عبدالله حميدالدين
من معاني «الإرهاب الناعم» رؤية شمولية عن العالم والذات والآخر والتاريخ تجعل الفرد في حال رفض وصراع وجودي متواصل مع ذاته ومجتمعه والعالم أجمع. ويقابل ذلك «الإرهاب الصلب» المتمثل في أشكال العنف الدموية المختلفة. صحيح أن الإرهاب الناعم ليس عنيفاً لكنه يخلق المناخ الملائم لإفراز أشكال مختلفة من العنف الاجتماعي والسياسي، بدءاً من رفض المختلف وصولاً إلى التفجير.
يتضمن الإرهاب الناعم فعلين: الأول صياغة تلك الرؤية الشمولية والثاني بثها. والأمران أخذا في التشكل في نهايات القرن التاسع العشر كرد فعل على الاستعمار الغربي وتفتيت الدولة العثمانية، لكنهما تبلورا كإيديولوجية كاملة رافقها نشاطان سياسي وتثقيفي مع ظهور «الإخوان المسلمين» إذ استلهم «الإخوان» منذ بداياتهم الفكر القومي الاشتراكي بصيغته النازية والفكر الماركسي بصيغة لينينية. وبلغ الاستلهام مداه مع سيد قطب حيث يشعر القارئ أمام كتابي «ظلال القرآن» و «معالم في الطريق» أنه يقرأ «ما العمل» للينين أو «كفاحي» لهتلر. وأخطر ما قام به «الإخوان المسلمين» – بوعي أو بغير وعي- مزجهم بين الرؤية النازية/ اللينينية للعالم وبين الدين، مما أضفى قداسة الإسلام بأكمله على أيديولوجية شمولية إقصائية عنيفة. لذلك فما نسميه الإسلام السياسي هو في نهاية التحليل فكر شمولي لينيني/ نازي بثوب إسلامي ولا يمت إلى الإسلام بصلة.
دراسة العلاقة بين فكر «الإخوان المسلمين» وبين الفكر اللينيني/ النازي ليست أمراً جديداً، ولكن، للأسف، لم تنل حظها من الاهتمام. فأكثر المحللين اقتنع بأن الإسلام هو الملهم للإسلام السياسي، وعندما يقدم قُطب فكرته بثوب مشحون بالقرآن والحديث فالقارئ سيفترض أن الإسلام ألهم فكرته، ولن يتصوّر أنَّ قُطب أسقط أفكاره المسبقة على الإسلام. بل إن قُطب نفسه ما تصور هذا! وعندما يقدم إرهابي بياناً دينياً لشرح أسباب انتحاره نفترض أن الدين ألهمه. وعندما يقتل داعشي أحداً بحجة أنه كافر نستنتج أن التكفير الديني سبب لأصناف العنف المادي والاجتماعي.
ولا يتبين للمراقب الانفصال بين الدين والإسلام السياسي إلا بالمقارنات بين خطابات هذه الإيديولوجية وخطابات شمولية أخرى. وبدراسة الأفكار المؤثرة على الإسلاموية في مراحلها التأسيسية كفكر ألكسيس كاريل مؤلف «الإنسان ذلك المجهول» والمتعاون مع الحكومة الفرنسية النازية في الحرب العالمية الثانية، حينها ندرك أن الإسلام السياسي ما هو إلا أيديولوجية شمولية بلباس آخر. أيضاً يظهر الانفصال بين الدين وبين الإسلاموية حين نتأمل في الفرق بين تسويغ الفعل وبين دوافع الفعل، وحين ندرك أنَّ التسويغ والدافع لا يتطابقان في أكثر الأحوال. بل حتى التكفير الذي ننسب إليه ثقافة الإرهاب بريء منه. التكفير قبيح لكن التكفير الممارس اليوم يختلف عنه في الماضي. التكفير في الماضي موجّه ضد من لا يؤمن بالله. أما التكفير الإسلاموي المعاصر فموجّه ضد من يقف أمام مسيرة الطليعة المنقذة للبشرية. وهذا النوع الأخير من التكفير هو الأخطر وهو الذي يوصل البعض إلى حد الإرهاب، لأنّه يخلق حالة عداء شخصية بحجم الوجود والتاريخ والأمة بين المكفِّر وبين المكفَّر. إنَّ التكفير المعاصر يجد جذوره في إرهاب الثورة الفرنسية والنازية والستالينية والماوية وليس في تكفير محمد بن عبدالوهاب.
يقول الباحثان هانسن وكاينز في دراسة منشورة عام 2007 بعنوان «الإسلام الراديكالي والإيديولوجية الشمولية: مقارنة بين إسلاموية سيد قطب وبين الماركسية والقومية الاشتراكية»: «بالرغم من كافة الاختلافات (بينهم) إلا أن جدلهم يتبع بنية واحدة: يتم تصوير التاريخ البشري بأنه صراع حياة أو موت بين الخير وبين الشر، حيث يهدد الأشرار الوجود الإنساني. وأولئك الذين يتجسد فيهم الخير عليهم رسالة إنقاذ البشرية بتخليصها من الشر وبتحقيق المدينة الفاضلة..».
ثم يمضي الباحثان في تحديد المشتركات في الرؤية نحو العالم. مثلاً، كل تلك الإيديولوجيات اللينينية والنازية والإسلاموية تؤمن بأن المشكلة المركزية في العالم هي وجود فئة تستغل فئة أخرى. وأن التاريخ يتجه نحو الانحطاط. والصيغة الإسلاموية ترى أن العالم أجمع يحارب الإسلام والمسلمين ويريد أن يقضي على هذا الدين السمح. وأن العالم صار في جاهلية عمياء. كما تتفق تلك الإيديولوجيات في ضرورة إيجاد طليعة مميزة تتحمل مسؤولية تغيير هذا المسار. كما ترى بأن القيم السائدة في العالم مثل الحرية وحقوق الإنسان ما هي إلا وسيلة المستكبرين لاستغلال المستضعفين. أو في الصيغة الإسلاموية فإنَّ القيم الغربية هدفها القضاء على الإسلام من الداخل.
الخطير في الموضوع أن هذه الرؤية اللينينية/ النازية للعالم التي أُلبست ثوباً إسلامياً أصبحت في حكم المسلّمات لدى غالبية المسلمين. لقد كان النجاح الأكبر لـ «الإخوان المسلمين» في أنهم «أخونوا» أكثر العالم الإسلامي. فالحركات السياسية الثورية الشيعية استلهمت رؤيتهم، لكنّها ألبستها ثوباً شيعياً. والحركات السلفية التي تكّفر «الإخوان المسلمين» تبنت الرؤية تماماً وإن كانت رفضت الجانب الحركي من المنهج الإخواني. السلفية المعاصرة هي «إخوان مسلمــون» مجردون من منهج تنظيمي. والجهاديون «إخـــوان مسلمون» ولكن يؤمنون بضرورة تسريع طي المراحل من خلال الحرب على جاهلية مجتمعاتهم وعلى عدو الإسلام الغربي. بل حتى خصوم «الإخوان المسلمين» من المتدينين غير المنتمين، تبنوا تلك الرؤية أو كثيراً منها.
قولب «الإخوان المسلمين»، وخصوصاً سيد قطب، المبادئ الشمولية اللينينية/ الماركسية في قالب ديني بأسلوب سلس وجذاب ومقنع. وقد ساعد في ذلك أمران: الأول أن عملية تشكيل الرؤية حصلت في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، وحينها كان اهتمام المناضلين من كل التيارات صياغة أيديولوجية تجيّش ضد المستعمر. والثاني أن القومية العربية التي حكمت المنطقة لفترة كانت أيضاً تتبنى تلك الرؤية ولكن بلباس العروبة بدل الدين. أي أن المناخ بأجمعه كان مهيأً لقبول تلك الرؤية اللينينية/ النازية والقوة السياسية الحاكمة كانت متبنية لها أيضاً. لقد كانت تلك الرؤية جزءاً أصيلاً من الوعي الجمعي الإسلامي والعربي ثم صارت جزءاً أصيلاً من مناهج التعليم الديني. ولذلك حين سقطت القومية العربية سياسياً استطاع الإسلام السياسي الصعود بسرعة لأنه لم يقم بأمر سوى تقديم لباس جديد أكثر جاذبية لرؤية كانت راسخةً من قبل.
أمر آخر أخطر بكثير هو أن تلك الإيديولوجية نشأت لمقاومة الاستعمار ثم بعد خروجه تحوّلت تدريجياً إلى مقاومة الأنظمة المحلية. إسقاط الملكيات العربية في الفترة القومية وإقامة «الخلافة الراشدة» في الفترة الإسلاموية والتي يمكن رصد بدايتها الفعلية مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، حيث أعطت الأمل بإمكانية تحقيق «الخلافة الراشدة» فانتشرت على إثرها أنواع حركات الإسلام السياسي في محاولة لاستنساخ التجربة.
إن دين الإسلام- كما فهمه المسلمون- كغيره يحتاج إلى المراجعة. لكن الإسلام- حتى التكفير والجهاد- لا يفسّر الإرهاب. لن نقضي على «داعش» و»القاعدة» بمراجعة النصوص الدينية ونشر التسامح الديني أو حتى التجديد الديني. إنَّ أهم خطوة لمكافحة الإرهاب هي مكافحة الإيديولوجية الشمولية اللينينية/ النازية التي ابتلينا بها والتي صارت جزءاً من وعينا الجمعي وصرنا نؤمن بغالبية مفرداتها. لنكافح الإرهاب علينا أولاً أن نكافح الإرهاب الناعم الذي يقوم بصياغة وإدامة ونشر رؤية شمولية لينينية نازية بثوب إسلامي روحي. يجب أن نوقف عمليتي البث والصياغة. كما يجب أن نقدم خطاباً نقدياً لتلك الرؤية الشمولية. ولعلّ أولى الخطوات تجريم «الإخوان المسلمين» باعتبارهم رأس حربة الإرهاب الناعم. لكن هذا لا يكفي لأنَّ الإرهاب الناعم صار ممارسة لدى غالبية التيارات الدينية وغير الدينية ونحن غافلون.