مقدمة
ليبيا كانت المحطة الأبرز في قطار التغيرات العنيفة التي شهدتها المنطقة مع موجة الاحتجاجات ضمن ما سمي بالربيع العربي، إذ عاشت المنطقة تحولات تستدعي الدراسة، كتابنا الواحد والسبعون يأتي ليسد هذا المسد، ويتناول في تحليله تاريخ وحاضر الحركات الإسلامية الليبية، ويقدّم تحليلاً يرتبط بالحاضر حول الحالة الليبية وإفرازاتها، وما شهدته خلال أيام النزاع والثورة وصولاً إلى نُذر الحرب الأهلية، كما يقدم تحليلاً لنتائج الانتخابات الليبية التي أكملت حلقة الدهشة.
فاتحة دراسات العدد قدمها الباحث ناصر الدين السعيدي، وهو باحث وكاتب جزائري خصصها لدراسة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة بمنابعها ومصبّاتها، وهي جماعة لفتها التناقضات من كل جانب، فهي انضمت لتنظيم القاعدة ولم تنضم، وقاتلت في الجزائر وتراجعت ثم رجعت للقتال. وكفّرت نظام القذافي وحاربته ثم تراجعت وأعلنت التوبة أمام العالم قبل أن ترجع لقتاله مرة أخرى وتسهم في إسقاطه. ويشير إلى دخول الجماعة في العملية السياسية في انتخابات يوليو (تموز) 2012 غير أنها لا تزال تحمل السلاح وتهدّد المسار الديمقراطي في البلاد، بل انتشر مقاتلوها في كل ساحات البارود وتشردوا في السجون ثم صاروا الحلقة القوية في شوارع طرابلس، كما يتطرق إلى أهم مراحل تطور الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، بداية من نشأتها بغرض إقامة إمارة إسلامية إلى خسارتها الرهان بمنطق صندوق الاقتراع.
أما أستاذة القانون الجنائي بالجامعات الليبية الدكتورة فائزة الباشا فإن بحثها يدرس وبوضوح موضوع إسلاميي ليبيا ونظام القذافي منذ زمن الاضطهاد إلى عصر المناصحة، إذ اتسمت العقود الثلاث الأولى من المرحلة القذافية بمحاربة الحركات الأصولية والقومية؛ وعلى الخصوص تجربة الإخوان المسلمين والجماعات ذات التوجه الإسلامي؛ مثل الجماعة المقاتلة، ولا مجال لنسيان الإجراءات التي اتخذت لإحداث قطيعة شاملة مع النظام الملكي وبنياته ورموزه ، ومن مظاهره غلق الجامعة الإسلامية السنوسية في 25 نوفمبر 1970، وما عرف بتطهير الجامعة من المفكرين اليساريين والإسلاميين الذين أطلق عليه في “إعلان الحرب الثقافية على المرضى والبيروقراطيين. كما تحدثت عن استثمار القذافي للإسلاميين، ومحاولته مغازلة الغرب من خلالهم، إضافةً إلى انفلاتهم من قبضة سيف الإسلام الذي أشرف على مشروع المناصحة بعد أحداث الربيع العربي لتبدأ سلسلة الأحداث التي تسببت بسقوط نظام القذافي.
أما الدكتور إدريس لكريني مدير مجموعة الأبحاث الدولية حول إدارة الأزمات فقد خصص دراسته للبحث في تمكين المرأة اللّيبية بين إكراهات الماضي وتداعيات الثورة، ورأى أن تطوّر أوضاع المرأة الليبية وتمكينها يظل مرتبطا بالأساس بمآلات ثورة 17 فبراير(شباط) 2011، ومشاريعها التنموية والديمقراطية، ومدى إسهام هذه التحولات في دعم كفاءات المرأة والسير باتجاه إشراكها بفعالية ضمن التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لليبيا، مستنتجاً أن الوضع لا يزال مبكرا للحديث عن تطور ملموس فيما يتعلق بإدماج المرأة في ليبيا، ذلك أن الأمر ينصبّ في هذه المرحلة على بناء المؤسسات وانتشال الدولة من براثن الاستبداد وتركات الماضي، مع أن تمكين المرأة والمبادرات التي ستتخذ على هذا الطريق تعتبر مؤشراً موضوعياً للحكم على نجاح التحوّل داخل ليبيا في أعقاب الثورة.
أما الأكاديمي في جامعة طرابلس الدكتور مصطفى عبد الله أبو القاسم خشيم فقد اختار تناول موضوع الإخوان المسلمين في ليبيا… وتحولات العلاقة مع السلطة، وفيها أشار إلى إن التوجه السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا كان سياسيا منذ البداية، ولكن هذا التوجه توج بالإعلان عن تأسيس حزب العدالة والبناء ذي المرجعية الإسلامية في 3-3-2012 وذلك بالتحالف مع مستقلين، لاسيما أبناء الطبقة الوسطى، فبالرغم أن الملك إدريس السنوسي قد احتضن جماعة الإخوان المسلمين قبل الاستقلال، إلا أنّ حظر الأحزاب السياسية في تلك الفترة لم يمنع جماعة الإخوان من التعايش بسلام مع النظام الملكي، غير أن جماعة الإخوان المسلمين قد دخلت في صراع وصدام مع نظام القذافي منذ عام 1973، حيث تم سجن أو إبعاد ومنع أعضاء الحركة من مزاولة نشاطهم السياسي الذي أصبح سريا.
كانت الانتخابات الليبية بنتائجها حالة استثنائية، لذلك أفردنا لها دراستين، الأولى تناولها الدكتور محمد مرشان. وتناول فوز القوى الليبرالية في الانتخابات الليبية، فقدم فرشة للأحزاب السياسة والتيارات الدينية والأحزاب الليبرالية، معددًا أسماءها ومناطق نفوذها، ضاربًا المثال بالأحزاب الليبرالية الليبية، كحزب الليبيين الأحرار، والديموقراطي الليبرالي، ومضى متحدثا عن انتخابات المؤتمر الوطني العام، وقدم تحليلله لنتائج الأحزاب السياسية في الانتخابات، وتبنأ بمستقبل الأحزاب الصغيرة، واتجاهات المستقلين، وتأثيرهم ف المستقبل، ولم يغفل عن المؤثرات على العملية الانتخابية كدور الإعلام والمرأة، وقضايا التطرّف التي أدت ومعها عوامل أخرى إلى خسارة التيارات الإسلامية في نتخابات المؤتمر الوطني. كما شرح أسباب تقدم تحالف القوى الوطنية، كالتنسيق ووجود الشخصيات القيادية، وتمسكهم بالهوية ردًا على ادعاءات التيارات الإيديولوجية، وإدارته للحملة بذكاء، وفهم للغة المواطنين بعيدًا عن الخطابية.
الدراسة الثانية كانت عن الانتخابات الليبية وإشكالية الصراع بين الإسلاميين والليبراليين: قراءة في الواقع والمستقبل، وقدمها الدكتور العربي بلا الأستاذ والباحث بكلية الحقوق في مراكش فيها تناول السياق العام والاستثنائي للانتخابات الليبية، و الرهانات المعقودة على إعادة بناء المؤسسات وبناء التوافق. كما نبّه العربي إلى خطور الاستقطاب الحاد الذي تولد عن الصراع على ملء الفراغ عقب القذافي، وفي تحليله لنتائج الانتخابات عزا الكاتب تقدم القوى اليبرالية إلى “الوسطية والالتزام الديني عند القوى الليبرالية، مما جعل الدعوات ذات الطبيعة الدينية/ الإسلامية محدودة التأثير”، وفي ختام بحثه قال لا بد من الإشارة إلى معطى أساسي يجعلنا نقرأ المستقبل بتفاؤل، وهو أن الشباب والذين خرجوا في بداية الاحتجاجات،” قضيتهم مختلفة تماما، لأنهم غير مؤدلجين. قضية الأيديولوجية هي آخر اهتماماتهم”.
أمّا نبيلة بن يوسف، وهي محاضرة بجامعة مولود معمري (تيزي وزو) الجزائر تحولات الثورة الليبية ومخاطر الحرب الأهلية، فقد تناولت تداعيات الثورة الليبية ومخاطر الحرب الأهلية، فقد أشارت إلى أن الثورة ولّدت الأحقاد وأفرزت التشكيلات المتطاحنة مثل ثوار الزنتان وثوار مصراتة بالإضافة إلى كتائب القذافي، والمليشيات، مؤشرةً إلى أنّ الثورة تحوّلت إلى الحرب الأهلية ثم قامت بتعديد المخاطر الداخلية للحرب الأهلية الليبية والخارجية، وأضافت أنه لا يمكن تقدير مخاطر الحرب الأهلية وختمت دراستها بالقول “تحوّل الحلم الذي أوشك على التحقق بعد تضحيات جسام إلى كابوس مفزع. لا تتوقف الحرب الأهلية إلا بوجود إرادة ليبية قوية، وإعلان المصالحة الوطنية أساسا للتسامح و بداية للتعاون، مع التفطن للعبة الغربية”.
ليبيا على شفا التهديد الأصولي، هكذا قدّر الباحث حميد زنار، ففي ليبيا صورة للأصولية تهدد نسيج المجتمع وترفع فكرة الدولة الدينية، رسم ملامحها حميد زنار، تعاملت هذه الأصولية بكتب سيد قطب، وعبدالله وغيره، رفعت شعار الإسلام هو الحل، الذي ناقشه الباحث، واستخدمت شعارات الجهاد والدعوة، هذا المشهد تفجّر بعد الثورة، وانعكس على رفض التدين التقليدي، المتمثل في التصوف، فقد شهدت مراقد الصوفية هجمات عنيفة نقلها الباحث، كما قدم أسئلة عديدة لتدعيم وجهة نظره الداعمة لنموذج دولة مدنية، فيقول الكاتب، سيكون متفائلا جدا من يتوقع أن يرى في المستقبل القريب دولة ذات نظام علماني في ليبيا، ولا في أية دولة عربية أخرى. لقد شوّه الإسلاميون والأنظمة المتواطئة معهم ‘العلمانية’ إلى درجة أصبحت كلمة مرادفة للإلحاد في كل الدول العربية”وتساءل هل يتم الانتقال بليبيا من مجتمع ‘المؤمنين’ المنغلق على نفسه، والطارد للآخر إلى مجتمع ‘المواطنين’ المنفتح على الدنيا و الحرية؟
“الحركات الاسلامية في ليبيا وتحديات بناء الدول: تشخيص وسيناريوهات”. كان هذا عنوان بحث عبد الرحيم المنار أسليمي. الذي تناول الحركات الإسلامية في ليبيا، واقتفى مسار النشأة والمواجهة والتحول بعد الثورة واسليمي وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس، اكدال، الرباط، المغرب، قدم مساره من خلال تقديم صورة عن الحركات الإسلامية في ليبيا:مسار ما قبل الثورة، وتبين دور الإسلاميين خلال مرحلة الثورة ورؤيتهم في المرحلة الانتقالية، والتعامل مع حالة الحزبية، والحراك الديموقراطي، مارًا بتفسيره للنتائج، وناقش هو الآخر سيناريو الدولة الدينية، واختتم قائلاً أن الإسلاميين يتوقف دورهم على ثلاثة عناصر أساسية، الأول منها القيام بمراجعة جديدة في ليبيا ما بعد الثورة، وحل إشكالية الاختلاف بين الحركات الإسلامية في ليبيا، فالأمر يتعلق بخلافات جوهرية بين الإخوان الذين لهم مرجعية فكرية واضحة تبين الطريقة التي يفهمون بها الإسلام، وكبح جماح التشدد.
بآخر الكتاب ينفرد المركز بنشر حوارٍ مع عالم الانتروبولوجيا الفرنسي إمانويل تود. جاء الحوار عفويا مباشرا و صريحا، في هذا الحوار يلخص المفكر أطروحاته المتعددة التي تضمنها الكتاب المشهور الذي نشره بمعية يوسف كورباج سنة 2007 تحت عنوان ‘ ملتقى الحضارات’. والذي فاجأ به كثيرا من المراقبين حينما أكد قبل الثورات العربية أن الأصولية الإسلامية ليست قدرا في العالم العربي، وأن الديكتاتوريات آيلة فيه لا محالة إلى زوال، وأن الشعوب العربية قد دخلت الحداثة فعلا ولحقت بشعوب الغرب.
رئيس المركز