مقدمة
هذا كتاب المسبار الـسابع والسبعون لشهر مايو (أيار) 2013، يطرح مسألة أبناء الطائفة الشيعية في مصر، وهو موضوع لم يَنَل حَظّه الكافي من البحث. ولعل هذا الكتاب يَسُد النقصَ في هذا الجانب، ويمثل تأسيساً يبنى عليه في أبحاث أكثر تفصيلاً وأشمل استيعابًا.
بعد الثورة المصرية يناير (كانون الثاني) 2011 وما استتبع ذلك من تقارب مصري/ إيراني ملحوظ، تعالت أصواتٌ تُحذّر من الامتداد الشيعي داخل مصر، مع بُدُوِّ تغيّر في مواقف مؤيدي التقارب إثر اكتشافهم أنه غير ذي جدوى، وظهر ثبات آخرين أو محاولتهم إمساك العصا من المنتصف، كما سنرى في ثنايا هذا الكتاب.
لكن ثمة أسئلة رئيسية تطرح نفسها عند فتح ملف الشيعة في مصر:
هل للشيعة امتداد حقيقي في مصر؟ هل هم مصدر خطر؟ ولو كان للشيعة امتداد فما مداه وما وسائله؟ وما موقف الأزهر وعلمائه حول هذا الأمر؟ وما موقف السلفيين بأطيافهم المختلفة؟ وما موقف شيوخ الطُرُق الصوفية؟ أهناك توحد في النظرة تجاه هذا الأمر؟ وما السيناريو المستقبلي المتوقع في مصر حول هذه القضية؟ تلك أسئلة أجاب عنها الباحثون في هذا الكتاب كلٌّ من زاويته.
نستفتح هذا الكتاب بدراسة أحمد عبد الرحيم، مدير إدارة النهضة بمركز النهضة للتواصل الحضاري بالسودان، الذي سلَّط الضوء على تاريخ الجامع الأزهر، والذي بِدءُ ليكون قلعة من قلاع الشيعة إبّان تكوينه الأول، ثم ما لبث أن غدا، بعد زوال حكم الفاطميين، قلعةً من قلاع أهل السنة حتى اليوم. ثم عرّج الكاتب على موقف الأزهر حديثًا من التشيع، ونقل لنا ظروف وملابسات تجربة (التقريب بين السنة والشيعة)، ومن هم أبطالها ومؤيدوها، بشيء من التفصيل، منذ وفود جمال الدين الأفغاني، الذي لاتزال التكهنات حول تَشَيُعهِ محل نقاش بين الباحثين حتى اليوم، ثم تلميذه محمد عبده، إلى شيخ الأزهر الخامس والعشرين، الشيخ سليم البشري، وشكك الباحث بنسبة كتاب (المراجعات) التي تضمنت مراسلات بين الموسوي وبين شيخ الأزهر، التي اختتمت باقتناع شيخ الأزهر بالمذهب الشيعي! ناقش الباحث واقعية هذه (المراجعات) منتقداً الأزهر وعلماءه، في (لا مبالاتهم) تجاه ما وصفه بزعم انتساب شيخ من أبرز شيوخه إلى المذهب الشيعي.
ويستمر الباحث في عرضه التاريخي حول تجربة التقريب التي لم تلق إجماعًا من كل شيوخ الأزهر منذ بدايتها، ما بين شدٍ وجذبٍ، وتقدمٍ وتأخرٍ، بحسب الظروف السياسية غالبًا، والأطماع الإيرانية في المنطقة التي تبينها “دولة الملالي لاحقًا” في أقوال وأفعال. تلك المعارضة من بعض شيوخ الأزهر عطّلت اعتماد المذهب الجعفري بوصفه أحد المذاهب التي يحتضنها بجوار المذاهب السنيّة. مع ظهور فتاوى من الشيخ شلتوت وغيره، تجيز التعبد على الفقه الجعفري وتهوِّن من شأن الخلاف بين السنة والشيعة. ولم يفت الباحث ذكر موقف الشعراوي المتقلب.
واختتم الباحث دراسته حول التشيع في مصر بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وما آل إليه الأمر، مُعَرجًا على آراء شيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب، والسلفيين، ومواقفهم الصارمة تجاه التشيع والتشييع، جاعلاً من زيارة الرئيس الإيراني نجاد للأزهر في ربيع 2013 حدثًا دالاً ومؤثرًا، فتناول اختيار إيران لتاريخ الزيارة، كما مرّ على آثارها العكسية، خاصة بعد وما وجهه شيخ الأزهر لضيفه من هجوم ناعم، أثار امتعاض إيران.
ويبدو خالد محمد عبده، الباحث في مركز دال للبحوث والدراسات والإنتاج الإعلامي، أشدّ إحسانًا للظن في مشروع التقارب، فنراه في بحثه يستشهد بالأمثلة والأدلة وأقوال الفلاسفة على القبول بالتعددية، ويرى فيها مدخلاً يرى فيه أهمية هذا التقريب، ويرى فيه أن الأزهر يشهدُ ردّة في هذا الجانب، عقب قناعة شيوخه به.
أما الباحث ماهر فرغلي، الباحث المختص في الشؤون الإسلامية، فقد بسط القول حول أهم الأحزاب والجمعيات والهيئات الشيعية في مصر، مُعرّجًا على أبرزها، ذاكرًا نبذةً عن كل منها، وعن تاريخها، وأهدافها، وظروفِ نشأتِها، وأهم مؤسِسيها وقادتها؛ وأبدى عدم ارتياحه لهذه الأحزاب موضحًا أنها تستغل التدين الفطري في الشعب المصري لتبث مبادئها، وتتسرب من خلال أنشطتها الثقافية والاقتصادية إليه، لكن هذه الأهداف التي تبدو مشتركة بين هذه المؤسسات على وجه العموم، لم تَحُل دون صراعات وراء الكواليس بين تلك الأحزاب والجمعيات وغيرها.
واستقرأ الباحث المرافق الشيعية في مصر من مساجد، ومدارس، وجمعيات، ودور نشر … إلخ، مما ستجده مفصلاً في بحثه؛ ليخلص بعد هذا إلى الإقرار بتعاظم ما سمّاه بـ (التمدد) الشيعي المنظّم داخل المجتمع المصري، والتخويف مما يمكن أن يؤدي إليه من تهديد للسِلم المجتمعي حسب وصفه.
فيما ناقشت فاطمة حافظ، الباحثة ومرشحة الدكتوراه في قسم التاريخ بجامعة القاهرة، المسألة المذهبية وعلاقتها بالإفتاء الرسمي والسلفي؛ جاعلةً مِحوَر بحثها حول الشيعة، ومواقف الفتوى منهم قبل الثورة وبعدها.
وتُلاحظ الباحثة أنه على الرغم من ملايين الفتاوى التي أصدرتها دار الإفتاء منذ تأسيسها في عهد الخديوي عباس حلمي في العام 1895؛ إلا أنه لا وجود يُذكر لأي فتوى حول الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية والتقريب، إلا فتوى واحدة للشيخ جاد الحق علي جاد الحق (ت 1996) اعتمد فيها على فتاوى علماء شيعة أجازوا للإمام أو نائبه عقد هدنة مع محاربيهم من غير المسلمين فنقله عنهم.
وتلحظُ أن الفتاوى بدأت تميل إلى التشدد بعكس ما كانت عليه في النصف الأول من القرن العشرين، عازيةً هذا إلى أسباب سياسية. وخصصت جزءًا من حديثها عن مفتي مصر الشيخ علي جمعة الذي استمرّ على نهج التقريب حتى وقت الثورة، ثم تغيّر خطابه بعدها.
هذا على صعيد الإفتاء الرسمي، فماذا عن الإفتاء السلفي؟
تُشير الباحثة إلى أن الخطاب السلفي في مصر يتخذُ موقفًا واحدًا تجاه الشيعة على المستوى المذهبي، إذ يعتبرهم فرقة زائغة ضالة، لكن على الرغم من هذا، تتباين مواقف السلفيين شيئًا ما تجاه (التقريب)، فالشيخ محمد إسماعيل المقدم، أحد مشايخ (الدعوة السلفية) في الإسكندرية، لا يرى أي وجه للتقريب مع الشيعة. وهو ذاته موقف (أنصار السنة المحمدية)، غير أن (الجماعة الإسلامية) تُفَرِّقُ بين ما هو مذهبي وما هو سياسي، فهي تتبنى وجهة النظر السلفية التقليدية تجاه الشيعة، ولكنها تفردت من بين السلفيين بتأييد حزب الله في حرب تموز 2006م، بل إن إيران نفسها سمّت أحد شوارعها في طهران باسم خالد الإسلامبولي، أحد أفراد الجماعة الإسلامية، الذي اغتال السادات عام 1981م، وقتل في أبريل (نيسان) 1982 إثر ذلك.
الباحث سالم الصبّاغ؛ باحث إسلامي ومتحوّل شيعي، يبدو أكثر الباحثين حماسةً لمشروع التقريب، ويوحي في بحثه أن التقريب يساعد على (عدم انتشار التشيع) في مصر، أكثر من (المواجهة) الحادّة المتمثلة في القنوات الفضائية المذهبية التي تخصصت للرد والرد المقابل، ويلفت الانتباه إلى أن العدوّ حقًا هو إسرائيل لا إيران، ويُدافع الكاتب عن الموقف الإيراني من الحرب الأهلية في سوريا، ذاهباً إلى أن القوى الغربية هي التي دفعت إلى تسليح المعارضة، بهدف تفتيت الدولة السوريّة إلى دويلات طائفية تخدم الكيان الصهيوني … ثم يخطو الباحث خطوات إلى الأمام فيرى الأزهر منضوٍ تحت المشروع الأمريكي في المنطقة! وأن نجاح السلطة الحاكمة في مصر هذه الأيام ـ سلطة الإخوان المسلمين ـ مرتبط بالتحالف مع إيران، لمواجهة المشروع الصهيو أمريكي، بحسب وصفه.
التحالف والاندماج بين الشيعة والصوفية في مصر، والافتراضات المثارة لقيت مساحةً مناسبة في الكتاب، إذ تناولها باحثان من زاويتين مختلفتين.
أما الدراسة الأولى فهي دراسة محمد حلمي عبد الوهاب، الباحث بالمعهد الألماني للأبحاث الشرقية، التي تناول فيها الاتصال بين الشيعة والصوفية، من خلال رؤى أكاديمية تناولت هذه القضية من وجهة نظر (سلفيّة) على وجه العموم. تلك الأبحاث كانت ترى أن هناك اتصالاً وثيقًا ومبكرًا بين التشيع والتصوف، بناء على معطيات قدمتها الدراسات، إلا أن الدكتور حلمي ناقشها مضعفًا إياها على الجملة، لينفي الاتصال بين التشيع والتصوف، وأن هذا الاتصال المزعوم إنما هو اتصال ذهني ليس إلا.
الدراسة الثانية للباحث في التصوّف الإسلامي، بلال مؤمن، وهي عن الصوفية والشيعة بين الدين والسياسة، كان مجمل البحث يؤكد أن علاقة الصوفية في مصر ليست شيئًا واحدًا، إذ لا خلاف أن الشيعة يتقاربون مع الصوفية في المبالغة بالاحتفاء بالأولياء وقبورهم ومشاهدهم ومزاراتهم، إلا أن مسألة العقائد والتساهل ليس متطابقاً بين الشيعة والصوفية، وقارب الباحث بين طائفتين صوفيتين مصريتين، الأولى وهي العشيرة المحمدية، والثانية وهي آل العزائم، مجريًا مقارنة بينهما، فالأولى تدعو إلى وحدة المسلمين والتعالي على الخلافات دون أي صلات سياسية بإيران، بعكس الطائفة الثانية التي لشيخها علاقات غير منكورة مع إيران وصلات وزيارات للجمهورية الإيرانية.
على الصعيد ذاته يتحدث الباحث محمود جابر، الصحافي والباحث في الشؤون الإيرانية، عن الشيعة والمتشيعين في مصر، ليسرد لنا تاريخيًّا ابتداء التشيع في مصر منذ موالاة مصر الخليفة الرابع علي بن أبي طالب في خلافه مع معاوية، ثم مرحلة العصر الفاطمي، ثم زوال هذا الأمر وبقاء جيوب للتشيع بين نسيج المجتمع المصري وجهت له الدولة عدة ضربات، ثم ذكر ما أعلنته الحكومة المصرية من اكتشافها بعض التنظيمات التي تمارس التشييع في مصر، لكنه في الوقت نفسه تناول التعاون والتقارب الثقافي بين مصر وإيران عبر مظاهر متعددة، غير مُغفِل وجودًا طفيفًا لمواطنين شيعة مصريين، مُذَكّرًا أن لهم حقوقًا في المواطنة لم ينالوها، منها أن يكون لهم أحزاب تمثلهم، وتستحق نيل التراخيص وفق القانون المصري.
ضمّ الكتاب حوارًا مع أحد رموز التشيع في مصر، محمد الدريني، أجراه محمد حلمي، أما قراءة الكتاب، فقد اختارت هيئة التحرير تقريرالتشيع في إفريقيا (تقرير ميداني)،الصادر عن لجنة تقصي الحقائق بمجلس الأمناء، باتحاد علماء المسلمين، وتولى نشره مركز نماء للبحوث والدراسات. وكلا المادتين احتوتا تفصيلات مهمة تدعم الكتاب بمادة نوعية.
ونود توضيح مسألة مهمة لقرائنا الكرام، حيث يبدو هذا العدد فريداً من نوعه، وربما مغايراً إلى حد ما للكتب السابقة، وتتجلى هذه الحقيقة كلما تعمق القارئ في موضوعاته، مستجلياً الروح التي تعامل بها كل باحث مع هذه القضية الحساسة التي عالجوها، كل منهم حسب رؤيته وأحياناً حسب ميوله وانتمائه وتصوره لمسألة الشيعة المصريين، فقد جاء هذا الكتاب كَشّافاً يساعد الخبراء- وليس القارئ العادي- لمعرفة كيف ينظر المصريون إلى أنفسهم وكيف يقدمون مايؤمنون به أو ما يتوجسونه، لهذا أطلق بعضهم العنان لنفسه للتعبير عما يؤمن به ونظرته تجاه من يختلف معهم سلطة وتياراً. ولم نتدخل في التحرير بذلك إلا قليلا، في إطار تخفيف المبالغات في التوصيفات والنعوت.
وفي الختام، يشكر مركز المسبار كوكبة الباحثين الذين لولا جهدهم وتعاونهم، ما كان هذا الكتاب. ونخص بالذكر االزميل محمد حلمي عبد الوهاب الذي نسَّق هذا العدد وأشرف عليه.
رئـيـس المـركـز