بين مهون من شأن القاعدة، ومهول لقدراتها، وبين من يجزم بانتهاء التنظيم، ومن يرى بتحوله إلى “أسراب ذكية”، وبين مرجع ظهوره وامتداده إلى مؤامرة جهنمية، ومبرر لذلك الظهور بأسباب ذاتية، فكرية ومجتمعية، تخرج العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات والبرامج كل حين، في محاولة لسبر غور ظاهرة “الإرهاب الإسلامي” المنسوب في أجلى صوره إلى القاعدة وما تفرع عنها، أو انتسب إليها.
وعلى الرغم من أن العنف الديني لم ينشأ بتأسيس القاعدة، بل هو ضارب بجذوره في التاريخ، وممتد إلى وقتنا الحاضر بأشكال مختلفة، تبقى خصوصية القاعدة كامنة في تجاوز الحدود الوطنية والإقليمية، كما تتجلى تلك الخصوصية أيضا في تسابق الجماعات العنفية الأخرى –وربما تكون أقدم من القاعدة ظهورا- إلى الالتحاق بها والانتساب إليها، ولو باستعارة اللقب، الذي أصبحت له “جاذبيته” لتلك الجماعات، ومن قبيل كسب الدعم المعنوي والانتشار الإعلامي، في زمن هيمنت الصورة المثيرة على ما عداها من وسائل الإقناع، فالمؤكد أن التنظيم بهيكليته التأسيسية لم يعد قائما، والتواصل المادي معه أصبح ضربا من المغامرة غير المحسوبة.
ومع أن معظم ما صدر حول القاعدة يحمل قيمة علمية من حيث تأصيل فهم الظاهرة، ويقدم مادة غزيرة حول نشوء وتطور “الجهاد” بوجهه العنيف، إن على صعيد المفاهيم، أو الرصد التاريخي الموثق، إلا أن سؤالاً يظل بحاجة إلى جواب شاف، وهو “لماذا؟”، لماذا ظهرت القاعدة، ولماذا اختفت، أو تشظت إلى “قواعد” محلية في هذا التوقيت دون غيره، ولماذا كثفت المراكز المتخصصة، أمنية أم علمية، أجنبية أم عربية، اهتمامها بكل ما هو “إسلامي”، في أعقاب قيام التنظيم بتوجيه ضربة 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
الصحيح أن محاولات صادقة ومخلصة قد بذلت في البحث، وخرجت بنتائج مقنعة في أغلبها، والصحيح أيضا أن تلك كانت صعوبة كبيرة واجهتنا –هيئة تحرير المسبار- عند التفكير في هذا الإصدار الرابع والعشرين من كتاب المسبار الشهري، فما الجديد الذي يمكن إضافته بعد كل ما كتب وقيل؟ والذي سنستكمله في عدد أخر يصدر في فبراير القادم إن شاء الله.
ولكن، ولأن ساحة الفكر لا تعرف الحدود، فضلاً عن القيود، وإيمانا بأن “القول الفصل والجواب الشافي” هو وحده الذي يغلق الطريق أمام آفاق الاجتهاد والبحث، قررنا فتح ملف القاعدة من جديد، واضعين بعين الاعتبار جل ما صدر حولها وحول الظاهرة، لنكتشف الصعوبة التالية، وهي أن زوايا عديدة لا تزال بحاجة إلى تنقيب وتفسير، على الرغم من أن عناوينها قد استهلكت من كثرة التداول، كذلك فإن “الحرب على الإرهاب”، والقاعدة أو “القواعد” في القلب منها بالطبع، لم تضع أوزارها بعد، ولا يبدو ذلك منظوراً في المستقبل القريب، ثم إن خريطة “العالم الجديد”، والتي هي بطور التشكل، من المحتمل أن لا تستقر خطوطها من دون حضور قوي لما هو “إسلامي”، والمترتب على حقبة ما بعد ظهور القاعدة، وهذا واقع الحال الذي ما فتئ يستوعب الحديث عن “ما قبل” سبتمبر، و”ما بعده”.
أما الصعوبة الثالثة التي واجهت هيئة تحرير المسبار ونحن بصدد إعداد الكتاب، فكانت في غزارة المادة المرجوة لتغطية ما بقي مجهولاً أو ملتبساً في تلك الزوايا، مع الحرص الشديد على تجنب التكرار، وتقديم الجديد المتوازن للقارئ، ومن هنا فإن هذا الكتاب، وعلى الرغم من كثافة المحتوى بين دفتيه، نعتبره حلقة في سلسلة بدأناها بـ”القاعدة في جزيرة العرب” –أكتوبر/تشرين الأول 2007- ولا نستطيع –الآن على الأقل- التنبؤ بموعد نهايتها، أو حلقتها الأخيرة.
ومن الزوايا المهمة التي ما تزال في طور الفهم، قضية عولمة الإرهاب، أو “عولمة الطوارئ” كما يعبر الباحث أيمن البدوي في مفتتح دراسات هذا الإصدار، وهو المصطلح الذي درج على ترديده الباحثون والإعلام منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ليتتبع مراحل القاعدة في بانوراما تاريخية منذ مرحلة الجهاد في أفغانستان، إلى تأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين”، وكيفية انصهار جماعات وزعامات متفرقة في بوتقة واحدة، وصولا إلى التحول نحو “العولمة” بالانتقال تنظيمياً من مرحلة “الجبهة” إلى “القاعدة”.
ولأن الأفغان العرب كانوا النواة الصلبة للقاعدة، يفتح الباحث عامر رجب هذا الملف، الذي لا تزال تلفه الكثير من علامات الاستفهام، إذ كانت تلك “الطليعة المؤمنة” قد حملت على عاتقها تجسيد شعارات سيد قطب وعبد الله عزام، أبرز منظري الفكر الجهادي، فكان الجهاد الأفغاني هو طريقهم من الفكرة المتخيلة إلى الفكرة المتجسدة الحية على الأرض، ويعرفنا الباحث بهؤلاء الأفغان العرب، بداية من ظهور المفهوم، والعوامل الدولية والإقليمية التي ساعدت على بروزهم، وأبرز الملامح الفكرية التي تميز أعضاء التنظيم، ويخصص مبحثا للتحولات التي تمت في صفوفهم.
أما الباحث د. كارلو ماسالا، فيرصد التحولات التي طرأت على تنظيم القاعدة، أو بمعنى أدق، القدرة على التكيف مع المتغيرات، خصوصا بعد تعرضه لضربات متتالية في ظل ما يعرف بـ”الحرب على الإرهاب”، فالتنظيم تغير بسرعة، وتكيف مع بيئته العملياتية الجديدة، ولذلك يعتقد أن آليات تلك الحرب قد أخفقت في القضاء عليه نهائيا، ومن أبرز النقاط الملفتة –والجديدة في آن- في بحث ماسالا، استخدامه لنظرية الأسراب Swarm، المطبقة في العلوم الطبيعية لتفسير سلوك معقد لمجموعة ما، وكيف أنها تصلح للتطبيق على الهيكل التنظيمي المرن أو المتغير للقاعدة.
ويستعرض الباحث هاشم صالح تداعيات حدث 11 سبتمبر على الفكرين العربي والغربي، وهو يصف ذلك الحدث بـ”الفلسفي”، الذي كان ينبغي أن يحصل، من وجهة نظره، لكي يفهم المثقفون العرب حجم المهمة الملقاة على عاتقهم، والمتمثلة في رؤية الحقيقة الماثلة في وجود خلل في الواقع العربي والإسلامي، ويصفه بالخلل العميق في فهم الدين الإسلامي، ثم يعرض صالح بالتحليل والنقد لكتابات عدد من المفكرين في الغرب، مثل جيل كيبل ويورغين هابرماس وجاك دريدا، وعدد من المثقفين العرب المقيمين في فرنسا مثل عبد الوهاب المؤدب وعبد الرحيم المشميشي ومالك شبل.
وفي إطار البحث في الأفكار، يتصدى د. قدري حفني لمحاولة تفسير انتشار “فكر القاعدة” منطلقا من القوانين التي تحكم نشأة وانتشار الأفكار عموماً، وشروط تحول أفكار بعينها لتتحول إلى “تيار عالمي”، في حين يتقلص انتشار بعضها الآخر، وهل تظل ملامح الفكرة إذا ما قيض لها الانتشار ثابتة على ما هي عليه منذ نشأتها الأولى، أم أن ما يجري على البشر من دورات للنمو، يجري على الأفكار كذلك، فتنتقل من طور الطفولة إلى الفتوة فالكهولة فالشيخوخة فالذبول فالاندثار؟
ومن آليات الانتشار الإعلامي المهمة، التي اعتمدت عليها القاعدة، بل جعلتها وسيلتها الأولى، الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وقد تناولت هدى الصالح بالتفصيل جماعات التجنيد الإلكتروني، في إطار “جهاد” القاعدة عبر الإنترنت، وهي ترصد ما يمكن اعتباره “منهجاً إعلاميا علميا جهاديا” حسب اعتقاد القائمين عليه، وعلى الرغم من قلة الدراسات العربية الجادة الراصدة لهذا النشاط المكثف والدؤوب، تجد الباحثة ضالتها في عدد لا بأس به من الدراسات الغربية، فضلاً عن الاعتماد على مجهودها الشخصي في الرصد والمتابعة.
وعن السيناريوهات المحتملة لأن تمتلك التنظيمات الجهادية المسلحة قدرة نووية، يطرح د. محمد عبد السلام هذه الفرضية، التي أصبحت تمثل هاجسا جادا لدى دوائر الاستخبارات المعنية، ويرى، استنادا على المؤشرات الخاصة بسعي القاعدة إلى القيام بذلك، أن هذا السيناريو الأسوأ يظل قائما، خصوصا بعد ظهور تحليلات تفصيلية حول أشكال محتملة لتلك العمليات، والتأثيرات التدميرية الافتراضية لها في ظل كل سيناريو متصور.
وكمثال على انتساب الجماعات الجهادية المسلحة إلى القاعدة، يتناول د. محمد مجاهد الزياد “القاعدة في بلاد الرافدين”، إحدى أبرز التنظيمات الفرعية للقاعدة الأم، حيث يعرض للنشأة والاستراتيجيات المختلفة في تنفيذ العمليات، والتحولات التي طرأت على مسيرتها، وعلى الرغم من أن قاعدة العراق لم تخرج مباشرة من رحم القاعدة الأم، وإنما انتسبت إليها بعد سلسلة من العمليات القتالية عندما كانت تحمل راية “التوحيد والجهاد”، إلا أنها شكلت في إحدى المراحل منافساً قيادياً لقاعدة بن لادن والظواهري كما يخلص الباحث.
ولأن العلاقة مع إيران تعد أحد أهم الأسئلة الإشكالية في سجل تنظيم القاعدة، يقترب محمد عباس ناجي من هذه العلاقة في ضوء بعض المعطيات منها أن إيران لم تكن في أي وقت مضى هدفا للعمليات التي قام بها هذا التنظيم، كما أن قادة القاعدة في الخارج، وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، لم يتطرقوا، حتى وقت قريب، لهذه الإشكالية في خطابهم إلا من باب التلميح، وفي المقابل تميزت السياسة الإيرانية تجاه القاعدة بتباين مواقف القوى السياسية المختلفة على الساحة، وتطور أزمة العلاقات الإيرانية-الأميركية التي بلغت ذروتها مع تصاعد الملف النووي الإيراني عام 2002.
أما شخصية الكتاب، فقد ارتأينا أن نوزعها –وبإيجاز هذه المرة- على عدد من أبرز قيادات القاعدة، منهم من ينتمون إلى دائرة المؤسسين، أو الذين برزوا كقيادات في التنظيمات الفرعية، ومن بين هذه القيادات: أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وأبو مصعب الزرقاوي، وأبو عبيدة البنشيري، وأبو حفص المصري، ويوسف العييري، وسليمان أبو غيث.
ويقدم أحمد حسني قراءة لكتاب الصحافي البريطاني جاسون بيرك بعنوان: “القاعدة: القصة الحقيقية للإسلام الراديكالي، وفيه يطرح بيرك أن القاعدة لم تعد تنظيما بالمعنى المادي، كما يقدم تفكيكا مفصلاً لفكر واستراتيجيات القاعدة، ويضع أسامة بن لادن في سياق الإسلام الراديكالي الحديث، بدرجة ما، ويقتفي آثار جذور التنظيم، فيعرض لبعض المفاهيم والأفكار التي يعتقد أنها مهمة في فهم ظاهرة القاعدة، ثم يعرض لحياة بن لادن، ويتقصى ببعض العمق الأحداث التاريخية التي شكلت الرجل وشكلت الحركة التي أصبح جزءاً منها، ثم يعقب ذلك برصد وتحليل دقيقين للقاعدة وعملياتها في الفترة من 1996 إلى 2001، ويخلص إلى رسم النتائج حول طبيعة ما يصفه بالتهديد الذي يواجهنا اليوم.
أما دراسة العدد المستقلة، فنواصل بها سلسلة “في العقل الأصولي”، وقد خصصها د. عبد الحكيم أبو اللوز للعلاقة بين الدين والسياسة، ذلك أن إعادة التوظيف الإيجابي للقيم الأخلاقية والتربوية –أي تحويلها إلى مؤسسات سياسية، مضبوطة، وهادفة، ومسؤولة- تعتبر تحدياً حاسماً، أمام الفكر الأصولي الإسلامي المعاصر، ويتساءل أبو اللوز حول مدى وجود (البعد المؤسساتي) في هذا الفكر، وأيضاً ما يترتب على ذلك من أسئلة ترتبط بالمضامين السياسية، الحمولات الأخلاقية، والملاءمة بين المضامين السياسية والدينية، والعلاقات الجديدة، المفترضة داخل هذا الفكر بين الدين والسياسة.
وختاما، نرجو أن يكون الكتاب الرابع والعشرون، والذي نختتم به العام الثاني من عمر مركز المسبار للأبحاث والدراسات، قد فتح آفاقاً جديدة للبحث في تنظيم القاعدة، وكما وعدنا في بداية هذا التقديم، فإن حجم ما تكشف لنا من زوايا وجوانب مختلفة في هذا الموضوع، لابد وأن يثير شهية الباحثين لتقديم المزيد عن هذه الظاهرة، التي شغلت –ولا تزال- كل المعنيين على جبهات الدين والأمن والسياسة والاجتماع.