تقديم
تميز العالم العربي بخاصية التعددية الإثنية والدينية منذ القدم، فعلى أرضه نشأت الأديان والمذاهب إلى جانب التعدد القومي وتآلفت مع بعضها البعض على امتداد تاريخ طويل، من غير انكار ما تؤثره الاضطرابات السياسية والأمنية، مما أدى إلى تراجع أعداد نفوس الأقليات الدينية على وجه الخصوص.
عمل المسيحيون في الشرق مع شركائهم من الديانات الأخرى على بناء الحضارة العربية الإسلامية، فحافظوا على تراثها وأغنوا اللغة وتقاسموا مع المسلمين القضايا الوطنية الكبرى. بقي المكوِّن المسيحي على الرغم من نزف الهجرة المتفاقم في العقود الأخيرة جزءاً لا يتجزأ من ماضي المنطقة وحاضرها، وقد عرفت المسيحية في الشرق حلقات عدة من القلق لأسباب مختلفة، غير أنها اليوم وبفعل التداعيات الجارية في بعض الدول العربية دخلت في حالٍ من التوجس تتسع دائرته في مصر ولبنان وسورية والعراق وفلسطين.
يتقاطع كتاب المسبار: «المسيحيون في الشرق» (العدد الواحد والتسعون – يوليو/ تموز – 2014) مع تنامي مخاوف المسيحيين في أماكن انتشارهم، ومرد ذلك ثلاثة عوامل رئيسة فرضها المشهد الإقليمي: صعود الإسلام السياسي والسلفي، ومؤثرات الحدث السوري عليهم بدءاً من العام 2011 سواء من كان منهم داخل سورية أم في دول الجوار، وخروج مسيحيي العراق من الموصل إثر سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على المدينة.
تركت الظاهرة الطائفية وما أثارته من قلاقل نتائج خطرة على بعض المجتمعات المتعددة. ليست هذه القضية عاملاً طارئاً على تاريخ الشرق، بدأت إرهاصاتها مع ضمور الدولة العثمانية وضعفها. وقد تناول الأكاديمي والمؤرخ اللبناني مسعود ضاهر في ورقته البحثية: «المسألة الطائفية في السلطنة العثمانية» الجذور التاريخية لهذا الموضوع الشائك فعالج المسألة الطائفية تحديداً في بلاد الشام منذ لحظة انفجارها في القرن التاسع عشر وحتى انهيار السلطنة نهاية الحرب العالمية الأولى. وقدم لمحة تاريخية تكشف عن عواملها الداخلية والخارجية، محللاً الأسباب الكامنة وراء تحول نظام الملل العثماني أو الطائفية المستقرة إلى طائفية متفجرة، تحولت اليوم إلى عصبيات مذهبية مدمرة تهدد مستقبل شعوب الشرق الأوسط المعاصر.
تناول مدير مركز الدراسات المسيحية ـ الإسلامية في جامعة البلمند (لبنان) جورج مسوح في دراسته قضية دولة المواطنَة التي تُعد من أولويات المسيحيين في الشرق منذ عصر النهضة إلى اليوم. يعود بنا إلى بدايات ظهور الفكرة القومية والعلمانية والاشتراكية لدى المسيحيين قبيل سقوط الدولة العثمانية، ويلقي الضوء على أبرز المعطيات التي جعلتهم في حال من «الأقلوية» والتي تعني أن ثمّة عوامل تضافرت من أجل دفعهم إلى سلوك هذا المسار، وعلى رأسها الاحتلالات وحدّة الاحتراب الطائفيّ والمذهبيّ، وتنامي التطرّف الإسلاميّ والحركات العنفيّة في الإسلام. يؤرخ مسوح لأهم الأفكار والمشروعات النهضوية التي رفعها المفكرون المسيحيون من أمثال بطرس البستاني وشبلي الشميّل وفرح أنطون والتي طرقت باب العلمانية والوحدة والوطنية والاحترام المتبادل والمواطنَة والتمدين وبناء الدولة الحديثة. وإلى جانب الهم النهضوي السياسي أسهم المسيحيون – كما تبرز الورقة – في السعي لنهضة الإنسان العربي وحضروا في كل الثورات العربية المناهضة للاستعمار والاحتلالات.
يرى بعض الباحثين أن قضية المسيحيين في الشرق ترتبط بالعجز عن إدارة التعددية. وفي هذا المجال درس أستاذ العلوم السياسية في جامعة صلاح الدين (أربيل) حسام الدين علي مجيد في دراسته المعنونة «إشكالية التعدد… مقارنة بين الدولة العربية والغربية» أهم المفاصل التي تطرحها المشكلات الجوهرية للمجتمع المركَّب ثقافياً ودينياً عبر محاولة الكشف عن وَتَرِ التوازن ما بين الوحدة والتنوع. اعتمد الباحث على المنهج المقارن نظراً لالتقاء الأنموذجين الغربي والعربي للدولة – الأمة في مَواقع شبهٍ وتباينٍ كثيرة، مما يُتيح إمكان تحليل أنموذج الدولة المتعددة الثقافات بوصفهِ القطب المعاكس للدولة- الأمة، والذي تنتقل صوبهُ العديد من الدول الغربية تدريجياً بهدف التكيّف مع تبايناتها الثقافية واستيعاب مطالبها. حاول الأكاديمي العراقي الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما المرجعية الفكرية للدولة العربية وكيف تتعامل بموجبها مع أقلياتها الثقافية؟ ما مدى انتهاج الدول العربية لسياساتٍ التعددية الثقافية (Multiculturalism) وكيف؟ وهل من إمكان لِتطبيق نظرية التعددية الثقافية في العالم العربي بغية إصلاح حال دولتهِ وأساسها الفكري؟.
«المسيحية… عشرون قرناً من تاريخ العراق» دراسة قدمها الباحث العراقي المختص في الفلسفة الإسلامية رشيد الخيون، كشف فيها عن العمق التاريخي للمسيحيين في بلاد ما بين النهرين. يستهل الكاتب ورقته بالحديث عن كيفية دخول المسيحية إلى العراق، وسط تنوع الروايات، وانتشارها وبناء كنائسها ومن ضمنها كنيسة «المدائن» التي تشير رواية إلى أن تأسيسها يعود إلى القرن الأول والثاني الميلاديين، أي في الأعوام (79 – 116م).
يتحدث الخيون عن مكانة «الحيرة» لدى المسيحيين عبر التاريخ والذكراة، كما يعرض للعلاقات بين الكنيسة بالعراق والمسلمين منذ انبعاث الإسلام مروراً بالعهدين الأموي والعباسي وصولاً إلى العهد العثماني. ويتطرق إلى أحوال المسيحيين في العصور الإسلامية والاضطهادات التي تعرضوا لها بفعل السُّلطة، بأيدي ملك أو خليفة أو أمير أو آغا. ويرصد إلى جانب المادة التاريخية أحوال المسيحيين في العراق منذ عام 2003 مستنداً إلى إحصاءات تبين تناقص عددهم آخذاً بالاعتبار سيطرة «داعش» على محافظة الموصل حيث تعرض مسيحيوها، وهم سكانها القدماء إلى واحدة مِن فظائع الإسلام السِّياسي، عندما خيرَ أبو بكر البغدادي مسيحيي الموصل بين ثلاثة خيارات: الإسلام، أو عهد الذِّمة، أو السَّيف.
حملت دراسة الباحث العراقي رعد عبدالجليل عنوان: «سياسة الهوية: دراسة في التجربة العراقية» حيث درس موقع الهوية الوطنية في الدستور العراقي الذي تمّ إقراره عام 2005. ينطلق أستاذ النظرية السياسية في جامعة صلاح الدين (أربيل) من فرضية رئيسة: أن الدستور لم يوفر شروط عدم الاستقرار الذي ساد المراحل الماضية من عمر الدولة العراقية، بدلالة الفشل في عملية الاندماج الوطني وما نتج عنها من صياغات غير منصفة للهوية الوطنية العراقية. يرى عبدالجليل أن الدستور العراقي يسعى إلى مواجهة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، بمعايير تجمع بين فلسفات عدة؛ ليبرالية وجماعاتية ويسارية (اشتراكية) على الرغم من أن لكل منها مطالبها الخاصة وشروطها، بل ربما تنفي إحداهما الأخرى، حيث تتجسد الاتجاهات الليبرالية، ولو في حدودها الضيقة، في موضوع حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية؛ كحق الحياة والتملك والتعبير. يتحدت الباحث أيضاً عن أن الدستور العراقي يهتم بالتوجه ويركز على ما للجماعات من مكانة واحترام ودور في الحياة الاجتماعية والسياسية، يتجلى ذلك في ربط العديد من الحقوق التي يفترض كونها لصيقة، كما هي الحال لدى الليبرالية، بالوجود الفردي ذاته، كحرية الاعتقاد، بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد. يخلص عبدالجليل إلى أن الطبقة السياسية التي حكمت العراق، وعلى الرغم من التوجه الديمقراطي الذي يبدو عليه دستور 2013، عملت على تأجيج الفتنة الطائفية واستخدام الإكراه وتكريس أنموذج حكم الأغلبية الطائفية على حساب الهوية الوطنية والاندماج الوطني.
جاءت ورقة الباحث اللبناني سركيس أبو زيد تحت عنوان: «مسيحيو لبنان بين الصراع المذهبي والقلق على الوجود»، يؤكد فيها تعقد المشهد المسيحي في لبنان بسبب الصراعات المذهبية والتخوف من الجوار المعادي والجوار الصديق، لاسيما «تداعيات الحرب السورية». ترتكز الدراسة على ثلاثة محاور، الأول: المسيحيون اللبنانيون عشية الربيع العربي؛ والثاني: المسيحيون اللبنانيون والتحولات العربية الأخيرة: تحديات وجودية؛ والثالث: حرب وجود المسيحيين: تحديات واستجابة. عرض أبو زيد خلال معالجته للمحاور بعض الجداول والأرقام التي تبين التوزيع الديموغرافي للطوائف في لبنان، متناولاً موضوع عمليّات بيع وشراء الأراضي، التي تنقل ملكيّتها من أفراد مسيحيين إلى أفرادٍ مسلمين، وما تتركه من مخاوف كبيرة لجهة الفرز الطائفي والجغرافي الذي قد ينجم عنها.
عرض الأكاديمي الفلسطيني عمر محاميد أحوال المسيحيين في فلسطين، وركزت دراسته على الدور الوطني للكنيسة والتراجع الديموغرافي الخطر لمسيحي فلسطين إلى جانب تهويد الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس. وفي هذا الإطار تتحدث الورقة عن مصادرة الأوقاف المسيحية من قبل إسرائيل، وعمليات البيع والشراء لا سيما لأوقاف البطريركية الأرثوذكسية. يشير محاميد إلى خطط تجنيد المسيحيين في الجيش الإسرائيلي وما أثارته هذه القضية من ردود أفعال منددة من قبل الأحزاب والمنظمات والشخصيات المسيحية الدينية والوطنية.
تحاول أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة مي مجيب عبدالمنعم مسعد في دراستها المعنونة: «الأقباط في مصر: المخاوف والمستقبل» الإجابة عن تساؤل رئيس: ما العوامل المؤثرة على وضع الأقباط في مصر (الثورة) على المستويين السياسي والمجتمعي؟ ترى الباحثة أن وضع الأقباط فى مصر تعرض للعديد من المعطيات والمستجدات السياسية والمجتمعية على مدار الأعوام الثلاثة السابقة بدءاً من طبيعة العلاقة بين الدولة والكنيسة، مروراً بانخراط الأقباط فى العمل السياسى بعيداً من سيطرة الكنيسة، ثم تواتر الأحداث الطائفية وتغير طبيعتها، وتغير القيادة الدينية للكنيسة الأرثوذكسية، وصعود تيار الإسلام السياسي، ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، ثم قيام «ثورة الثلاثين من يونيو» ودور الأقباط فيها. تعالج الورقة أمراً مهماً: ثلاثية النظام – الكنيسة – الأقباط، لا سيما حين تدرس وضع الأقباط تجاه كل من الكنيسة والنظام، وتجاه العلاقات الاجتماعية مع المسلمين.
قدم رئيس رابطة الكنائس الإنجيلية في الشرق الأوسط أندريه زكي إسطفانوس، قراءة نقدية لخطاب جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين تجاه الأقباط في مصر. بدأت الورقة في تفسير مصطلح «الخطاب الديني» ومن ثم انتقلت إلى مقاربة ثقافة التشدد والتسامح التي لها جذور عميقة في التاريخ المصري. تركز الورقة على خطاب الحركات الإسلامية في مصر تجاه الأقباط ضمن مرحلتين زمنيتين، الأولى: ما قبل الربيع العربي؛ والثانية: الأقباط ما بعد «ثورتي يناير ويونيو».
عالج الباحث السوري في الفكر الإسلامي حمّود حمّود في دراسته: «سورية: صعودُ الجهادية وصراعٌ على المسيحية» أوضاع مسيحيي سورية بعد عام 2011. تحاول الورقة الإجابة عن واقع المسيحيين في ظل الخريطة الجهادية وتأثيراتها على وجودهم، وتضعنا في خلفية عامة عن التدرج الذي طاول المسيحيين وتفاعلهم مع الأحداث الجارية، وتجيب عن إشكال دعم المسيحيين للنظام السوري – كما يرى الكاتب- وما يتصل بها من قراءات لا تستند إلى الشرط المسيحي وفق استحقاقه. فغالباً ما يتهم مسيحيو سورية بالوقوف إلى جانب النظام الحاكم وانخراطهم ضمن تحالف دُعي بـ (تحالف الأقليات).
قرأ أستاذ الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية ميشال سبع نص الإرشاد الرسولي «الكنيسة في الشرق الأوسط شركة وشهادة» الصادر عن الفاتيكان عام 2012. تركزت قراءته على الفصل الأول من نص الإرشاد الرسولي وعلى بعض النقاط المهمة الواردة في الفصل الثالث (الحوار الإسلامي – المسيحي، والمفهوم الكتابي للوحي والتبشير المسيحي). اعتمدت القراءة على ثلاث نقاط أساسية، الأولى: التحولات في السدة البابوية بين التزمت والانفتاح؛ الثانية: العلاقة مع المسلمين أو الحوار المسيحي – الإسلامي؛ الثالثة: الصراع العربي – الإسرائيلي. يخرج سبع بست ملاحظات تعقيباً على «الإرشاد الرسولي» من بينها: أن الإرشاد أخذ شكل التوصيات ولم يضع خريطة طريق لعمل تغييري، لذا فبعد مرور سنتين على صدوره لم يتغير شيء ما على واقع الشرق الأوسط وعلى أوضاع المسيحيين فيه، وتالياً هو منشور راعوي لا أكثر.
عرض أستاذ اللاهوت والسوسيولوجيا الدينية يوسف مونس العلاقة بين مسيحيي المشرق والفاتيكان التي بدأت منذ بداية تاريخ الفاتيكان، وخصوصاً مع بعض البابوات من أصل فينيقي، كالبابا «أنيست» المولود في حمص، والذي مات سنة 167, والبابا يوحنا الخامس (سنة 686) والبابا سرجيوس الأول (سنة 687) والبابا سيسينيوس المولود في صور، والبابا قسطنطين الأول (سنة 715) والبابا غرغوريوس الثالث (سنة 731). وتابع هذه العلاقة البابا بولس السادس، ويوحنا بولس الأول، ويوحنا بولس الثاني، وبندكتُس السادس عشر، والبابا بيوس الثاني عشر (سنة 1958).
أجرى أستاذ الفلسفة الغربية الوسيطة في الجامعة اللبنانية عفيف عثمان في ورقته: «المسيحيون العرب… الدور ومخاوف المستقبل» قراءة في خمسة كتب تمحورت حول المسيحيين في المشرق، وهي على التوالي: «المسيحيون العرب، دراسات ومناقشات» شارك فيه: جورج خضر، رضوان السيد، طريف الخالدي، وجيه كوثراني، قسطنطين زريق، إدمون رباط. «المسيحيون العرب وفكرة القومية العربية في بلاد الشام ومصر (1918 – 1840)» للمؤرخة الأردنية فدوى نصيرات. «المسيحيون العرب… إلى أين؟ وجهة نظر» للباحث السوري سمير عبده. «بقاء المسيحيين في الشرق خيار إسلامي» للباحث اللبناني أنطوان سعد. وأخيراً «المسيحيون العرب: التحديات الراهنة وخيارات المصير» لأستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية جيروم شاهين.
في الختام يتقدم مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين ويخّص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدها وفريق العمل.
رئيس المركز