تقديم
من التحديات الأساسية التي تواجه الكثير من المجتمعات العربية أزمة تعريف ذاتها السياسية: ما طبيعة الدولة التي تنتمي إليها؟ ما المؤسسات التي تحكمها؟ كيف توزع السلطات فيها؟ ما العلاقة بين السلطات الثلاث الأساسية؟ وما علاقتها بالمواطن؟ كيف يتمّ اختيار قياداتها السياسية والتشريعية والقضائية؟ ما صلاحيات هذه السلطات؟ ما المساءلة السياسية؟ ما آليات الوصول إلى الحكم؟ كيف ينتقل الحكم من طرف إلى آخر؟ ما معنى المواطنة؟ ومن المواطن؟ ما دوره في العملية السياسية؟… إلخ. هذه الأسئلة وغيرها، بالرغم من أنها تبدو من البديهيات في البيئات التي تكون فيها الثقافة السياسية لدى الجمهور متينة، فإنها ما زالت مبهمة في العالم العربي، وتالياً تتطلب الإحاطة بها وتقريبها من الفئات المجتمعية.
ما كانت القضية الدستورية أساسية، في أغلب الدول العربية منذ نشوئها، إلا لأنَّ الدستور في نهاية التحليل ما هو إلاَّ مجموع الإجابات عن مثل تلك الأسئلة. ولا يمكن تصوّر دولة فاعلة ما لم يملك مواطنوها إجابات متفقاً عليها، وذاتاً سياسية ومواطنية واضحة لا لبس فيها.
ولأهمية هذا الموضوع، فقد تناول كتاب المسبار: «المسارات الدستورية العربية: جهود تفعيل الدساتير وتطويرها» (الكتاب السادس والتسعون، ديسمبر (كانون الأول)، 2014 ) مجموعة من الدراسات التي تدرس جهود بعض الدول العربية في تطوير أو تعديل أو إعادة بناء دساتيرها، إثر الانتفاضات التي بدأت أواخر عام 2010، مسلّطة الضوء على التحديات والأزمات الدستورية والطرق المختلفة في معالجتها.
لقد عانت الدول العربية منذ أول دستور عربي في تونس عام 1861 من أزمات دستورية، يمكن تلخيصها بإنشاء دساتير منفصلة عن تطلعات المواطنين، بحيث اتخذت -غالباً – طابعاً أيديولوجياً تعكسه الحقبة التاريخية التي وُضعت فيها، أو أنها أتت كدساتير غير مفعلة أو غير واقعية ولا يمكن العمل بها. ومن الأسباب البارزة للأزمات الدستورية، أن صوغ الدستور كان يتمّ لأجل تغليب فئة سياسية على فئة أخرى، متخذة من الأيديولوجيات قاعدة لها لخدمة مصالح السلطة الحاكمة، مما أدى إلى إنتاج دساتير تحتوي على حمولات وتشوهات؛ فأصبح الدستور ساحة للنزاع السياسي، بدل أن يكون وثيقة إجماع وطني تكرس الحداثة السياسية.
سبب آخر للأزمات الدستورية، هو صيرورة الدستور هدفاً بحد ذاته. هذا السبب قلّما يلتفت إليه. إن الدستور ليس مجرد وثيقة سياسية، وإنما تعبير عن مشروع بناء الدولة: دولة الحداثة. وإذا تعثر مشروع بناء الدولة، فإن الدستور سيصطدم بأزمات مهما كان متطوراً. إنَّ المسألة في جوهرها ليست ما إذا كان لدى دولة ما دستور، وإنما إذا كان المواطنون في الدولة يؤمنون بأنهم وحدة سياسية بحاجة إلى عقد اجتماعي ينظمها. لقد غفلت المسارات الدستورية السابقة عن حقيقة أن الدستور انعكاس لقضية أعمق، وهي فكرة دولة الحداثة القائمة على حدود جغرافية سيادية؛ وهي فكرة لم تترسخ بما فيه الكفاية، ولا تزال تتصارع مع الفكرتين الإسلامية أو القومية للدولة، واللتين تقومان على مفهوم دولة الهوية اللغوية أو الدينية المتجاوزة للحدود الجغرافية.
إنَّ الدستور هو -بمعنى من المعاني- روح دولة حداثة. بطبيعة الحال، لا يشترط استخدام التسمية: «دستور». فالمملكة العربية السعودية لديها وثيقة تُسمى: «النظام الأساسي للحكم»، وظيفتها تماثل وظيفة النصوص الدستورية. لا يُشترط أن يكون الدستور كاملاً من اللحظة الأولى لولادته، فكل الدساتير العالمية تطوّرت وتعدّلت تبعاً للظروف والتحولات السياسية والتاريخية التي يمر بها بلد ما. بل لا يمكن تصور دستور كامل؛ لأن الدولة مشروع متحرك ومتطوّر، ومن الطبيعي أن يكون دستورها متحركاً ومتطوراً. ولكن ثمة شروط لا بد من توافرها لإنضاج الدستور كي يتمكن من أداء دوره. يبقى الشرط الأهم لأي دستور هو صدوره عن مجتمع سياسي يريد بناء دولة الوطن والمواطنين، حيث يعكس تطلعات كل الشرائح المجتمعية ويحفظ حقوقها. هذا الشرط يواجه تحديات عدة من بينها تحدي الإسلام السياسي، الذي لا يقبل منظِّروه بفكرة دولة الحداثة القائمة على المواطنة وصون الحريات، وسيادة القانون، واحترام التعددية، والمحاسبة السياسية.
نأمل أن تسلّط دراسات هذا الكتاب الضوء على الجوانب القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، من التجارب والتحديات الدستورية في العالم العربي، لا سيما تلك التي أعقبت «الحركات الاحتجاجية».
في الختام، يتقدم مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر البروفيسور محمد الحدَّاد الذي نسّق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.
رئيس المركز
شاهد فهرس الكتاب