أتى هذا العدد من كتاب المسبار الشهري حول” الحركات الشيعية في العراق” تأكيدا على إرادة المعرفة في وجه إرادة الأيديولوجية والهيمنة التي تذكي سعار المشهد الطائفي الماثل في العراق والمنطقة ككل.
يأتي تجاوزا للإجابات الجاهزة، التي تصر على الصور النمطية، والإجابات الجاهزة، في تصورات الآخر، كل الآخر، طائفيا كان أو دينيا، ثقافيا كان أو حضاريا.
هذه الإجابات الجاهزة التي جعلت كاتبا ومفكرا كبيرا مثل عبد الله العروي يكتب ذات يوم أنه ” ما من أحد من الكتاب العرب يصف واقعا بدون نظرة قبلية” ، وفي نفس السياق يتساءل محمد عابد الجابري” لماذا تطبع النزعة السلفية الفكر العربي ككل؟ ” .
تجاوزا للصور النمطية، وكسرا لحواجز التعصب وغشاوة عدم المعرفة، يأتي عددنا التاسع” الحركات الشيعية في العراق” تشريحا وبناء متنوعا، يرصد العلاقات المتشابكة بين الفكرة والحركة، بين الطائفة والوطن، بين التاريخ والحاضر، من خلال قراءات تستوعب التاريخ، ولكن بوعي تاريخي، من أجل كشف الواقع الشيعي في العراق، ومجال وتشكلات الحركات الشيعية العراقية، سواء في مدى اتكائها على أيدولوجية الطائفة، أو على تصوراتها للوطن.
ذلك العراق الذي كان حادث سقوطه، او تحريره، على اختلافات البعض، حدثا مفصليا في تاريخ العرب الحديث، ولعله من أهم هذه الأحداث التي لا يكاد يوازيها في عمق الأثر والتأثير سوى هزيمة يونيو/ حزيران سنة 1967 .
وحسب العديد من المراقبين والمحللين الدوليين- فإن هذا الحدث، كان واحدا من اعظم تأثيرات ما صار يعرف بالصحوة الشيعية أو الإحياء الشيعي، حيث أدت سياسة الولايات المتحدة إليها، بدون قصد، أو سابق توقع، إلى صعود الشيعة لقمة السلطة في العراق، وهو ما كرس الاستنفار الطائفي لدى السنة العرب، بالمقابل، وهو ما لم ينجح نموذج الديمقراطية التوافقية في علاجه بعدن وبينما كان المتوقع هو ظهور نموذج ديمقراطي يتم تمثله في المنطقة، أتى الواقع مغايرا، حيث تحقق نموذج طائفي يخشى امتداد أثره إلى كل مناطقها التي تضم أقلية شيعية كبيرة، ويرسم فقط مشهدا جديدا في المشهد السياسي العربي، ليس فقط على مستوى السياسات الإقليمية ولكن كذلك على المستويات القطرية والوطنية، بل وجدل الخطابات الأيدولوجية العربية في الآن نفسه
من هنا جاءت دراسة رشيد الخيون ( شيعة العراق جماعات ومذاهب) وتكاد تأتي دراسة رشيد الخيون ضد مفهوم الصحوة المتأخرة للشيعة بعد عام 2003 طارحة أن النشاط السياسي والاجتماعي الشيعي مستمر عبر التاريخ، متد فيه حتى تشكلاته- التي يعرضها- في القرن العشرين، حتى ظهور الحركات الشيعية المختلفة بعد هذا التاريخ.
ثم تأتي دراسة محمد عطوان آخذة من الحالة البصرية تحديدا نموذجا لكيفية تشكل الأحزاب الشيعية في العراق، آخذا من حالة البصرة تحديدا، وهي حالة مميزة في هذا السياق نموذجا يكشف من خلاله آليات تشكل الأحزاب الشيعية في العراق بعد عام 2003.
ثم تأتي دراسة سماحة السيد حسن شبر، أحد المؤسسين الأوائل لحزب الدعوة الإسلامية، لتكشف كواليس تأسيس هذا الحزب، من أحد الشهود القلائل عليها، والذي يرى من منظور منتم ان حزب الدعوة الإسلامية حزب الدعوة الإسلامية نشأ ليس كردّة فعل لأعمال الحزبيين غير الإسلاميين، ولكنه نشأ للشعور بالحاجة الملحّة لتشكيل الدولة الإسلامية، ولم يكن بإمكان أوساط الحوزة العلمية والأساليب التقليدية أن تنهض وحدها بهذه المهمة، وهو ما يؤكد على مبحث مهم وهو نشأة الإسلام السياسي الشيعي الذي أهمل بحثه بينما تسلطت على مباحثه خطابه السني فقط.
ثم تأتي دراسة الدكتور فؤاد إبراهيم ( المرجعيات الشيعية في النجف بين ضمور المركز ورسوخه) راصدة لتطور دور المرجعيات الشيعية في استعادة النجف لمكانتها ومرجعيتها، وهو ما ترسخ بخاصة بعد بروز السيستاني الذي يرى الكاتب أنه كان وليد سياقه، سواء في حاجة الشيعة في العراق إلى مرجعية، أو تراث المرجعية نفسه، ولكن يرى إبراهيم في مواقف وخطاب السيستاني الذي يبحث عن كثير من مفاصله أنه ثمة فجوة بين خطابه السياسي والفقهي، وإحكام كل منهما.
وتأتي دراسة الدكتور إبراهيم العاتي بعنوان(النجف مركز الشيعة والمرجعية) كاشفة عن مكانة النجف وقدسيتها ومخزونها التاريخي، فهي دراسة في حفريات الذاكرة النجفية، وهو ما يفسر مكانتها ومركزيتها في الوعي الشيعي العربي، أو العراقي خصوصا، بموازاة مرجعية قم.
ثم تأتي دراسة الأستاذ غانم جواد بعنوان” ظاهرة نهج التقريب بين المذاهب الإسلامية الحديثة” باحثة في مفهوم التقريب بين الشيعة والسنة، وهذا التقريب قد يكون طوق النجاة الوحيد من فخ الطائفية المزمن في أعماق تاريخنا وواقعنا، كما يعرض جواد لأهم جهوده ورموزه وكذلك إشكالاته وعوائقه، سواء كان ذلك في دائرة الذاكرة، أو في فضاء المستقبل.
ثم تأتي دراسة الدكتور إبراهيم الحيدري محاولة لوضع هذه الطقوس في سياقها الموضوعي، وإلقاء الضوء على عوامل نشأتها وتطورها التاريخي ودلالاتها ووظائفها، واستمرارها عن طريق إخضاعها لتحليل سوسيو- ثقافي، وتوضيح أهميتها، واستيعاب العلاقة الجدلية بينها وبين تطبيقاتها العملية في الواقع الاجتماعي، وما أفرزته وتفرزه من مبادئ وقيم وسلوكيات، معتمدين في ذلك على ما أجريناه من دراسات نظرية وميدانية لهذه الظاهرة الدينية.
وقرأ أكرم ألفي واحدا من أهم الكتب التي صدرت حول الشيعة في العامين الأخيرين وهو كتاب فالي نصر” الصحوة الشيعية” الذي لم يتيسر للقارئ العربي قراءته في لغته العربية بعد، كاشفا عن أهم ملامح هذه الصحوة، وأهم إشكالاتها، ويبدو أن الكاتب أكثر ميلا لدور إيراني مطلوب وملح في حل الإشكال الطائفي الذي ترتب على الصعود الشيعي في العراق، كما يطرح سيناريوهات مقترحة لإدارة العلاقة التي يراها جوهرية، بين إيران وبين الولايات المتحدة، التي لم تكن تتوقع حين قيام بحرب العراق ما انتهت إليه الأوضاع، حيث لم يظهر خلاف بين مرجعيتي النجف وقم، قدر ما توطدت المصالح والعلاقات بين البلدين، وتشابكت إلى حد يستحيل فصله، على عكس ما توقعت إدارة واشنطن.
وتأتي دراسة العدد للأستاذ هاني نسيره” وظائف التفكير التآمري في الفكر العربي المعاصر” التي يكشف فيها نسيره عن قواعد التفكير التآمري، ورافد نظرية المؤامرة في الوعي العربي المعاصر، ووظائفه في هذا الوعي، سواء على مستوى السياسة أو الاجتماع أو التحليل، مؤكدا على ان رسوخ التفكير التآمري في هذا الوعي، الذي جعل البعض يصف العقلية العربي بأنه عقلية تآمري، إلا عبر وظائفه في التاريخ والواقع، وربما المستقبل.
ويضم الكتاب كذلك ببليوجرافيا بأهم المؤلفات في موضوع الحركات الشيعية في العراق بالإنجليزية والعربية، إضاءة للباحث والمهتم، ودعوة للمعرفة والتعرف في الآن نفسه.
إن هذا العدد، التاسع، من كتاب المسبار الشهري ليأتي محمولا بالهم هم التعرف، وهم التفسير وهم التغيير، بعيدا عن الصور النمطية واللغة التعميمية المسيطرة على خطابنا العربي المعاصر.