مقدمة
لا يمكن إهمال مظاهر التصوّف في المجتمعات الإسلامية أو إغفالها، لذلك يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه الثاني والسبعين دارسة التصوف العراقي بعد أن درس التصوّف في المغرب العربي وفي الخليج وفي بلاد الشام ليسبر مظاهر التصوّف في المجتمع العراقي ويتبين ملامحه ومظاهره، معطياً مساحةً من الصفحات لقراءة نموذج معاصر ممثلاً في الطريقة «الطريقة العلية القادرية الكسنزانية » نسبةً إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني ثم السيد الشيخ محمد بن عبد الكريم الكسنزان.
وكان المركز قد أصدر مجموعةً من الكتب التي تتناول موضوع الحركات الإسلامية في العراق؛ سواء على مستوى الجماعات السنية أو الشيعية والكردية، ليأتي الكتاب متمماً لتلك البحوث والدراسات. وكان التحدّي أن يكون الكتاب مكتوباً بيدٍ عراقية ومن داخل العراق، فاخترنا الباحثين من حلقة خاصة، واخترنا الطريقة «الكسنزانية» كأنموذجٍ لما يراه صوفية العراق في أنفسهم، حتى لا ندخل في التفصيلات ولا نضيع في العموميّات. فاتحة دراسات العدد كانت «الطريقة الكسنزانية في عيون أهلها ومشيختها ومؤسساتها» قدمها د.محمد فاضل إبراهيم حمادي الأستاذ بجامعة الأنبار، وفيها يعرّف الباحث بشيخه محمد الكسنزان الذي يرى أن علاقة الاندماج والتقارب بين العلم والتصوف تكاد تكون الحقيقة الثابتة في جوهر طريقته الصوفية، لأنه لا يجد أي فصل أو تباعد بين البحث العلمي والتجربة الصوفية متمسكاً بحد الاعتدال، فلا يرجح كفة على أخرى، وذلك واضح من خلال آرائه ومؤلفاته ويضيف أن الشيخ كان دائماً يسعى إلى وحدة الإسلام والمسلمين، في وقت بانت فيه بوادر تمزيق وحدة العراق وتشتيت لكلمة المسلمين، مشيراً إلى تأسيس الشيخ للمجلس المركزي للطرق الصوفية في العراق والهدف منه أن يجد هذا المجلس صداه في قلوب وعقول الصوفية في العالم، ليجتمعوا على تكوين مجلس مركزي عالمي للتصوف الإسلامي يكون له فروع رئيسية في كل دوله من دول العالم، لينهضوا مجتمعين بمهامهم الأساسية كدعاة روحيين، تجاه المتغيرات العالمية، وهنا ننظر إلى نزعة عالمية لتصوّف العراق، الذي كان في قرون سالفة محرّكًا أساسيًا للتصوّف الإسلامي. فقد مجيد عبد الحميد سعيد الخيرو، الباحث في العلوم الشرعية، فقد توسّع في دراسة ما قررناه من دور لتصوّف العراق القديم، ولم يكتف بذلك بل سلّط الضوء على الأثر المعاصر له، فخصص دراسته للبحث في صوفية العراق وتأثيرهم قديمًا وحديثًا متخذاً من الكسنزانية نموذجًا، وفيها رأى أن العلاقة بين التصوف في العراق، والذي هو الأساس ونقطة الانطلاق والشجرة المورفة وبين التصوف في الدول الأخرى، وقال «التصوف في العراق كالشمس والقمر بالنسبة للناس يستضيئون ويتنورون ويستدلون بضوئهما على معرفة طريق الوصول إلى الله»، مبيّنًا الجهود المعاصرة في نشر دعوة وفلسفة التصوّف، وراصدًا انتشارها. كما تناول الدكتور سرمد العبيدي، الباحث والكاتب العراقي، فقد تناول التصوف في العراق بأعلامه وطرقه قديماً وحديثاً، ركّز في دراساته على ما سمّاه «الدور الفاعل والمؤثر الذي لعبته الطرق الصوفية في العراق في مقاومة الوجود الأجنبي في البلاد» ويحاول تفنيد «ما ذكره البعض ممن يخالفهم الهوى والاتجاه الفكري من أنهم فضلوا الانزواء في الزوايا والتكايا على حمل السلاح لمقاتلة المحتل». التكيّة هي امتياز صوفي يفرد الباحثون له مساحة واسعة من الكتاب، الدراسة الأولى كانت بعنوان «الطرق والتكايا الصوفية في بغداد حاضراً» وهي مساهمة الباحث في التصوف الإسلامي علاء محسن حمود، عضو مركز التصوف والدراسات الروحية، وفيها أشار إلى أهمية التكية من الناحية الروحية عند أهل الطريقة من الصوفية، وهو ما يؤهلها إلى أن تكون مكانًا مقدساً، فهي بيت الذكر ومحل الحضرة، ومحل نزول أرواح جميع الأولياء والصالحين من الإنس والجن، تحف بهم ملائكة الرحمة والرضوان. أما الدكتور ياسر محمد ياسين البدري الحسيني، رئيس مؤسسة تراث سامراء الديني، فقد درس التكايا والطرق الصوفية بسامراء وديالى حاضراً، مشيراً إلى أن بدايات التصوف الحديث في المجتمع السامرائي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، إبان حكم الدولة العثمانية التي عملت على إرسال شيوخ ومفتين ينتمون إلى المدرسة الصوفية وإلى المدرسة العلمية الدينية التي أسست في عهد السلطان عبد الحميد، ومع سيادة نمط التدين الشعبي في المجتمع العراقي، في سياق التحولات التي طالت الدين الإسلامي بقراءاته المتعددة الظاهرية والتأويلية والعرفانية وكذلك سهولة الحركة والانتقال داخل بلدان العالم الإسلامي بتوطن عائلات صوفية عريقة أرض العراق عامة وسامراء خاصة من شتى أنحاء العالم الإسلامي. وبيّن أن الطرق المنتشرة في سامراء منذ القدم هي الرفاعية والقادرية. والرفاعية أقدم وأكثر تكايا، إلا أن ما نشاهده اليوم من انتشار الطريقة القادرية بات أسرع وأكثر عملا ومريدين بينما الرفاعية مريدوها أكثرهم بالفطرة والتوارث. قريباً من هذا كله، كان عبد السلام بديوي الحديثي، الحاصل على دكتور بالفسلفة من جامعة ويلز من المملكة المتحدة، فقد خصّ دراسته للحديث عن الرُّبط الصوفية ومحاولات تجديد الطرق في العراق فقد رأى أن خصوم التصوف الذين وصموه بالجمود والتقصير والتخلف والانزواء، واتهموا أتباعه بالجهل والرجعية، نسوا بان التصوف روح الإسلام وان تخلف التصوف يعني تخلف الإسلام، وأن هجومهم الحاضر على الطرق الصوفية في العراق قد أفادهم كثيراً وجعل الناس يلتفون حولهم، فبعد الهجمة الدينية المتطرفة التي حاول الأعداء تصديرها للعراق والتي عانى منها أهل التصوف ما عانوا في العراق، دفعتهم إلى الدعوة بصدق إلى الاجتهاد والتجديد، ومقاومة الجمود والتقليد، ويؤمنون بمواكبة التطور ومواصلة التقدم، من خلال إيمانهم بأن الإسلام لا يضيق بجديد، ولا يعجز عن إيجاد حل لأي مشكلة مهما كبرت، وإنما العجز والوهن في عقولهم وعزائمهم، أو في هممهم. أما نهاد طارق زعيان الكربولي، أستاذ التاريخ والحضارة بالجامعات العراقية، فقد تناول معنى التكية وثبت في فرق صوفية من غير القادرية والنقشبندية. قدمت الدراسة مفهومًا مختلفًا للتكيّة، بعيد عن الاتكاء والتواكل، وقالت إنها مكان المشقة الجسدية، ومخالفة كل ما تتوق إليه النفس البشرية، مفندة ما يزعمه المتحاملون على أهل التصوف، على حد تعبير الدراسة. بينما يتناول بهاء ناصر الخفاجي، الباحث والكاتب العراقي المختص بتاريخ البصرة، موضوع الصوفية في البصرة وما حولها قديماً وحديثاً وفيها رأى أن من أهم النقاط التي ساعدت على استمرار وثبات الطريقة الكسنزانية هو اتّباعها لشيخ حي حاضر مع احتفاظها بتقديس المشايخ المنتقلين إلى رحمة الله، بينما تجيز بقية الطرق الصوفية اتباع المشايخ المتوفين، مما جعل العلاقة بين المريد والشيخ علاقة عاطفية أكثر من كونها علاقة مباشرة يقوم بها الشيخ بتقويم وتربية مريديه بشكل مباشر، كما هو الحال في الطريقة العلية القادرية الكسنزانية. الباحث عبد السلام حسين المحمدي درس الباحث والسياسي العراقي، ببحثه أثر التصوف على الوحدة الوطنية العراقية، مؤكداً أن التصوف هو روح المجتمع العراقي، وقال «المجتمع العراقي لا يرى شيئًا غير التصوف نقطة التقاء قومي وديني ومذهبي، وهذا ما ذهب إليه العقلاء بدعمهم للمولد النبوي الشريف على اعتبار الجميع يلتقون على محبة الله ورسوله، ولا مزايدة لأحد على أحد في هذا الأمر» السنة والشيعة على حد سواء. رياض عامر القيسي، أستاذ وفنان عراقي متصوّف، خصّ دراسته للحديث عن رؤية الصوفية وتقلباتها ماقبل الديمقراطية وبعدها، معتبراً أن التعامل مع الديمقراطية من خلال الرؤية الصوفية المعاصرة في العراق لا تقتصر على اقتباس الآليات العملية التقليدية وتعديلها، كالانتخابات وحرية الرأي وتنظيم الأحزاب، بل يتطلب فهمًا خلاقًا ونقدًا للإيديولوجية التي قام على أساسها النمط الديمقراطي الأصلي في العصر الحديث، خصوصاً وأن هنالك أخلاقيات للديمقراطية لا بد من الالتزام بها إلى جانب الالتزام بالإجراءات السياسية. «قراءة نقدية لطرق عراقية: الرفاعية والإبراهيمية والكاكائية «، هكذا عنونت نظلة الجبوري، أستاذ الفلسفة بجامعة بغداد، دراستها التي رأت فيها أن العراق كان ومازال يشكل مكنون التوجه الروحي، وخزين العرفان الصوفي للعالم الإسلامي على ديمومة العصور ومتغير الدهور، إذ ضّمت رحابه وثنايا ترابه أجساد أعلام الفكر الصوفي ومشايخ طرائقه، والطريقة الرفاعية ثاني أكبر الطرق الصوفية، بعد الطريقة القادرية في العراق اليوم، ولها مريدوها وأتباعها، اتخذت من اللون الأسود راية لها لتمييزها عن غيرها من الطرق الصوفية. ورأت أن الرفاعية انطلقت من التمسك بالقرآن والسّنة في طريقها الصوفي، وممارساتها السلوكية وموافقة السلف الصالح على أحوالهم؛ حيث يتجرد مريدوها عن هوى النفس والزهد في الدنيا والصبر على البلاء، من خلال المجاهدة النفسية والرياضة الروحية الموصولة بالأذكار وقراءة الأوراد متبعين توجيهات الشيخ وإرشاداته، منقادين له ومنصاعين لأوامره، وأضافت: تهتم الإبراهيمية بالأرقام على غرار ما يلاحظ لدى بعض متصوفة الإسلام كمحيي الدين بن عربي والسهروردي المقتول، ولدى بعض الطرق الصوفية وتأويلها كالحروفية. إذ يُعدّ «العدد السابع والعدد الثاني والسبعين من أشرف الأعداد وأقدسها، وللطريقة الصوفية الإبراهيمية، ولدى الطريقة كتاب ديني مقدس يسمونه ( مناقب الأولياء) ما يزال مخطوطًا ضمن خزانة المخطوطات التركية المحفوظة. كتاب العدد من تأليف الباحث العراقي رشيد الخيون، بعنوان مئة عام من الإسلام السياسي بالعراق»، قرأه لنا عمر البشير الترابي. يأمل المركز أن يضيف هذا الكتاب للقارئ والباحث العربي ما يلبي شغف اكتشاف مجالات التصوف في المجتمعات الإسلامية.
رئـيـس المـركـز