خمسة عشر عاما، أو يزيد، تمر الآن على الأزمة الجزائرية، تلك الأزمة التي بدأت حلقاتها منذ إلغاء الجيش للجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي كان مقررا إجراؤها في السادس عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1992، وكان متوقعا للجبهة الإسلامية للإنقاذ أن تفوز فيها.
منذ هذا التاريخ عرفت الجزائر موجات من العنف والعنف المضاد، بين الجماعات الإسلامية والنظام، تلك الموجات التي لم تهدأ إلا قليلا، بعد أن حصدت ما يقرب من مائة ألف قتيل.
ما حدث في الجزائر كان مفاجئا للكثير من المراقبين، حيث كان النظام الجزائري من أكثر أنظمة المنطقة استقرارا، كما أن القوى الإسلامية الجزائرية كانت أضعف من مثيلاتها في البلدان المجاورة وبخاصة في مصر وتونس، ولكن، في الجزائر، نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد تأسيسها بأقل من عام، في أن تثبت أنها الأقوى في الشارع الجزائري، وأن تحقق من الانتصار السياسي ما لم يتح لحركة إسلامية أخرى، وإن تأسست قبلها بعقود.
جاء تأسيس الجبهة من أطياف وتيارات متعددة، جمعتها الفرصة لعمل شيء، بعد انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1988، وإقرار نظام الشاذلي بن جديد لدستور سنة 1989، الذي أقر التعددية الحزبية، وأنهى تاريخا يمتد لأكثر من ثلاثين عاما من حكم الحزب الواحد في الجزائر، منذ تحقق الاستقلال في أوائل الستينيات، كما جمعتها مظلة واحدة، هي ما سماه عباسي مدني ضرورة “الإنقاذ الإسلامي” حين سمى الجبهة.
ولكن لا شك أن موقف الجبهة بعموم من التعددية، وتبنِّي كثير من رموزها لمبدأ نسف عقيدة الديمقراطية، حسب تعبير على بلحاج في أحد كتبه، جعل قرب الجبهة من استلام زمام السلطة محل تخوف من كثيرين، ليس فقط الجيش والقوى العلمانية في الجزائر، بل طرح على الفكر والواقع العربي بقوة إشكالية إدماج الإسلاميين في المسار الديمقراطي، تلك الإشكالية التي لم تحسم بعد.
من هنا اهتم كتاب المسبار الشهري، أن يخصِّص عدده السادس حول “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، ذلك الملف النوعي في فضاء الإسلاموية المعاصرة، ليس فقط لتطوراته الدراماتيكية وارتباط الأزمة الجزائرية المتين به، ولكن كذلك كمحاولة استشرافية وتفسيريه لما حدث، وما سيحدث، خاصة وأن إشكاليات الأزمة الجزائرية بدءا من الإسلاميين والديمقراطية، إلى الموقف من العنف، إلى صراعات الإسلاميين أنفسهم، والتي وصلت إلى حد التصفية الجسدية والإعدام؛ كل هذه إشكاليات يمكن أن تعمم على غيرها من الحركات والبلدان الأخرى.
يضم العدد مجموعة من الدراسات المتنوعة حول هذا الموضوع، يحاول كل منها أن يكشف عن بعد من أبعادها، فتأتي دراسة الدكتور عبد العالي حامي الدين، من المغرب، بعنوان “الجبهة الإسلامية للإنقاذ من التأسيس إلى النكبة”، التي يحاول فيها أن يقرأ آفاق النقد الذاتي عند الحركة. وتأتي دراسة الدكتور الحسين الزاوي، من الجزائر، “الحركة الإسلامية في الجزائر.. بين غموض الواقع وصعوبة التشخيص”، محاولا تلمس الأسباب العميقة للصعود الإسلامي الراديكالي في الجزائر بعموم، وجبهة الإنقاذ بالخصوص، وهو ما يمكن أن نسميه القابلية للعنف في الشارع الجزائري التي ازدادت لأسباب عديدة، وتحول الميل للتشدد خلالها إلى سمة غالبة على الفئات المتدينة فيه.
كما تأتي دراسة الدكتور بومدين بوزيد، من الجزائر، بعنوان “الهوية والحركات الإسلامية في الجزائر: الشرعية والشعائر الدموية”، محاولا تفسير حضور مفهوم الهوية الجزائرية لدى مختلف التيارات مع اختلاف تفسيراتها له، ومراهنتها على أنه الأصلي والشرعي وما سواه خارج عن هذا الأصل… ومن هنا كانت شعائر دموية في الآن نفسه.
ثم تأتي دراسة الدكتور بَلا العربي، من المغرب، حول “جبهة الإنقاذ بين خياري العنف والمصالحة”، متتبعا موقف الجبهة من العنف الذي تفجر بعد صدامها مع النظام الجزائري، مرورا بنشوء ما يسمى الجيش الإسلامي للإنقاذ كجناح مسلح لها، ثم حله بعد ذلك، وكذلك الموقف من الحركات الإسلامية المسلحة الأخرى، والموقف كذلك من خيار المصالحة والوئام المدني الذي طرحه نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
وفي سبيل تناول واستطلاع مختلف وجهات النظر حول العنف والمصالحة في الجزائر، قدم الأستاذ عبد المجيد مناصرة، نائب رئيس حركة مجتمع السلم “حمس” التي تعبر عن الإخوان المسلمين في الجزائر، رؤيته ورؤية حركته لسبل الحل السلمي والوئام المدني في الجزائر.
وتقرأ الدكتورة عزة محمد شخصية الشيخ على بلحاج، باعتباره الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأكثر زعمائها إثارة للجدل في الآن نفسه، عارضة لمساره واهم المؤثرات فيه وملامح خطابه ومؤلفاته وتطور مساره ومواقفه قبل خروجه من السجن وبعده.
كما قرأ الأستاذ عبد الرزاق الفيصل شخصية الشيخ عباسي مدني منذ مولده في مدينة سيدي عقبة، ذات البعد الرمزي في التاريخ الجزائري، حتى منفاه الاختياري منذ عام 2004 في العاصمة القطرية، وكذلك يعرض لمختلف تصورات الشيخ للتاريخ الجزائري وللقوى الإسلامية الأخرى، وللخلافات داخل جبهة الإنقاذ ولمستقبل المصالحة وممكناتها مع نظام الرئيس بوتفليقة.
وتأتي دراسة الأستاذ دريد البيك حول القوى المؤثرة في الأزمة الجزائرية، متتبعة السياق الدولي والإقليمي للأزمة الجزائرية، حيث كان الصعود الإسلامي الراديكالي في الكثير من بلدان العالم الإسلامي، وزخم الشعور بالانتصار في أفغانستان سنة 1989 لا زال ساخنا، وكذلك يعرض لمواقف الأنظمة العربية والدولية من الحدث الجزائري، وسلسلة تطوراته المختلفة منذ بدء الأزمة وحتى الآن.
وجاءت دراسة الأستاذ أحمد تهامي بعنوان “جبهة الإنقاذ في المنفى”، التي يرى أنها تقدم خبرة فريدة في ما يتعلق بتداخل وتشابك العلاقة بين الداخل والخارج في الأزمات السياسية والأمنية في الدول العربية. كما تفسر لنا الخلاف الذي نشأ منذ منتصف التسعينات بين ممثلي الجبهة في المنفى، وتحديدا بين الهيئة التنفيذية التي يرأسها رابح كبير حين كان يقيم في ألمانيا قبل رجوعه إلى الجزائر، وبين البعثة البرلمانية التي يرأسها أنور هدام المقيم في أميركا، وكيف انعكست خلافات الداخل على خلافات الخارج والعكس ولا زالت. ويفسر لنا الكاتب كيف أن خروج زعيمي الجبهة، مدني وبلحاج، من السجن عام 2004 كان مما زاد هذا الانقسام رغم أن المتوقع هو أن يلملمه.
ويحتوى العدد على دراسة مستقلة كتبها الدكتور وحيد عبد المجيد بعنوان “الإخوان والسلطة في مصر: صدام متجدد”، عرض فيها للاستراتيجيات المتبادلة بين السلطة والإخوان في مصر في المراحل التاريخية المختلفة، انطلاقا من الصدام الحاصل الآن بينهما على الساحة السياسية المصرية، وهو ما يفسره الكاتب باستعداد مبدئي لدى كل من الطرفين للعنف تجاه الآخر.
ويضم العدد قراءتين لكتابين يعدّان من أهم الكتب التي تناولت الأزمة الجزائرية، القراءة الأولى تقدمها الأستاذة مشيرة الشيمي لكتاب مايكل ويليس “التحدي الإسلامي للجزائر”، والقراءة الثانية يقدمها الدكتور أحمد عبد الحليم عطية لكتاب الكاتب الجزائري الأستاذ أحميدة عياشي “الإسلاميون بين النص والرصاص”.
كما يحتوى العدد على ببليوجرافيا بأهم الإصدارات الفرنسية والإنجليزية التي كتبت عن الأزمة الجزائرية مع شرح موجز لكل منها.