشر في منطقة الشمال، لا سيّما مدينة طرابلس و بيروت وصيدا، وتوجد طرق كثيرة، منها: النقشبندية، والخلوتية، والمولوية، والرفاعية، والشاذلية، والدندراوية. وكلها ظلت بعيدة عن السياسة، باستثناء جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية المعروف أتباعها بـ»الأحباش»، فقد قاربت السياسة بسبب ظروف النشأة التي ترافقت مع تحولات شديدة الحساسية في تطور البيئات الإسلامية، والتحولات التي طرأت على المرجعية السنية في لبنان في العقود الماضية.
أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت الأردنية محمد م. الأرناؤوط تناول الطريقة السّعدية في بلاد الشام وانتقالها إلى البلقان. والطريقة السّعدية أسّسها الشيخ سعد الدين الجباوي، وتتميّز عن غيرها بأنها الطريقة الأولى التي أُسّست في بلاد الشَّام وانتشرت منه إلى مناطق مجاورة، بعكس رصيفاتها الواردات من العراق والمغرب ومصر إلى الشّام. تأثَّرت الطريقة انتشاراً وانحساراً بالتطورات السياسية التي عَصفت بالمنطقة، خاصة بمآل الدولة العثمانية ووصول الأحزاب الشيوعية إلى السُّلطة بعد الحرب العالمية الثانية في دول أوروبا وبلاد البلقان، ولكنها حافظت على الحضور الصوفي والثقافي نسبياً، وقد رصدت الدراسة الحضور الراهن للطريقة السّعدية، وعدد شيوخها ومعاهدها في يوغسلافيا وألبانيا، ورصد الباحث زياراته الميدانية لبعض التكايا في البلقان وأحوالها.
أما عباس المرشد الباحث والصحافي البحريني فقد تناول ما أسماه الجغرافيا المتديّنة وهويّة المؤسسة الصوفية في بلاد الشام، ومنزلة الحركة الصوفية فيها، وقدرة التصوف على الامتداد واستيعاب هوية الآخر وسلطته، دون أن ينخرها، مشيرًا إلى أنّ وجود سلطة روحية تقام للحركة الصوفية تعزلها عن السلطة السائدة، لكنها توّفر أرضية خاصة لبسط سلطة أخرى هي سلطة الشيخ على المريد. تناول الباحث أنماط الجغرافيا المتدينة لمتصوّفة بلاد الشام، وامتدادها، وقال «من حيث العلاقات بين متصوّفة بلاد الشام ومتصوفّة الخليج فلا توجد مؤشرات تاريخية على وجود علاقة منتظمة»، ووصل الكاتب إلى أن «التصوف الخليجي وقف في الطور الأول لحركة التصوف (التصوف الفردي)، مع إدخال بعض التطورات من الطور الثاني (التصوف المؤسساتي)؛ فلم تكن لمتصوّفة بلاد الخليج العربي مؤسسات صوفية كالزوايا.
قدّم الدكتور عبدالصمد بلحاج، دراسته عن التصوّف والإخوان، متناولاً للجذور الروحية والسياسية العميقة للتصوّف، وتتبّع دوره الديني والسياسي في سورية. ومرّ بلحاج على العلاقة بين الصوفية والبعث والإخوان، ثم تناول الرمز الصوفي الكبير الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، راسماً ملامح مدرسته في الفكر والسياسية، وأبرز مدارها حول وجود المصلحة مع النص، ونقده الحاد للامذهبية، والسلفية، والتزامه بطاعة الحاكم. ويقول الباحث «إن البوطي يرجع التصوّف إلى صورته المقبولة من طرف متكلمي وفقهاء أهل السُّنة والجماعة، ويتجنب أن يظهر بمظهر المدافع الساذج عن الطرق الصوفية». أما فيما يخصّ علاقته بالإخوان المسلمين، فيذهب الباحث إلى أن البوطي «يشترك مع بعض الإخوان في كثير من معالم فكره؛ بالرغم من العداء الكبير بينهما»، كما استعرض الباحث موقف البوطي من الأحداث في سورية، فهو يطلب من العامة الإرجاء والعزلة في هذه الفتنة. ويدعو إلى الاعتدال ومعاقبة المجرمين فقط.
درس عمران سميح نزال «الباحث في الدراسات الإسلامية والفكر السياسي»، الطرق الصوفية وموقفها في الأزمة السورية، فأدار الحديث عن مدارس التصوف في سورية وطرقها المعاصرة، و علاقة المتصوفة بنظام الدولة السورية، وتذهب الدراسة إلى أن «بعض التحليلات السياسية تشير إلى أن ضعف الاحتجاجات في مدينتي دمشق وحلب إنما يعود إلى الانتشار الكثيف للطرق الصوفية ومشايخها ومريديها في كلتا المدينتين»، ويواصل «وبنظرة سريعة لتوزع مدارس أو الطرق الصوفية في سورية نستطيع أن نفهم أموراً كثيرة، فمدينة دمشق تعتبر معقل النقشبندية بحكم وجود رأسها «الشيخ» أحمد كفتارو أو خلفائه الحاليين فيها، بالإضافة إلى أنها تضم جماعة القبيسيات التي دعم وجودها البوطي».
عَدَّدَ الباحث الدكتور عبدالغني عماد، الجماعات الصوفية في سورية، وركّز على أحداث حماة وما شكّلته من إعادة رسم للخارطة السياسية الدينية في الثمانينيات؛ واحتضان الحكومة للتدين الشعبي التعليمي الذي يسعى إلى نشر التدّين الشعبي الصامت بعيداً عن السياسة أو ميول العمل الجماعي العام. فبرزت جماعات كبيرة تتمثل بجماعة أبو النور (الكفتاريون)، والتيار الأشعري الذي يمثله البوطي، والجماعة النسوية البارزة والناشطة والمعروفة باسم (القبيسيات).
اخترنا لهذا العدد كتاب «تاريخ التصوف في سورية: النشأة والتطور.. الزمان.. المكان.. الإنسان»
لمؤلفه د.عبود عبدالله العسكري، قرأه لنا محمد العواوده، يرصد الكتاب السياقات السوسيولوجية والتاريخية والزمكانية للإسلام الصوفي في بلاد الشام بعامة، والتصوف في سورية بخاصة، ذلك ضمن فترة زمنية حددها العسكري من بداية انتشارها وحتى نهاية القرن العشرين.
نسّق هذا العدد، الباحث الأردني الزميل محمد العواودة، فله منا الشكر والإكبار، على جهده الجميل، وللباحثين على ما قدّموا، بالرَّغم من المغامرة في دراسة موضوع يتأثّر بلهيب أحداث جارية.
رئيس المركز