يتميز تنظيم الجهاد المصري ابتداءً أنه لم ينشأ تنظيما واضح المعالم منذ البداية، شأن غيره، من تنظيمات الحركة الإسلامية، ولكن كانت بدايته مجموعات متفرقة جمعت بينها المرجعية الجهادية ذات الأصول القطبية -نسبة لسيد قطب- والتيمية -نسبة لابن تيمية- في صيغة جديدة، تسعى لهدف واحد وبوسيلة واحدة، هو تغيير الأنظمة القائمة، وإقامة الدولة الإسلامية عبر القوة والقتال.
يؤكد تنظيم الجهاد المصري، وهو الأسبق من التنظيمات الجهادية في العالم الإسلامي، على المرادفة بين الجهاد والقتال، فالجهاد ليس غير القتال، وعلى أن إقامة الدولة الإسلامية هي المهمة الأولى المنوطة به، وما غيرها من مهام لا يعدو أن يكون ثانويات ووسائل غير ناجزة، يهرب إليها من لا يقوون على حمل مهمة الجهاد.
ورغم اشتهار وتأثير عمليات تنظيم الجهاد وعمق تأثيره، إلا أن تاريخه ومساره يلفه قدر كبير من الضبابية والاختلاف، ولا زال بحاجة لكثير من الاستجلاء والاكتشاف، سواء في جانبه الفكري أم الحركي، فبدءاً من نشأة التنظيم، نجد من يرى أن مجموعاته انطلقت مستقلة عن الإخوان المسلمين، بينما يؤكد آخرون على أنها خرجت من رحم الإخوان، وإن لم تلبس عباءتهم، والدليل الأوضح على ذلك، هو تنظيم صالح سرية، الذي عرف إعلاميا بتنظيم الفنية العسكرية ويحسب على تنظيم الجهاد أو تنظيمات العنف الإسلامي!.
وهو الاختلاف الذي نجده أيضا في قراءة الروافد الفكرية، فهناك من يلح على أن تأثير سيد قطب، وفكر الحاكمية هو التأثير الأكبر، بينما يرى آخرون أن هذا التأثير كان لفتاوى ابن تيمية الجهادية بشكل رئيسي، كما أن هناك من يرى أن الأساس في ظهوره وولادة هذا الفكر كان الصراع بين النظام الناصري والإخوان المسلمين، وتجربة تعذيبهم في معتقلاته.
عاد تنظيم الجهاد لدائرة الضوء والإعلام بقوة بعد صدور مراجعات منظره وأميره السابق الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز الشهير بالدكتور فضل، والتي قسمت التنظيم وأعضاءه لأنصار للعنف وأنصار لإيقافه، وفتحت المجال لجدل صاخب وتبادل للاتهامات بين كلا الفريقين، لم تقف عند التبرئة كما كتب الظواهري، أو تعريتها بتبرئة مضادة كما رد عليه عبد القادر بن عبد العزيز، بل تجاوزتها لتهم التخوين والعمالة والسرقة وسفك دماء الرفقاء والوشاية بهم، بين الفريقين، وهو ما لم يكن يتصور أصحابها أنها ستصدر عنهم يوما ما.
لهذه الأسباب وغيرها كان هذا الإصدار من كتاب المسبار الشهري، الخامس والعشرين، حول “تنظيم الجهاد المصري”، محاولين رصد مسار التنظيم، والتحولات التي طرأت على تصوراته ومرجعياته وممارساته، وكذلك مراجعاته وأنواعها، التي يؤكد هذا الإصدار من كتاب المسبار الشهري أنها أوسع من مراجعات الدكتور فضل ولا تقف عندها، بل إن هناك مراجعات أخرى مهمة لم يتطرق إليها الاهتمام من كثير من الباحثين.
في دراسته عن التأسيس يتناول الدكتور كمال حبيب، وهو القيادي السابق في جماعة الجهاد المصرية تحت عنوان” تنظيم الجهاد: المسار والأفكار والرموز” مسيرة تنظيم الجهاد منذ نشأته الكبرى على يد محمد عبد السلام فرج أواخر السبعينيات، وكذلك الجذور الفكرية التي تأسس عليها، وأبرز العمليات التي تبناها، ومسيرة التحالفات والانشقاقات داخل التنظيم، ثم التحول الجوهري الذي طرأ على بنيته الفكرية والتنظيمية، من جماعة محلية تركز نشاطها في مصر، إلى جبهة عالمية تنخرط في تنظيم أوسع هو القاعدة، وكذا موقف الجهاد من التنظيمات الإسلامية الأخرى، كما تقدم هذه الدراسة تعريفاً بأبرز الشخصيات الجهادية، وأهم الأدوار التي قامت بها منذ بدايات التنظيم الأولى.
وعن تطور مفهوم الجهاد ومشكلته تأتي دراسة هاني نسيره “مفهوم الجهاد من الإصلاح الإسلامي إلى الفريضة الغائبة” مبينا موقعه في بنية الفكر الإسلامي، وروافد سوء فهمه، وسياقات صعوده وتأخره في بنية التصور الإسلامي، وماهي مكانته وتصوره في فكر المدارس الإسلامية المختلفة، منذ الإصلاح الإسلامي على يد محمد عبده، حتى محمد عبد السلام فرج صاحب الفريضة الغائبة.
ثم يتناول محمد فرج في دراسته “الفكر الجهادي وآليات توليد العنف”، قضية العنف وجذوره ومنابعه، وكيف تنظر التيارات الفكرية والسياسية والثقافية إليه، وقضية العنف حين ارتباطه بكلٍّ من الدين والسياسة، وقضية الخلط بين الدين والسياسة، وهي قضايا تُمَثِّلُ مقدمات ضرورية لبحث الفكر الجهادي نفسه، وبحث علاقته بكل من الدين والفكر والسياسة، وبالتالي علاقته بالعنف، كهدف نهائي لهذه الدراسة، التي تطرح سؤالها الرئيسي حول الفكر الجهادي وآليات توليد العنف، وإن ركز الكاتب بشكل أساس على البعد الاجتماعي في ظهور العنف، انطلاقا من مرجعية يسارية في قراءته، غير معول بالكلية على الجذور الإيديولوجية الدينية للعنف الديني، الذي مثله تنظيم الجهاد المصري.
وفي دراسته تناول الدكتور مصطفى لطفي تحولات تصور العدو في فكر تنظيم الجهاد المصري، وكيف كانت مرحلته الأولى تتبلور حول مواجهة العدو القريب، الذي يشير للأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، وأن مواجهته هي الأوْلى من قتال العدو البعيد، والذي يشير إلى الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب، حتى يؤكد محمد عبد السلام فرج أن مواجهة العدو القريب في الداخل أولى من الجهاد في فلسطين، وكيف حدث التحول لقتال العدو البعيد بعد انضمام أيمن الظواهري إلى القاعدة، وتكشف الدراسة عن مبررات كل من التصورين والعلاقة بينهما، وكذلك مدى حضور كل منهما في بنية التصور الآخر.
ويتناول الدكتور رفعت سيد أحمد موقف تنظيم الجهاد الإسلامي في مصر من الجماعات الإسلامية الأخرى، عبر رحلة التنظيم الممتدة منذ نشأته حتى الآن، وكيف تراوحت بين التكفير والرفض الكامل لأفكار ومواقف الآخرين وتسفيهها، إلى مواقف القبول الكامل ورفض التكفير والتعصب أو القتل على الهوية أو الجنس أو اللون، وفي داخل المشهد أيضاً، كما يلاحظ رفعت سيد أحمد، نجد أن الجهاد توالى على قيادته زعماء أو أمراء، تفاوتت بل وتناقضت أحياناً مواقفهم من الآخر الإسلامي، والآخر السياسي، باختلاف الزمان والمكان والقضية وأطرافها!
وفي دراسة أخرى يطرح عبد الرحمن محمد الرحلة من الجهاد المصري إلى القاعدة، عبر تتبع سير عديد من أعضاء وكوادر التنظيم من الجهاد الأفغاني إلى القاعدة، ودور كل منهما، وتنطلق هذه الدراسة من فرضية رئيسية، هي أن تنظيم الجهاد كان مهيأً منذ البداية للعولمة الجهادية والتحول للقاعدة، سواء على المستوى الإيديولوجي أو على المستوى العملي، والسياقات التي وضع فيها أعضاؤه، سواء داخليا داخل الدول الإسلامية أو في الجهاد الأفغاني وحتى الآن.
ويتناول على طه شخصية زعيم مراجعات الجهاد الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز، وكيف ظل شخصية غامضة غير واضحة المعالم على المستوى الشخصي، حتى ظهور مراجعاته الأخيرة، رغم اشتهار كتبه وريادتها في فكر الجهاد والقاعدة، وكيف كان المنظر الأول لكل منهما، ويتناول الكاتب أهم مراحل حياته ودوره وكتبه، كما يتناول مراجعاته والجدل الذي تم حولها وموقفه منها، وأهم التهم التي وجهت إليه وتلك التي وجهها هو إلى الآخرين، وتفترض هذه الدراسة أن المراجعات التي أطلقها عبد القادر بن عبد العزيز، الذي عاد بعدها إلى اسمه الحقيقي “سيد إمام الشريف” قد تؤهله لدور مختلف عن الدور الذي اعتاده، وهو زعامة أنصار اللاعنف في الفكر الجهادي في المرحلة القادمة في مواجهة الظواهري ومن يحذو حذوه من أنصار الفكر العنفي.
أما عبد المنعم منيب، وهو قيادي سابق في جماعة الجهاد المصرية، فيطرح الجدل حول مراجعات الجهاد، والردود التي أثارتها، وتصوره لإمكانيات استمرار أو إدماج أعضاء التنظيم في المجال العام بعدها، حيث تسنى لكاتب هذا البحث مراقبة جميع أحداث المبادرة والمراجعات عن قرب، بسبب تصادف حدوثها مع وجوده في المعتقل، بالقرب من صانعيها.
ثم يتناول نزار غريب، قضية مهمة وهي: من يمثل تنظيم الجهاد الآن؟ حيث يطرح أبرز الأحداث التي أثّرت في مساره، ثم أهم تأثيرات رموزه، سواء بحضورها أم بغيابها، كما تتناول الدراسة أيضاً المراجعات التي بدأت تأخذ مسارها داخل بعض قيادات التنظيم، وتأثيراها على زعامات الجهاد، وقد اعتمد الباحث في معظم المعلومات الواردة على علاقات ومقابلات خاصة بقيادات الجهاد، سواء خارج السجن أم داخله.
وتأتي دراسة الدكتور محمد الشرقاوي “الأفق السياسي لتنظيم الجهاد المصري”، باحثة في إمكانية اندماج أعضاء تنظيم الجهاد وأنصار مراجعاته في الحياة السياسية في مصر، وهي تنطلق من فرضية مؤداها اتصاف الأفق السياسي لجماعة الجهاد المصرية على نحو خاص، ولسائر التيارات الجهادية في العالم العربي والإسلامي عموما، بأفق محدود، يتمركز حول هدف واحد هو “إقامة الدولة الإسلامية” وتنصيب الخليفة أو الإمام الحاكم المسلم، من خلال خلع أنظمة الحكم القائمة، وبوسيلة واحدة هي الكفر بكل معطيات السياسة المدنية، سواء كآلية عملية أم كرؤية تغييرية.
أما دراسة العدد -في إطار سلسلة العقل الأصولي- فهي للأستاذ جمال البنا، وتتناول فريضة غائبة من نوع مختلف عن ذلك الذي طرحه تنظيم الجهاد وغيره من الأصوليين، فريضة غائبة عن التصور الأصولي بعمومه، وهي فريضة التنمية، وكيف تناساها الإسلاميون، وكيف يمكن أن يقدم الإسلام في تصوره المتسع والمتجدد إسهاما في اتجاهها، وفي سيرها انطلاقا من الأزمة العالمية الراهنة.
ويضم الكتاب قراءتين لكتابين، أولهما للقيادي الجهادي السابق طارق الزمر بعنوان “مراجعات لا تراجعات” عرض له مصطفى عاشور، وكتاب “وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم” للدكتور فضل، والتي تعد مانيفستو المراجعة الجهادية الأخيرة.
وختاما، فإننا في هذا الإصدار الخامس والعشرين، والذي نفتتح به العام الثالث من عمر المركز، وكما تعودنا منذ الإصدار الأول، قد حرصنا على تنوع الآراء والاتجاهات في قراءة مسار تنظيم الجهاد المصري، محاولين الكشف، عن تحولات وتطورات هذا المسار منذ بداياته في أواخر الخمسينيات، حتى الوصول إلى محطته “القاعدية” الأخيرة، وآملين أن نكون قد فتحنا آفاقا جديدة للمعرفة، حول واحد من أهم التنظيمات الإسلامية العنيفة وأبرزها على الساحة.