تقديم
يأتي هذا الكتاب، الذي سيظهر في جزئين، في وقت ما زلنا فيه بحاجة ماسة إلى فهم التفاعل بين الدين ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فالظاهرة جديدة –نسبياً- ولم تتجاوز عشر سنوات. ولكن في الوقت نفسه، فإن تطورها يسير بسرعة كبيرة، ما يتطلب فهمها من خلال بُعدين: الأول سلبي، والثاني إيجابي. يتمثل البعد السلبي في انتقال الحركات الإرهابية والإسلاموية المختلفة إلى «الميديا الجديدة» – كما يفضل بعض المختصين تسميتها- والإفادة مما توفره من إمكانات في التجنيد وكسب المؤيدين.
كانت بداية ظهور قوة وسائل التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط خلال «الثورة الخضراء» التي شهدتها إيران عام 2010، وسمّاها ناشطون «الثورة التويترية». وأظهرت أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي» القدرة الهائلة التي تتمتع بها في إيصال الأفكار والأخبار والتأثير في الميادين. ووجدنا شيئاً فشيئاً تزايداً ملحوظاً في عدد الأفراد والمنظمات والأحزاب التي تحاول الأخذ بها لأغراض عدة.
حضر الدين دوماً على الشبكة العنكبوتية منذ بداياتها. وقد أسهمت الأديان كافة في إنشاء مواقع وصفحات لها لإبراز رسالتها، والدعوة إلى عقيدتها، والرد على مخالفيها. أفادت غالبية الحركات الإسلامية المتطرفة من الإنترنت؛ ومردّ ذلك حاجتها إلى التعبير عن نشاطها الديني أو السياسي، بعيداً عن الرقابة الحكومية المباشرة، ما أتاح لها هامشاً من التحرك تمكنت من خلاله من نقل الأفكار والأيديولوجيات الراديكالية. في حين تراخت المؤسسات الإسلامية المعتدلة، بسبب توافر قنوات بديلة لها، عن إيصال رسالتها. وربما –أيضاً- بسبب عدم استيعاب بعض قياداتها للقوة الكامنة في الوجود على الإنترنت. مع ذلك، كان هناك الكثير من الحضور الإيجابي والبنَّاء لممثلي الإسلام المعتدل والتقليدي على الشبكة العالمية.
الظاهرة الأكثر إثارة للبحث والاهتمام، هي ظاهرة التطرف الديني، وخصوصاً تنظيم «داعش»، الذي كشف عن قدرة كبيرة ومتطورة في توظيف وسائل التواصل لتجنيد الأفراد، إما للقتال معه، وإما لتبني طروحاته الهدامة. هذا الجانب تركناه لجزء ثانٍ من هذا الكتاب. في حين قررنا في الجزء الأول التركيز على ظواهر وتجارب أخرى تستحق الدراسة والتحليل. فوسائل التواصل الاجتماعي أثرت كثيراً في مفهوم السلطة الدينية، وفي العلاقة بين المسلم الباحث عن الفتوى وعلماء الدين. لقد وفرت للمسلم العادي القدرة على التلاقي مع شريحة واسعة من رجال الدين في أي مكان من العالم، وسمحت له بانتقاء الفتوى التي يريدها، أو اختيار الشيخ الذي يفضل الالتزام برأيه، كما أنها فرضت على المفتين تغيير أسلوبهم. فقد استطاع الواحد منهم جذب عشرات الآلاف من الأشخاص، كما أنها انعكست على طبيعة الأفكار التي يناقشها المسلمون الناشطون في «الميديا الجديدة». ففي حين كانت النقاشات الدينية تدور حول هموم محلية يُعنى بها الفرد المسلم، أصبح الآن يخوض نقاشاً مفتوحاً – بفضل مساحة الحرية المتوافرة في المجال الافتراضي – في موضوعات دينية عدة، منها ما يكشف عن تشكيل وعي ديني جديد له جوانبه الإيجابية، لا سيما عندما يتمّ تداول مسائل التجديد والإصلاح الديني، ومنها ما يبرهن على حضور عنفي وسلبي تعبر عنه المواقع المرتبطة بحركات العنف الديني.
إن استخدام المؤسسات الدينية المسلمة المعتدلة، الرسمية وغير الرسمية، في العالم لوسائل التواصل الاجتماعي له أهمية كبرى لا يمكن التغافل عنها؛ إذ إن جيل الشباب ينشط في هذه الفضاءات بشكل متزايد، ويستقي ثقافته الدينية والأخلاقية منها.
من الأهمية تفعيل دور المؤسسات المسلمة المعتدلة على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ كخطوة تمهيدية لتطويرها، وتنشيط دورها في نشر ثقافة الاعتدال والتسامح وتقبل الآخر، والحد من ظاهرة التطرف الديني والغلو المذهبي.
لا ينحصر الحضور على شبكات التواصل الاجتماعي بالنشاط الذي تعبر عنه المؤسسات التقليدية والحركية الإسلامية، فالكنيسة في المشرق حاضرة أيضاً، وهي مكوِّن تاريخي ومستقبلي من النسيج الديني في المنطقة، وما تحمله من رسائل على وسائل التواصل يؤثر في المسيحيين، وقد يترك بصمات له لدى أبناء الأديان الأخرى.
لقد حاولنا في هذا الكتاب المعنون: «الدين ومنابر التواصل الاجتماعي» (الكتاب الثامن والتسعون، فبراير (شباط)، 2015) الإجابة عن بعض الأسئلة الملحّة التي يُثيرها الدين على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، والتي عرفت في السنوات الأخيرة تفاعلاً لافتاً في العالم العربي مع قضايا مختلفة، احتل الجانب الديني موقع الصدارة فيها؛ كونه يشكل جزءاً صلباً من رؤية المسلمين لذواتهم والعالم المحيط بهم.
تعالج الدراسات المدرجة في الكتاب فاعلية المؤسسات الدينية المسلمة والمسيحية في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، وتعاين نشاط الإسلام السياسي والسلفي، وأثر «الميديا الجديدة» في الدين الإسلامي وخطاب رجال الدين والمفتين، وكيفية تصدي المؤسسات الدينية الرسمية للفتاوى الشاذة، إضافة إلى قضايا أخرى.
في الختام يتقدم مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلين إبراهيم أمين نمر، وعبدالله حميد الدين، اللذين نسّقا العددين، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدهما وفريق العمل.
رئيس المركز