بادئ بدءٍ أن الصفوية، التي شغلت لقرون من الزمن المنطقة بحروبها وبصراعها مع الدولة العثمانية، أصبحت حسب الظاهر، ومثلما هي الدولة العثمانية، قضية تاريخ ليس إلا، لكن المتابع لما يجري من خلاف مذهبي، بين السُنَّة والشيعة، سيجد أن له صلة ما بتركة الدولتين، وممارساتهما المذهبية السابقة، من أجل صف الأتباع خلف الشاهات أوالسلاطين.
هذا هو عذرنا من القارئ للغور في تفاصيل الدولة الصفوية، بداية من أسباب نشأتها إلى أفولها سياسياً، وما بينها وبين الدولة العثمانية من حروب أكلت الألوف المؤلفة من شعوب المنطقة، وعلى مختلف قومياتها وأديانها ومذاهبها.
وقد يربك القارئ، غير المطلع من قبل على تاريخ الصفويين، من التجانس في الحروف واللفظ، ثم التدرج التاريخي بين الصفوية والصوفية، فهيمنة أولئك الشيوخ، أو الشاهات، وقسوتهم، وقيادتهم للجيوش يبعد عنهم أنهم تحدروا من طريقة أو طائفة صوفية، وما تمثله الصوفية من وداعة والتسليم للقدر، واحتواء القلوب بالحب الإلهي. إلا أن الحقيقة أن الصفوية نشأت من رحم صوفي، وتحول لقب الصفي جد الأسرة الصفوية إلى طريقة عُرفت بالطريقة الصفوية ثم إلى الدولة الصفوية، وترى الثانية غلبت الأولى، ولم يبق منها سوى التاريخ، الذي ورد في الكتاب شرحاً وافياً حول هذا التحول.
بعد إتمام قراءة هذا الكتاب، قد يندهش القارئ من الغلو المذهبي لأسباب سياسية وبهذه الحدة، بحيث يأمر السلطان سليم الأول العثماني بإحصاء عدد الشيعة لقتلهم، وأن يصبح المذهب الحنفي مذهباً رسمياً فريداً، ومن جانبه يصر الشاه عباس الأول الصفوي، عند احتلاله لبغداد، في القرن السادس عشر الميلادي/ العاشر الهجري، على تصفية أهل السُنَّة، وهدم أضرحة أئمتهم هناك، وإعلان التعصب المذهبي، وإبداع ما لم يكن في المذهب الشيعي من ممارسات تجدها نافعة للسلطان ومضرة للمذهب: إعلان سب الخلفاء الثلاثة (أبو بكر وعمر وعثمان)، والأذان بالشهادة الثالثة، التي هي بالأساس ليست من الأذان بصيغته الشيعية التقليدية، وإدخال الخرافات والمختلقات على العزاء الحسيني، في طقس عاشوراء.
عمدنا إلى افتتاح دراسات الكتاب بمادة للعلامة في الاجتماع الدكتور علي الوردي، تحت عنوان “الدولة الصفوية والتشيع”، ورد ضمن كتابه الموسوعي “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، وعلي الوردي لم يكن غريباً على أجواء ما وصل العراق من تركة صفوية في طقس عاشوراء على وجه الخصوص، فهو من مدينة الكاظمية الشيعية، نسبة إلى الإمام موسى بن جعفر الكاظم، ومن عائلة شيعية أيضاً، وباحث في علم الاجتماع، وما يعنيه هذا التخصص من قدرة وباع في دراسة الظاهرة الاجتماعية، والحالة المذهبية جزء منها.
بدأ الوردي دراسته بنشوء الصفوية، معرجاً على طبائع سلاطينها، ومنازل فقهائها، من الشيخ عبد العال الكركي اللبناني إلى محمد باقر المجلسي الإيراني، وما جرى من صراع بين فقهاء تلك الفترة.
ومن جانبه يكتب الباحث علي أحمد رشيد مقالاً ضافياً تحت عنوان “أسباب وبواعث قيام الدولة الصفوية”، يأتي فيه على حالة التشيع ما قبل الدولة الصفوية بإيران، وأن هناك وهماً حول بداية التشيع الإيراني بأنه حل بفعل الصفوية، وقد ذكر الباحث أسماء المدن الشيعية من قبل، وكانت منطلقاً لثورات بقيادات علوية، إلا أن للصفويين الفضل والمبادرة بجعل المذهب مذهباً رسمياً، وأدخلوا ما أدخلوا عليه بفعل السلطة والفقهاء من مستجدات، ويحدد الباحث جملة من الأسباب لقيام الدولة الصفوية، ومنها الحالة الإيرانية الدينية من قبل، ثم الحالة السياسية لمواجهة الدولة العثمانية، والاقتصادية، من دون إغفال ما عَقب الدولة المغولية من نزاعات داخل إيران نفسها مهدت الطريق لانتصار دولة إسماعيل الصفوي.
هناك تاريخ يكاد يكون مزدوجاً، لمدى قرنين من الزمن، بين العثمانيين والصفويين، صُرف بين حروب حاسمة وهدن قلقة، من دون أن يقضي أحدهما على الآخر، ويفتح هذا الباب على مصراعيه الباحث مشتاق عبد مناف، في دراسته “الصفوية والعثمانية في ظل تطاحن الإيديولوجيات الطائفية”، مقدماً قراءة تاريخية للسلالتين: العثمانية والصفوية، ثم أهم الحروب والمعاهدات، والتباعد والتقارب بينهما، وبدت، من خلال البحث أهم معركة بين الجانبين هي معركة شالديران، التي خسرها الصفويون وتوسع بها العثمانيون، لكنها لم تكن الضربة القاضية، بل أتت تلك الضربة من داخل الصفوية نفسها، وبطبيعة الحال لا ينكر دور العامل الخارجي، المتمثل بالنزاع الطويل مع العثمانيين.
وبما أن الدولة الصفوية شيدت على أساس مذهبي، هو المذهب الشيعي بعد صبغه بالصبغة الصفوية، فلا بد من دراسة حالة المذاهب والأديان الأخرى، وقد قدم الباحث علي الشيخ عبر دراسته “الدولة الصفوية وأتباع الأديان والمذاهب الأخرى” تابع فيها ما واجهه أهل السُنَّة من ممارسات تعسفية صفوية، وذلك لتحويلهم إلى التشيع الصفوي، وامتحانهم بسب الخلفاء الثلاثة، والجهر بالشهادة الثالثة “أشهد أن علياً ولي الله”، ثم عرج الباحث على الثورات التي حصلت في ذلك العهد، مع تبيان، ضمنياً، الآثار التي تركتها في المجتمع الإيراني، ولا غرابة في الموقف المعتدل للسياسة الصفوية تجاه الديانة المسيحية على وجه الخصوص، إذا علمنا ما يهم تلك السياسة من كسب ود الغرب الأوروبي في الحروب مع الدولة العثمانية.
بعدها توغل الباحث حيدر عبد المناف البياتي في “المشهد الصوفي والفلسفي في العهد الصفوي”، فمثلما تقدم كانت الجذور الصفوية صوفية، ثم تحولت إلى دولة، لتنشأ في داخلها، تحت جنحها أو مناهضة لها، طرق صوفية عديدة، وربما هناك ما لا يُسمع به من قبل الكثيرين من قراء العربية، منها مثلاً الطريقة «النوربخشية»، إلى جانب ما ذهب إليه الباحث في قراءة موقف القزلباش، وهم الجماعة التي اعتمد عليها التأسيس الصفوي، أهل القبعات الحمراء من الأتراك، أما في المشهد الفلسفي فنجد ظهور فلسفات مهمة، اقتربت من الفلسفة الإسلامية السابقة، كابن سينا والفارابي وغيرهما، وأبرز وأشهر هؤلاء الفلاسفة هو الملا صدرا الشيرازي، صاحب “الأسفار الأربعة” المعروفة.
وبدورها تُقدم الباحثة فاطمة الهاشمي، تحت عنوان “العلوم والفنون والآداب في العهد الصفوي”، مادة تفصيلية عن التطور في تلك المجالات، فقد عمد بعض السلاطين الصفويين إلى جلب الفنيين والعلماء والبنائين إلى العاصمة أصفهان، بعد التحول عن تبريز، لتظهر العمارة والزخرفة التي مازالت تشهد آثارها عليها، من دون إهتمام الحاضر بها، وهنا تأتي الغرابة بل المفارقة بين إيغال الخرافة في الجانب المذهبي مع تحقيق التقدم العلمي والفني والأدبي والجمالي بشكل عام.
أما الباحث محمد المعموري فاعتنى بحثه “الأسرة الصفوية: شيوخها وملوكها”، بسير زعماء الطريقة والدولة، وهو بمثابة تاريخ شامل لكليهما معاً، من البداية وحتى النهاية، وربما قراءة المقال كافية للإحاطة بتفاصيل الحقبة التي مثلتها تلك الأسرة أو السلالة.
ثم تأتي دراسة مهمة للدكتور على أحمد رشيد بعنوان” الرواسب الصفوية ومحاولات التحديث في التشيع” باحثة ومنقبة في الرواسب الصفوية التي بقيت في التشيع المعاصر، والتي كانت سببا جوهريا في انغلاقه تجاه الآخر السني، و تکريس المنظومة الميثولوجية عنده؛ کما أنه ظهرت محاولات عديدة لتحديث الفکر الشيعي، و تخليصه من تلك الرواسب في فترة ما بعد الصفوية و خاصة الحقب الاخيرة، كما تعرض هذه الدراسة لجهود التحديث والإصلاح التي حاولت تصفية التشيع العلوي وتحريره من هيمنة التشيع الصفوي عليه.
وقد اعتمدت الدراسات، المتقدمة الذكر، خلا دراسة العلامة علي الوردي، على مصادر فارسية أصيلة، ولعلها لأول مرة تجد النور في دراسات عربية، وحل أخطر مرحلة من مراحل تاريخ إيران، في العهود الوسطى وما بعدها، بل وتاريخ المذهب الشيعي بشكل عام.
أما حقل قراءة الكتاب فضم أهم كتابين لنقد الصفوية، أحدهما كان نقداً غير مباشر، وهو كتاب آية الله مطهري “الملحمة الحسينية”، نقد فيها ما دخل على طقوس عاشوراء من ممارسات في العهد الصفوي، والمؤلف، مثلما هو معروف، أحد أساطين الثورة الإيرانية، إلا أنه قتل بعد انتصارها بثلاثة شهور.
ويأتي الكتاب الآخر، وهو للباحث الإيراني الإسلامي علي شريعتي مبرحاً بنقده لتلك الفترة، منتقداً بتحليل بحثي علمي ما شاع بإيران، وعلى امتداد رقعة الدولة الصفوية، من المغالاة في التشيع ضد التسُنَّن، وما حصل كان لصالح السلطان أو الشاه الصفوي، بل أضر بالتشيع كثيراً، وتتضح قوة نقد الباحث شريعتي من عنوان كتابه “التشيع العلوي والتشيع الصفوي”.
أما دراسة العدد، فهي كالعادة خارج محور الكتاب، ولكن ضمن سلسلة “في العقل الأصولي” للباحث اللبناني الدكتور علي حرب تحت عنوان “داء الاصطفاء وفخ الاستثناء.. كوارث الأسلمة الشاملة”، ناقش فيها التعصب الأعمى للدين أو المذهب ولسواها من الكيانات أو الإيديولوجيات، إلا أنه يتلمس كوة من الأمل في عدم استمرار الأصوليات، على مختلف أنواعها وأشكالها، على الرغم من حضورها القوي في الزمن الراهن، والسبب أنها فاقدة لأسباب أستمرارها في عالم متغير بين لحظة وأخرى، وعلى حد عبارته “لنستيقظ من سباتنا اللاهوتي” فالأرض بحاجة إلى رعاية.
إن كتاب المسبار في إصداره الثالث والعشرين، وقد شارف عامه الثاني على الانتهاء، ليرجو أن يكون قد سد ثغرة في مكتباتنا العربية، التي لم تلق كثير عناية للدولة الصفوية، على الرغم من أهمية هذه الدولة التي امتدت حقبتها لقرون على تخوم المنطقة العربية، بل واخترقتها في بعض المراحل، ودخلت مع منافستها العثمانية في صراع مذهبي وسياسي مرير، وربما تفسر إعادة قراءة تلك المرحلة كثيرا من الأحداث التي تتسارع حدة وشدة وتعصبا في منطقتنا اليوم.