مثّل سقوط مدينة الموصل بين يدي «داعش» صدمة عالمية؛ وخاصة أنّ الإرهابيين وجماعتهم حاولوا الترويج لأنهم بصدد إقامة دولة. ولوهلة صار حديث النّاس مقرونًا بالسؤال: «من أين أتى هؤلاء الداعشيون؟»، وكانت الأجوبة عطشى لمادة بحثية تفكك اسم التنظيم الإرهابي ومشاربه الفكرية، وامتداداته وطموحاته، ومصادر تمويله، ومنهجه، ونسقه المعرفي. يحاول هذا الكتاب أن يضع «داعش» في الضوء وتعديد زوايا النظر لها، ليكون تمهيدًا لمن يرغب التعرّف عليها، كما يطرح أسئلة متقدمة، فهل هي ابن شرعي للتحوّرات المتضاعفة التي جُرّت لها السلفيّة الجهادية على أيدي الإخوان المسلمين؟ أم إنها نتاج التوسع في التكفير؟ أم هي صنيعة ظروف سياسية؟ لأجل هذا كله كان هذا الكتاب محاولة مبدئية لتفكيك هذا الجسم الغريب.
تطرق الباحث المصري في الحركات الإسلامية ماهر فرغلي في ورقته: «المعالم الفكرية للدولة الإسلامية «داعش» للعدة العقائدية التي وضعتها جماعة «داعش» وجعلتها تختلف عن تنظيم القاعدة والجماعات الشريكة والحليفة لها من السلفية الجهادية. وتناولت الدارسة محاور عدة من بينها عدم العذر بالجهل.
عالج الباحث المغربي في شؤون الحركات الإسلامية منتصر حمادة فرضيات عدة، تفيد الأولى بأن التيار الإخواني في الساحة العربية، ونظراً لتواضعه عقدياً، وانصياعه لهواجس المؤامرة، وغَلبة الحسابات السياسية عليه، يبقى غير مؤهل نظرياً لمواجهة التيار «الجهادي» البارز اليوم، والذي يحمل اسم تنظيم «داعش». ومر على العقلية الماضوية المشتركة بين الإخوان والداعشيين، وأكد أنه طوال تاريخ العمليات الإرهابية لم تسجل نصوص مراجعة واضحة للإخوان أو نقد للتيارات الجهادية، مشيرًا إلى أن كل التراجعات كانت من سلفيين.
تناول الباحث التونسي منذر بالضيافي سيناريو وجود «داعش» في المغرب الإسلامي، لا سيما في تونس، التي قال فيها بارتباط حزب النهضة بالنواة الداعشية السلفية، وتشير الدراسة إلى معلومات استخباراتية تحدثت عن اتفاق تم التوصل إليه بين جهاديين من ليبيا ينتمون لأنصار الشريعة، وعناصر من تنظيم «داعش»، يقضي بترحيل المقاتلين المنتمين لدول المغرب العربي إلى شمال أفريقيا، لدعم نشاط أنصار الشريعة الموجودين في ليبيا وتونس، والتي أعلنت قياداتها عن انضمامها لتنظيم «داعش»، علماً بأن تونس شهدت خلال عامي 2012 – 2013 عمليات نقل واسعة، شملت آلاف الشباب من الذين تم تسفيرهم في رحلات منظمة للجهاد. تمت هذه العملية بمشاركة قيادات سلفية تنتمي لحركة «النهضة» الإسلامية الحاكمة آنذاك، ويأتي ذلك مع ما يتوقعه المراقبون باحتمال أن يعلن تنظيم الدولة الإسلامية في المغرب الإسلامي «دامس» عن نفسه قريباً.
بيد أن احتمالات تمدد «داعش» قد لا تقتصر على دول المغرب العربي، إذ ثمة هواجس لدى الأردن التي اعتبرها التنظيم هدفه المقبل. في هذا السياق درست الباحثة الأردنية نادية سعد الدين التوجسّ الرسميّ من قبل السلطات الأمنية الأردنية، الذي يمكن أن يتجاوز نطاق التغلغل الحدوديّ صوب التمدّد الداخلي؛ إزاء مؤشرات لبيئة مواتية قد تؤول «حاضنة مجتمعية»، ما لم يتم حسرّها، بفعل نمو التيار السلفي الجهادي، وانخراط أعداد كبيرة من المقاتلين الأردنيين ضمن صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومن ثم عودتهم من ساحات المعارك ونقل ما اختبروه فيها، فضلاً عن حيثيات ميدانية لازمت تنامي قوة «التنظيم».
يراهن الأردن -كما تشير الباحثة- على الانقسام الحادّ بين صفوف التيار السلفي الجهادي المحلي، الذي برزت مواطنه إبان الأزمتين السورية والعراقية، وعبّر عنه بعض أقطابه في صيغة مواقف هجومية ضدّ «داعش»، وعلى اصطفاف جماعة الإخوان المسلمين، التي تعدّ أهم وأكبر حركات الإسلام السياسي في الأردن، إلى الجانب المضادّ لتنظيم الدولة، استلالاً لما يعدّوه «قطعاً أيديولوجياً وسياسياً»، على الرغم من نقاط «وصل» فكري يتوقف عندها كثيرون.
نواة «داعش» في لبنان والدور الإقليمي، عنوان الورقة التي قدمها الباحث اللبناني في الحركات الإسلامية المعاصرة هيثم مزاحم، تحدث فيها عن تبلور خلايا «داعشية» في لبنان، حيث ذكرت بعض التقارير الإعلامية أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد أصبح له وجود في طرابلس ومدن لبنانية أخرى، وكذلك في بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وبخاصة في مخيم عين الحلوة قرب صيدا، حيث تتدلى الأعلام السوداء المرتبطة بتنظيم القاعدة من الشرفات وفي الشوارع في بعض أحياء طرابلس. لكن وجود الأعلام السوداء التي تمثل تنظيمي «القاعدة» و«داعش» هو تعبير عن تأييد وتعاطف أكثر مما هو انتماء وارتباط تنظيمي.
يؤسس الخبير المصري في الحركات الإسلامية منير أديب بحثه على تساؤل مفاده: هل تنظيم «داعش» صناعة مخابراتية لتقسيم المنطقة؟ ويحاول البحث صيوغ فرضية تجعل «داعش» صنيعة لظروف سياسية ودولية –حسب زعمه. والدراسة تأتي بنفسٍ شهاداتي، وتحاول استنطاق العقل المؤامراتي في التفسير لإكمال زوايا النظر إلى الحالة، وتبرز كمثال للباحثين الذين يريدون نقد نظرية تفسير «داعش» بوصفها مؤامرة.
يرصد الباحث السعودي محمد العمر في ورقته معضلة تمويل «داعش» وخفايا هذا التمويل، مشيراً إلى أن هناك قدرة مالية هائلة لدى هذا التنظيم، وخبرة استراتيجية في كيفية إدارة هذه الأموال وتهريبها وتوظيفها، بل لا تزال عمليات الدعم المالي مستمرة، ومن المرجح أنها لن تنقطع، ما دام هناك متعاطفون ومنتمون يتحركون بحرية على الأرض، ويديرون دفة التطرف في الخطاب والفعل.
في زاوية «قراءة في كتاب» أجرى ماهر فرغلي مراجعة لكتابين، الأول: «ملة إبراهيم» لعصام طاهر البرقاوي العتيبي، الملقب بـ«أبي محمد المقدسي». والثاني: «مسائل في فقه الجهاد» فيغوص مؤلفه المصري أبو عبدالرحمن العلي، المشهور في الأوساط الجهادية بـ«أبي عبدالله المهاجر» في عشرين مسألة تختص بمسائل جهادية.
في الختام يتوجه المركز بالشكر لكل الباحثين المشاركين، ويخص بالذكر الزميل عمر البشير الترابي الذي نسق العدد ونأمل أن تجدوا في الكتاب ثمرة جهده وفريق العمل.
رئيس المركز