تقديم
اضطلع الأزهر الشريف الذي يُعد أكبر المرجعيات الدينية للمسلمين بأدوارٍ تاريخية ووطنية وعلمية، وبلور أنموذجاً لإسلامٍ وسطي حاضن للتقليد الإسلامي السُنّي، ورغم المحاولات الدؤوبة منذ عقود للحد من مركزية الأزهر وإشعاعه الحضاري، حافظ على دعائمه، وتمكَّن من تجاوز العواصف السياسية والدينية، ومر بحالٍ من المدّ والجزر، واستعاد موقعه الريادي بعد إصداره عدداً من الوثائق التأسيسية التي أعقبت «ثورة 25 يناير» في مصر.
في كتاب المسبار «الأزهر.. مرجعية التقليد السُنّي في أزمنة التغيير» (العدد الثامن والثمانون/ نيسان (أبريل) 2014) قدم أكاديميون وباحثون مختصون دراسات مهمة، أحاطت بتاريخ الأزهر وماضيه وحاضره ومستقبله، وتمحورت الأوراق المقدمة حول قضايا شائكة تُعنى بهموم كبرى المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي.
جاءت دراسة أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية رضوان السيد تحت عنوان «الأزهر.. الحاضر والتحديات المستقبلية». يستشرف الأكاديمي اللبناني مستقبل الأزهر، ساعياً إلى إبراز أهم التحديات التي تعترضه وسط «التنافُس على المرجعية الدينية». يرى أن الأزهر شهد حلقات عدة من القلق، الحلقة الأولى ظهرت مع الدعوات إلى الخروج على التقليد، وفتح باب الاجتهاد، دونما تقيد بأيّ مذهب، بحجة أنّ التقليد تجمَّد، وأنّ الصوفية فسدت، كما أنّ العقيدة الأشعرية السائدة في الإسلام السنّي، ما عادت ملائمةً للرؤى الجديدة للدين وللعالم، والحلقة الثانية أتت من «الإحيائيات» فقد نشأت في معظمها خارج الأزهر، لكنها ما تحدثت عن الاجتهاد فقط، بل تحدثت إضافةً لذلك عن الشرعية: شرعية المجتمع والدولة، وهذا القلق ناجمٌ عن المفهوم الجديد للدين ولعلاقاته بالدولة؛ والحلقة الثالثة ظهرت خلال الثورة المصرية. يتطرق السيد إلى الوثائق الخمس التي أصدرها الأزهر مبيناً أهميتها ودوافعها التي أوجبتها عوامل عدة: الخوف من صعود الإسلام السياسي؛ القلق مما يجري في العالم العربي في أزمنة التغيير؛ تفاقم العنف في مصر والعالم العربي؛ التوجس على وحدة الشعب المصري نتيجة التضييق الذي تعرض له الأقباط في السنوات الأخيرة، بسبب موجة التشدد والضيق بالآخر، ما يعني النيل من «ثوابت فقه العيش».
يقدم الأكاديمي التونسي محمد الحدّاد قراءة تحليلية للوثائق التي أصدرها الأزهر. وقبل الخوض في متون الوثائق، يخلص أستاذ كرسي اليونيسكو للأديان المقارنة إلى أن الأزهر وجد نفسه فجأة يواجه متغيرات سياسية ودينية عميقة، وتعامله معها سيحدّد له دوره المستقبلي ويرسم وظائفه القادمة، ويحسم صراعه مع «الفاعلين الجدد في إدارة المقدس»، من بينهم الإخوان المسلمون. يؤسس الحدّاد بحثه المعنون «وثائق الأزهر.. المضامين والدلالات» على فرضية أساسية مفادها أنّ الأزهر سعى بعد الثورة المصرية إلى الاستفادة من الوضعية الجديدة لتجذير دوره القيادي؛ وذلك بانتزاع صفة الوسطية عن حركات الإسلام السياسي، وتجسيدها تجسيداً وطنياً يحظى بمقبولية واسعة. ثلاث وثائق تناولها الحداد بالدرس والتحليل: الأولى «وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر»؛ الثانية «وثيقة الأزهر حول منظومة الحريات الأساسية»؛ الثالثة «وثيقة الأزهر لحقوق المرأة».
تناول الأمين العام للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في لبنان خلدون عريمط في دراسته: «الأزهر في مصر.. التاريخ والدور» ثلاثة محاور: دور الأزهر الاجتماعي والسياسي والديني؛ دوره الوطني في قيادة الحركة الوطنية، التي بدأت بشكل واضح منذ منتصف القرن السابع الميلادي حين أُنشئ منصب الإمام شيخ الجامع الأزهر في العهد العثماني؛ دوره في ثورة 23 يوليو (تموز) 1952. يؤرخ الباحث لأهم الأدوار التي صنعها الأزهر عبر موقعه جامعاً وجامعة، ورغم مراحل الانكفاء التي شهدها على حقبات عدة استطاع الحفاظ على زخمه مع تعاظم مهامه الثقافية والفقهية. يعرض عريمط لمسار الأزهر وتاريخه، هبوطاً وصعوداً، منذ تأسيسه على يد الفاطميين مروراً بزمن الأيوبيين وصولاً إلى سلاطين المماليك والسلطنة العثمانية حتى قيام ثورة الضباط الأحرار أوائل خمسينيات القرن المنصرم.
درست مستشارة التنمية المجتمعية في المجلس القومي للسكان (القاهرة) فيفيان فؤاد تفاعلات العلاقة وتوترها بين الأزهر الشريف والأقباط ضمن محطات تاريخية عدة: التصدي المشترك للاحتلال الإنجليزي والانخراط في ثورة 1919، وحقبة السبعينيات وما تلاها، حيث عرفت توترات متصاعدة، وتفاعلات ما بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني). في دراستها التي حملت عنوان «الأزهر والأقباط: من علاقات دفاعية إلى حوارات تأسيسية» كثفت الباحثة المصرية مادتها حول التوتر الديني الذي أعقب ثورة 25 يناير، الذي بدأت بوادره بأحداث مختلفة، ما دفع شيخ الأزهر أحمد الطيب إلى إطلاق مبادرة «بيت العائلة المصرية»، تضم الأزهر الشريف والكنائس المصرية الثلاث: (الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانتية) من أجل احتواء مظاهر الاحتقان، اتخذت لاحقاً طابعاً مؤسسياً. ويهدف «بيت العائلة المصرية» إلى ترسيخ ثقافة المواطنة بين كل أبناء الوطن، وإصلاح الخطاب الديني الإسلامي المسيحي، والعمل القاعدي في مناطق التوترات الدينية. في الخلاصة ترى الباحثة أن التواصل بين الأزهر والأقباط بعد ثورة 25 يناير كان دفاعياً لمواجهة تحديات المرحلة الانتقالية من تهديدات تتعلق بتغيير طبيعة الدولة المصرية، والتشنج الديني بين المسلمين والأقباط، وأخرى تتعلق بتغيير الهوية الوسطية للأزهر.
عملت الباحثة المصرية فاطمة حافظ في ورقتها «موقف إمامة الأزهر من ثورة يناير وتحولاتها» على تتبع التطور الحاصل في موقف الأزهر من الثورات العربية، ودراسة تأثيراتها المختلفة عليه، وتبين انخراط الأزهر في التغييرات السياسية الحاصلة في مصر بعد الثورة، على نحو يكشف طبيعة علاقته الجديدة بمؤسسة الدولة، وسعيه إلى البحث عن دور جديد. وتنطلق حافظ من فرضية مؤداها أن التحدي الذي واجهته القيادة الأزهرية، مع بداية ثورة يناير، لم ينقضِ بعد، وإنما اختلفت طبيعته، فبينما كان التحدي إبان الثورة وبعدها مباشرة هو كيفية استعادة هيبة المؤسسة ودورها في المجال العام، وهو ما نجحت في اجتيازه بسهولة، بفضل الدور الحاسم الذي لعبه الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب؛ فإن تحدياً آخر، لا يزال قائماً، برز بعد الثورة تدريجياً ويتعلق بالحفاظ على تماسك المؤسسة ووحدة مواقف أبنائها، وازداد عمقاً في أعقاب 30 يونيو (حزيران).
حملت دراسة الباحث اللبناني محمد السماك عنوان «مخاوف الأزهر من الصراع الديني والمذهبي». يقول أمين عام لجنة الحوار الإسلامي – المسيحي: إن المسلمين يواجهون تحديات في علاقاتهم، مع العديد من الأديان والعقائد الأخرى وأن الإسلام يواجه تحديات في علاقته مع المذاهب المتعددة المنبثقة عنه، خصوصاً مع الشيعة والعلويين والإسماعيليين. وبناءً على قراءته لوثيقة الأزهر حول مستقبل مصر، رأى السماك أنها قدمت الضمانة في حقوق أتباع الديانات الأخرى في الاحتكام إلى شرائعهم الدينية، وفي ذلك تلاقٍ مع «الإرشاد الرسولي» الذي أعلنه البابا بنديكتوس السادس عشر من لبنان بعد السينودس حول الشرق الأوسط عام 2010، الذي عقد برئاسته في الفاتيكان، والذي أكد الحرية الدينية للمسيحيين. إن الاحتكار العقائدي والتنوع المجتمعي لا يلتقيان ولا يتهادنان، فالإسلام – كما يؤكد السماك- ليس احتكارياً؛ وأكدت وثيقة الأزهر الإيمان بالتنوع، وحق الاختلاف.
أما الباحث المصري محمد حلمي عبد الوهاب تطرق في دراسته: «الأزهر والتشيّع… فتوى شلتوت وكتاب المراجعات» إلى مرحلتين رئيستين من مراحل تطور العلاقة بين الأزهر وبعض رجال الدين الشيعة: مرحلة التقريب، ومرحلة التنافس على المرجعية. سبق التفكير في مسألة التقريب بين السُنّة والشيعة كلام كثير حول سليم البشري (1832-1916)، الإمام الخامس والعشرين للأزهر الشريف، فبعد وفاته بنحو أكثر من عشرين عاماً ظهر كتاب «المراجعات» لعبد الحسين شرف الدين الموسوي (1873-1957) وهو حصيلة مراسلات بينه وبين البشري، أثار هذا الكتاب جدلاً كبيراً لا يتعلق فقط بفحوى ما ورد فيه وإنما بصحته أساساً. بدأت العلاقة بين الأزهر وبعض رجال الدين الشيعة انطلاقاً من فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية ولم تسلم – كما يردف الكاتب – من نقد قام به جامعيون في الأزهر، وعارضها كثير من شيوخه. توطدت فكرة التقارب وتابعت تقدمها الحذر إلى أن تمّ تأسيس دار التقريب التي تبعها فتوى محمد شلتوت حول جواز التعبد على مذهب الشيعة الإمامية. يتحدث الباحث عن مخاوف الأزهر من التشيّع، معتبراً أن مواقف الإمام أحمد الطيب تجاه الشيعة اتسمت بالتذبذب، متوقعاً أن تظل وتيرة الصراع بين المؤسسة الأزهرية والشيعة على حدتها.
«الأزهر والإخوان المسلمون… الماضي والحاضر» عنوان دراسة الباحث المصري في الحركات الإسلامية حسين القاضي، تناول فيها العلاقة التاريخية بين الأزهر والإخوان، ثم محطات العلاقة بعد 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، وموقف الأزهر من وصول الإخوان إلى السلطة، مع رصدٍ لمحاولات تغلغل الجماعة في الأزهر، وتطورات موقف الأزهر من 30 يونيو (حزيران) عام 2013. أكد الكاتب أن مباركة الأزهر خروج الجماهير في 30 يونيو تقاطعت مع موقفه الرافض للدولة الدينية، لأن الدولة في مفهومه لا تقوم إلا على مراعاة المبادئ العليا للدولة المدنية الحديثة، من حيث إنها لا تجد تضاداً مع المرجعية الإسلامية.
عرض الباحث المصري بلال مؤمن في دراسته «الأزهرُ والصوفية: العلاقة الملتبسة مع السلطة» لكيفية مقاربة الأزهر والحركات الصوفية في مصر للدولة والسلطة على فترات مختلفة، حيث بقيت هذه الروابط في سياق الاحتواء والاستيعاب إلى أن ظهرت حركات الإسلام السياسي عام 1928. يقول الكاتب: إن العقل المحافظ للطرفين – أي الأزهر والمتصوفة- هو الذي يقود الموقف السياسي، «فكلاهما اقتصرت مشاركته السياسية تاريخياً على الاضطلاع بالدور الوطني في مواجهة العدوان الخارجي على الأمة، تأسيساً على مفهوم إسلامي واضح في الجهاد، وربما ساهم بعضهم في إشعال بعض الانتفاضات في مواجهة أحد الحكّام المستبدين»، كل ذلك كان قبل المأسسة. يتعقب مؤمن العلاقة بين المثلث الصوفي والأزهر والدولة على حقبتين: الأولى، ثورة يوليو (تموز) 1952؛ والثانية، ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011. يخرج بست نتائج، أهمها قوله: «ثمة تمازج تاريخي قد حدث بين الأزهر وجماعة المتصوفة، وهذا التمازج زاد من جمود العقل الأزهري، ورسخ عوامل المحافظة والركون في داخله».
خاتمة الدراسات قدمها الباحث المصري المختص في الحركات الإسلامية والطرق الصوفيّة مصطفى زهران، عنوانها «الأزهر والسلفيون.. تاريخٌ من السجَالات الفكريّة والعقائديّة». تحدثت الدراسة عن جدلية العلاقة بين الأزهر والسلفيين على مستوى التاريخي والعقائدي، وتناولت روافد هذه العلاقة بعد «ثورة 25 يناير»، ووقفت عند موقف الطرفين من «ثورة 30 يونيو »، كما قاربت خطاب السلفيين والأزهر، من خلال ثلاث قضايا: الشيعة وإيران، والأقباط، والمرأة.
أجرت الباحثة اللبنانية عضو هيئة التحرير في مركز المسبار ريتا فرج قراءة في كتاب «مستقبل الأزهر بعد الثورات العربية» لمؤلفه الباحث المصري أحمد محمود السيد. يؤرخ الكاتب لدور الأزهر من العهد الفاطمي حتى الثورات العربية، متناولاً مسائل مختلفة مثل قضية إصلاح التعليم ودور الأزاهرة الوطني، طارحاً مجموعة سيناريوات ومحاولاً استشراف مستقبل الأزهر.
«العلويون في سوريا.. التاريخ، الحاضر، المستقبل» دراسة عدد قدمها الباحث الأردني محمد العواودة درس فيها الحالة العلوية في سوريا، تاريخها وحاضرها، محاولاً مقاربة مستقبل الطائفة لا سيما بعد تحولات العام 2011.
في الختام يتوجه مركز المسبار بالشكر إلى كل الباحثين المشاركين، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسّقت العدد، على أمل أن تجدوا في الكتاب ثمرة جهدها وفريق العمل.
رئيس المركز