تقديم
بدأ الاهتمام العالمي بالأقليات بعد تفكك الاتحاد السوفيتي العام 1991، وتصاعد النزعة القومية التي ركزت على حقوق الأقليات ورغبتها في بناء هوية سياسية منفصلة، أو تلك التي تطالب بمزيد من الحقوق المقررة لها. ولكن لم يتم من قبل الحديث الجاد عن الأقليات وعن العجم وعن أبناء المذاهب غير السنية في دول الخليج العربي، وذلك لكونها مسألة حسّاسة وحرجة. فمجرد الحديث عنهم وتخصيصهم بدراسات أو تحليلات يُعتبر من ناحية تمييزاً لهم عن غيرهم من المواطنين. وتصنيفهم على أنهم أقليّات هو بحد ذاته نوع من إلغاء للمساواة في المواطنة التي لا تضع اعتباراً لعِرق أو دين المواطن. وبطبيعة الحال فهذا ليس غرضنا هنا على الإطلاق. بل ترددنا كثيراً في اختيار عنوان هذا الإصدار، وفي تناول ملفّاته. ولكّن التدخّل الإيراني في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربي، والتقارير الغربية الحقوقية عن بعض الفئات الاجتماعية، فرضت علينا مفردة «الأقليات» وصار استعمالنا لها يعكس تداولها أكثر مما يعكس قناعتنا بصحة استعمالها. ويأتي الكتاب في وقت اختلطت فيه الأوراق، وانهار النظام الإقليمي الهش، الذي ساد الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب الباردة. والآن يتم العمل على بناء نظام إقليمي جديد، وستكون الأقليات ورقة سيسعى البعض لاستغلالها في رسم معالم هذا النظام الجديد.
يبدأ كتابنا الثالث والتسعون (سبتمبر (أيلول) 2014)، ببحث «الخليج العربي: الجماعات الدينية وسياسات النظم الحاكمة» للباحث البحريني عباس المرشد، يتناول واقع الأقليات الدينية في دول الخليج العربي، من حيث علاقتها بالهوية الوطنية والاندماج الوطني، ويركز على توضيح السياسات الرسمية تجاه تلك الأقليات مقابل سياسات الهوية الفرعية لدى الأقليات نفسها. وقد خلص إلى أن أغلب الأقليات الدينية ليست متجانسة. ولكنه يرى أيضاً أنه بالرغم من اندماج العديد منهم في المجتمعات المحلية، فإن الأقليات تعيش في عزلة اجتماعية وتعلي من شأن هويتها الفرعية؛ بسبب عدم قدرة الهوية الوطنية على استيعاب مطالبها الدينية بشكل متساوٍ مع الأغلبية.
المعلومات المتوافرة عن اليهود في الجزيرة العربية قليلة، لذلك يأتي بحث «يهود الكويت: وجودهم، أحوالهم وهجرتهم (1860 – 1952)» للباحث الكويتي يوسف علي المطيري، ليملأ فراغاً معرفياً. يتناول البحث استقرار اليهود في الكويت، وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية، حتى هجرتهم منها خلال الفترة الممتدة بين عامي 1860 و1952، معالجاً الأسباب التي دفعتهم للهجرة من مواطنهم الأصلية، وإسهاماتهم الاقتصادية والفنية في الكويت. يدرس العلاقة بين اليهود والمجتمع الكويتي المتسامح، الذي أتاح لهم ممارسة أنشطة اقتصادية مختلفة، وممارسة طقوسهم الدينية. في المقابل يشرح لنا تأثر اليهود بالمجتمع المحلي من ناحية الملبس وبعض العادات الاجتماعية، راصداً هجرتهم من الكويت، وما إذا كان ذلك متأثراً في الصراع العربي – الإسرائيلي.
عند الحديث عن الشيعة في المملكة، يتبادر إلى الذهن شيعة المنطقة الشرقية، وهم إثنا عشرية. ولكن هناك شيعة في المدينة المنورة أيضاً من الإثنا عشرية، وشيعة في الجنوب من الطائفة الإسماعيلية. وهو موضوع بحث «إسماعيلية المملكة العربية السعودية.. الوجود والتعايش» للباحث اليمني أنور الخضري، يشير خلاله إلى المكان الذي يقطنون فيه، وهو نجران في جنوب السعودية. لا أحد يعرف عدد الإسماعيليين في السعودية، وذلك لأن المملكة لا تعتمد على أي تصنيف مذهبي في تعدادها السكاني. كما يحدثنا عن تاريخ الإسماعيلية في نجران، بدءاً من قدومها في العقد الأخير من القرن الثالث. ثم يحدثنا عن التوتر بين الإسماعيليين وقبيلة يام عموماً، وبين الدولة السعودية الأولى، حيث دارت معركة الحائر -منطقة من مناطق نجد- العام 1764، بين قوات آل سعود والياميين بقيادة الحسن بن هبة الله المكرمي. وبلغ تهديد الياميين للدرعية ذاتها في ذلك الحين. ثم يخبرنا عن علاقتهم بالملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود –مؤسس الدولة السعودية الثالثة- وانضمامهم للدولة الوليدة.
استطاعت سلطنة عُمان أبرز دولة عربية تخطي حاجز الاختلافات الدينية، بالرغم من وجودها في بيئة عربية تغلب عليها الحساسيات الطائفية، والصراعات الأيديولوجية، ويغيب عنها الوعي المتسامح القادر على إيجاد مساحات التعايش وقبول الآخر ضمن المشترك الوطني. فما سر ذلك؟ بحث «الإباضية في سلطنة عُمان: التعايش الديني والمذهبي» للباحث الأردني محمد العواودة، يحاول الإجابة عن ذلك، هو يُرجع ذلك التسامح إلى البنية العقدية والفقهية للمذهب الإباضي، وإلى السياسية الرسمية العمانية البراغماتية التي تتبع خططاً نأت فيها عن الخلافات الإقليمية. لم تفرض سلطنة عُمان هيمنة الإباضية على غيرها، وتعاملت بحيادية مع المشتركات العقدية، ووضعت نظامها الخاص في ترسيخ مبادئ الحياة المدنية الحديثة في اختيار المناصب الوظيفية في الدولة على أساس الكفاءة العلمية.
بحث «موقف إخوان الخليج من الأقليات (السعودية أنموذجاً)» للباحث السعودي عبدالله الرشيد، يتحدث فيه عن الجدل بين الإسلاميين في السعودية بين السرورية التي ترى أنَّ الموقف العقدي هو الذي يجب أن يحدد العلاقة والموقف مع الأقليات والطوائف داخل السعودية، بل تعتبر أن الوحدة الوطنية صارت وسيلة لمسخ العقيدة. ثم يقارن موقف السرورية بالموقف الإخواني السعودي القائم نظرياً على التجميع وعدم التركيز على القضايا الخلافية، ولكنه –عملياً- يتعامل مع الأقليات بالطريقة نفسها التي تتعامل معها السرورية، فيتعبرون أن الأقليات سموم في جسد الأمة، وأن خلافاتهم ومواقفهم مع الآخرين منطلقة من مواقف عقدية حاسمة.
هاجر الكثير من العجم إلى دول الخليج حتى قبل نشوئها. وأسهموا بذلك في تكوين المنطقة ورسم معالمها السياسية والثقافية والاقتصادية. وهؤلاء لا يمكن حتى النظر إليهم باعتبارهم عجما؛ لأنهم مواطنون كغيرهم من المواطنين في دول الخليج. كما حصلت هجرات أو وفود مختلفة بعد الثورة الإيرانية العام 1979. ولعل محاولات إيران استغلال الأصول التاريخية لبعض العجم دفعنا إلى تسليط الضوء عليهم. فيأتي بحث «عجم الخليج: التوزيع الديموغرافي والتشريعات المحصنة ضد العنصرية» للباحث المغربي عبدالصمد بلحاج، ليتناول العجم في البحرين والكويت وقطر والإمارات وسلطنة عُمان، ويحلل توزيعهم الديموغرافي، ثم يرصد التشريعات الدستورية الخليجية التي تحصن أقلية العجم ضد التفرقة العنصرية في الحقوق الاجتماعية والسياسية والدينية. يطرح الباحث سؤالاً مهماً عن الوزن الديموغرافي للعجم، وأهم منه الانسجام الاجتماعي والمذهبي بينهم. فهل يمكن أصلاً اعتبارهم كتلة واحدة، أم لا؟ ويتحدث عن محاولات إيران استغلال بعض العجم في دول الخليج لأغراضها السياسية. والمؤكد هو أن إيران فشلت كثيراً، وذلك بسبب علاقة الولاء الوثيقة للعجم بدولهم وبحكامهم.
«الاحتقان الطائفي في تأثيراته الاجتماعية» للباحث المغربي إدريس لكريني، يعالج إحدى أخطر القضايا التي تواجه المنطقة العربية وهي الصراع الطائفي. من أكبر تحديات فهم القضية الطائفية هو تعريفها. فيحاول تعريف الصراع الطائفي، دارساً مخاطره على الوحدة الوطنية والأمن الإقليمي. ويشير إلى العوامل المحلية والإقليمية التي تدعم وجوده وتستغله. ثم يقترح بعض السبل التي يمكن أن تساعد على تجاوزه، وفي المقدمة ترسيخ دولة القانون والمؤسسات. بطبيعة الحال، فإن الطائفية موضوع مركّب ولا يمكن لمقاربة واحدة أن تعالج كل أبعاده، ولا أن تقدم الحلول كافة، خاصة أنه موضوع إشكالي من حيث التعريف والتشخيص والمعالجة. ولكن الباحث هنا قدّم مادة مفيدة للتفكير في موضوع حيوي.
قدم الباحث الفلسطيني محمد أبو الرب قراءة في كتاب: «تجارب كونية في تدريس الأديان» إشراف وتقديم وتعريب: محمد الحدّاد. يطرح الكتاب تجارب تدريس الأديان في المدارس والجامعات الأوروبية وبعض الدول العربية، ويبرز التحولات التي تمر بها أوروبا في تعاطيها مع تعليم تاريخ الأديان في المؤسسات التعليمية، وما خضع له من تطوير منهجي واكب العلاقة بين الدين والمجال العام. كما يُظهر الاتجاه المنفتح على الآخر، واحترام التعددية في تلك التجارب، من دون أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بالهوية العلمانية للدولة، وهذا ينطبق على الدول الأوروبية تحديداً.
في الختام يتوجه المركز بالشكر لكل الباحثين المشاركين، ويخص بالذكر الزميل محمد العواودة الذي نسق العدد ونأمل أن تجدوا في الكتاب ثمرة جهده وفريق العمل.
رئيس المركز