في التفاعل الإنساني مع الدين تُطل قضية الفتوى واحدةً من الأمشاج الرئيسة التي يتحكم بها الدين ورجاله في صناعة المجتمعات. ولفهم هذه العلاقة بين السلطان الديني متمثلا في الفتوى والواقع الاجتماعي كان لا بد من السياحة في التاريخ والحاضر ووسائط السياسة والمعرفة والفكر، تمهيدًا لدراسات تُضاف إلى رصيد المسبار في سبر أغوار المعرفة الاجتماعية الدينية السياسية لمنطقة الخليج العربي.
وللإجابة عن سؤال: من يتصارع على النفوذ الروحي؟ جاء هذا الإصدار الثامن والسبعون – يونيو(حزيران) 2013.
“الفتوى بين الإعلام والإلزام … نظرة موجزة في كتب التراث” دراسة قدّمها رائد السمهوري – باحث في الفكر الإسلامي وعضو هيئة التحرير بمركز المسبار – يضع يده فيها على تعريف الفتوى، مسلطًا الضوء على أنها قائمة على البيان والتبيين، وأنها قائمة أساسًا على (الإعلام) و(الإخبار) لا أكثر، وأنها لا (إلزام) فيها، وأنها مجرد (اجتهاد ظني) ليختم بحثه بنصوص لافتة تبين علاقة (المستفتي) بـالـ (مفتي)، وأنها علاقة قائمة على (الاختيار) بناء على (الاطمئنان) الشخصي للمستفتي، فله الحق أن يأخذ برأي أي المفتين يشاء، وما يطمئن إليه قلبه.
لكن على وجه أكثر تخصيصًا؛ نجد الكاتب والباحث السعودي طريف السليطي يتناول الإفتاء في المملكة العربية السعودية وطبيعته، من ثلاث جهات: الجهة الأولى ـ كما بيّنها الباحث ـ تتعلق بالارتباط الوثيق بين السلطة المادية (المتعلقة بالسلطان السياسي)، والسلطة الرمزية (المتعلقة بالسلطان الديني)، أما الجهة الثانية فتتناول الإفتاء في السعودية من حيث كونه حنبلي الأصل، ولكن الباحث يوضح أن الإفتاء في السعودية ليس صورة طبق الأصل عن المدرسة الحنبلية القديمة، إذ تلبّست الوهابية الحنبلية القديمة وشكلتها بنكهتها الخاصة، وتتناول الجهة الثالثة مسألة البعد الفردي للشيوخ في السعودية حتى وإن كانوا منضوين تحت مدرسة فكرية ومذهبية واحدة.
هناك دراسة أخرى توافق الباحث السليطي في بعض ما ذهب إليه، أعني تقريره أن المدرسة الحنبلية السعودية ليست هي الحنبلية التقليدية، تلك هي دراسة الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي- رئيس قسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء في الرياض- التي قرر فيها أن الحنبلية السعودية تجاوزت ما أصاب المذهب الحنبلي ـ شأن غيره من المذاهب الفقهية ـ من جمود وتقليد، فأحيت الاجتهاد وأعادت الأمر إلى الكتاب والسنة مباشرة، فأنقذت المذهب الحنبلي من الجمود ناقلاً نصًّا يؤيده في هذا للمؤرخ اللبناني أمين الريحاني، وفي إلماحات سريعة يصف الباحث الطريقي المدرسة الوهابية أنها حركية الطابع في الأصل معددًا مظاهر هذه الحركية، وبإلماحة أخرى بيّن الباحث أن المدرسة الوهابية ـ من حيث الأصل ـ لم تكن بمعزل عن السياسة.
ومن السعودية إلى الكويت، حيث يقدم لنا الباحث والكاتب الكويتي طلال سعد الرميضي نبذة تاريخية عن الفتوى في الكويت، فالشعب الكويتي شعب متدين بطبيعته، ويعرج الكاتب على تاريخ الكويت الماضي إلى تولي المفتي منصب (قائمقام) تعينه الدولة العثمانية، وذكر الرميضي بعض المفتين والقضاة الذين تولوا هذا المنصب الذي لم يكن له من دور أكثر من فض النزاع بين المتخاصمين بالشرع، وإن كان الكاتب ذكر مثالاً لأثر الفتوى اقتصاديًا واجتماعيًا على المجتمع الكويتي، إذ عرض في إحدى السنوات أن كان موسم اللؤلؤ مصادفًا لشهر رمضان، وكان مصدر دخل رئيسيًا في الكويت، وكان على الغواصين أن يفطروا لاضطرارهم إلى ذلك لكسب القوت، فسألوا علماء العراق ومكة وغيرها فكان الجواب بالتحريم، ما أدى إلى تخلخل الوضع الاقتصادي، لكن الكاتب أشار إلى أن علماء الكويت أنفسهم امتنعوا عن هذا الإشكال، ويستنبط الباحث أنه ربما تحفظ العلماء عليه لما له من أضرار لا يريدون تحمل مسؤوليتها.
وفي خاتمة بحثه لا يفوّت الباحث الإشارة، من طرف خفي، إلى الاستغلال السياسي الحزبي لبعض فتاوى المفتين غير الرسميين، وإن كان لم يتعمق في دراسة هذه الحالة وآثارها.
هل يختلف الوضع في البحرين عن الوضع في السعودية وفي الكويت؟ يخبرنا الباحث البحريني عباس المرشد أن للبحرين خاصية ليست موجودة في غيرها من دول الخليج؛ فليس في البحرين وظيفة مخصصة يشغلها ما يسمى (المفتي العام)، هذا أولاً، أما ثانيًا فعلى الرغم من وجود مؤسسات دينية كالأوقاف وغيرها إلا أنها تخلو من وظائف مخصصة للإفتاء، فليس هناك إلا القضاء الشرعي، وأخيرًا فالإفتاء في البحرين ليس خاضعًا لمؤسسة دينية بل إلى سلطة مركزية أقوى.
أكد الباحث نقطتين: أن الفتوى كانت تحت طائلة الإدارة المدنية وخاضعة لها، وأنها شهدت تعددية بحسب تعددية المذاهب في البحرين.
حول الفتوى وعلاقتها بالسياسة قدّم الدكتور رشيد الخيون – الباحث المتخصص في الفلسفة والتراث الإسلاميين- أطروحة خصص فيها الحديث عن الفتوى عند علماء الشيعة، وعدد فيها أبرز الفتاوى التي كان له دور مهم في الشأن الاجتماعي والسياسي، فتاوى تؤيد النظام السياسي، أو فتاوى تشجبه، فتاوى تحارب الأحزاب، وفتاوى تبيحها، فتاوى ضد المستعمر، وفتاوى ضد الدستور والبرلمان، أو فتاوى توافقه. ربما يجدر التنبيه هنا إلى أن الحالة الشيعية ليست إلا نموذجًا لأثر الفتوى الاجتماعي والسياسي لا يختلف عن الحالة السنية في أثر الفتوى على الواقع السياسي والاجتماعي.
أما الباحث والكاتب العُماني خميس بن راشد العدوي الذي حملت دراسته عنوان: “مؤسسة الإفتاء في سلطنة عُمان”. ويرى فيها أن تطوِّر مؤسسة الإفتاء هومن نفسها، وذلك لأنّ التطور سنّة من سنن الوجود، وربما تشهد تحولا جذريًّا في الحركة النقدية للفكر الديني، والدراسات التحليلية، وتعدد الرؤى الفقهية، وتطور الخطاب الديني، وإلا لربما واجهت (ما وصفه) بالانسداد الفقهي – حسب تعبيره، كما يرى أيضا أن علاقة المؤسسة الإفتائية بالسلطة أصبحت جزءًا من مؤسسات الدولة، وأنّ المؤسسة سارت على التقليد العماني نفسه، بعدم تدخل الدولة في الفتوى، وعدم اشتغال الفتوى بالسياسة، رغم أنّ المفتي يُعبّر عن آرائه السياسية بما يريد خارج مؤسسة الإفتاء.
قدم لنا الباحث السوداني وعضو هيئة التحرير في مركز المسبار عمر البشير الترابي قراءة في كتاب ثقافة التحريم للمؤلف عبدالله بن سليمان العتيق.
إن مركز المسبار إذ يقدم هذا البحث إنما يقدم إلماحة سابقة ـ وإن كانت موجزة ـ عن تاريخ الفتوى في الخليج، وأثرها الاجتماعي والسياسي، على الرغم من أن الموضوع بحاجة إلى مزيد من الدراسات تعالج هذا الأمر الحيوي بطرق متعددة ومن زوايا مختلفة.
رئـيـس المـركـز