يتابع هذا الإصدار السابع والثلاثون من كتاب المسبار الشهري إكمال ما بدأناه من دراسة وتحليل مختلف أبعاد ظاهرة مراجعات الإسلاميين، التي سبق أن أكدنا أنها صارت سمة هذه المرحلة من تاريخ الإسلاميين، ويبدو أنها ستستمر تنتج لنا أجيالاً جديدة من الإسلاميين، منعتقة ومتحررة من التراث الأصولي الأحادي، إلى التعددية، ومن لغة السلاح إلى سلاح الكلمة، ومن تهميش المرأة والأقليات إلى حضورها وحقوقها، كما تقول بعض عناوين هذا الكتاب.
يركز هذا الإصدار من كتاب المسبار الشهري على مراجعات الإسلاميين المغاربة بشكل مخصوص، هذه المنطقة البحثية المهملة التي لم تزل المعرفة بها قليلة في المشرق العربي، سعينا لاكتشاف حالاتها ومآلاتها، تحدياتها وردود أفعالها، تراجعاتها ومراجعاتها، عبر عدد من الدراسات التحليلية والشهادات الذاتية لعدد من قياداتها وأعضائها، ولكن حرصنا كذلك على إدارة المرآة في بعض الأجزاء، لنراها في مرآة تجربة المراجعات المشرقية من خلال شهادة أحد كبار ومؤسسي الإخوان المسلمين، وهو فريد عبد الخالق، الذي حمل لقب الدكتوراه مؤخراً بعد أن ناقش أطروحته حول “الاحتساب”، وهو ابن أربعة وتسعين عاما، وكان من الرعيل الأول الذي أسس الإخوان المسلمين مع الشيخ حسن البنا، وإن استقل عنها بدرجة ما منذ سبعينيات القرن الماضي.
في البداية يقدم لنا الأستاذ صلاح الدين الجورشي دراسته حول “مراجعات الإسلامية المغاربية بين الجزئية والجذرية”، وفيها يؤكد على خصوصية التجربة المغاربية، رغم أنه يربطها كحالة بالحالة المشرقية والإخوانية، وهو يصنف مراجعات الإسلامية المغاربية بين مراجعات جزئية وأخرى جذرية، ويحاول تحليل أبرز تجلياتها داخل مختلف حركات الإسلامية المغاربية، سواء السلمية التي اتجهت لمزيد من الاندماج السياسي والمدني، أو العنفية التي أقلعت عن العنف، ويستخدم الجورشي تعبير الحيرة التي تصيب الناس جميعا في لحظة من لحظات الصفاء مع النفس، أو عندما يجدون أنفسهم يواجهون اختبارات قاسية وصعبة، هذه الحيرة هي نقطة الضرورة في المراجعة، إنها يقظة العقل والضمير، وإن تأخرت.
وتأتي الدراسة التالية للدكتور سعد الدين العثماني، الأمين السابق لحزب العدالة والتنمية المغربي، والحزب الإسلامي الأكبر الآن في المملكة المغربية، حول “حركة التوحيد والإصلاح: التحولات والمراجعات”، والتي يدخل إليها العثماني عبر مفهوم النقد الذاتي، ويؤكد أن هذا النقد للقناعات السابقة لا يعني دائماً خطأ الأفكار أو السلوكيات المطلوب التخلي عنها، بل قد يعني تاريخيتها، بكونها صالحة في زمن وظرف وعدم صلاحيتها في زمن وظرف مختلفين، ويقرأ العثماني تجربة حركة التوحيد والإصلاح التي تمثل الفضاء الاجتماعي والدعوي لحزب العدالة والتنمية في طريق المراجعات والنقد الذاتي، ويراها قد تطورت عبر الكثير من المراحل، وشهدت العديد من التغيرات والتطورات فكرياً وتنظيمياً وسياسياً.
وتأتي الدراسة التالية للكاتب والمحلل التونسي لطفي حجي، حول مراجعات حركة النهضة التونسية والتحديات التي طرحت عليها منذ البدء، ودفعت فصيلاً مهماً فيها لمغادرتها مبكراً، ويشير حجي إلى أن حركة النهضة التونسية تختلف عن الحركات الإسلامية الأخرى في العالم العربي، وذلك باختيارها منذ نحو ثلاثين سنة منحى سياسياً يدعو للتغيير السياسي، بعيداً عن شعارات الحركات الإسلامية الكلاسيكية في تطبيق الشريعة، والتركيز على مقولات من مثل الدولة الإسلامية والمجتمع المسلم، وفق مصطلحات وتصورات مستوحاة من فترات سابقة من تاريخنا الإسلامي، ولا تراعي التطورات السياسية والحقوقية، التي وصلت إليها البشرية عبر تراكم تجاربها.
أما دراسة فاطمه حافظ “المرأة حضورا وحقوقا: مراجعات الإسلامية المغاربية” مركزة وكاشفة عن بعد مهم في أي مراجعات إسلامية، وهو الموقف من المرأة ونشاطها السياسي والاجتماعي، هذا الحضور والتحقق والحق، من خلال رصدها لهذا الموضوع فكرياً وتنظيمياً في أدبيات وأنشطة عدد من الحركات الإسلامية المغاربية.
ويقرأ رشيد الإدريسي مراجعات البديل الحضاري، إحدى الحركات الإسلامية المغربية المهمة والصاعدة، والتي خرجت من حركة أخرى تسمى حركة الاختيار الإسلامي، وبدأت كجمعية سنة 1995 ولم تتحول إلى حزب إلا عام 2002، لتطرح نفسها بديلاً وأيضاً حضارياً كما تتسمى “البديل الحضاري”، والذي ينطلق من مرجعية إسلامية مفتوحة ومدنية وسماحية في المقام الأول، وهي المراجعات والتطورات التي ترصدها لنا هذه الدراسة.
ثم تأتي شهادة الأستاذ فريد عبد الخالق عن مراجعات جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وهو من رعيلها الأول، والذي يلح دائما على ضرورة التطوير الفكري والسياسي داخلها وداخل الحركة الإسلامية بعموم، مؤكداً على الوفاق الوطني والسياسي مع الاتجاهات العلمانية الأخرى، من أجل دولة مدنية وليست دينية، ويؤكد عبد الخالق دائما أن بذور التجديد والمراجعة كانت موجودة في فكر حسن البنا وخطابه، الذي لم يكن حاسماً بأبديته بل كان مستعداً دائماً لتطوره.
ويقرأ محمد زويل مراجعات الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة التي صدرت منذ شهور قليلة، مؤكدا على استعداد مبدئي لهذه الجماعة للمراجعة والخروج على خط القاعدة التي انتمت مجموعة من المقاتلة إليها سنة 2007، ولكن بعد إعلان الظواهري هذا الانضمام بقليل، وجدنا إعلانات مضادة تؤكد تحول قاعدة الجماعة وقياداتها المسجونين في السجون الليبية إلى اتجاه المصالحة والحوار مع النظام الليبي وهو ما انتهى بصدور مراجعاتها التي دعتها “دراسات تصحيحية” عدلت فيها من كثير من منظوراتها ومؤكدة على خطأ اجتهاداتها السابقة، وتحولها من مركزية وضيق الحاكمية إلى فضاء النهضة والتنمية ومصطلحات جديدة لم يكن منتظرا أن تأتي من جماعة جعلت اسمها منذ البداية “الجماعة المقاتلة”.
ثم يقدم كتاب المسبار مادة لا شك أساسية ومهمة هي شهادات في المراجعات، شهادات تكشف المسار الفكري لأصحابها وكذلك لجماعاتهم، فنقدم شهادة للناشط السياسي الليبي عاشور الشامس، يحكي فيها تجربته في ليبيا من التغيير بالقوة إلى التغيير السلمي، كما يروى كذلك علي أبو زعكوك تجربته وتحولاته من لغة السلاح إلى سلاح الكلمة، إنها شهادات وصكوك اعتراف وشفافية تكشف عن الفرد داخل الجماعة، وعن الجدل المسكون والمختفي خلف رداءات الطاعة، وعن النقد الذاتي الذي يكون شرارة المراجعات دائماً.
ويقرأ الحسن ولد مولاي محمد تجربة الإسلامية الموريتانية وأزماتها، التي كانت مخاض أزمات ومراجعات، من خلال تحليلاته وتجربته الذاتية في صفوفها، ويذكر أن الصفة الإسلامية كانت جزءاً واضحاً من هوية الدولة الموريتانية الناشئة منذ البداية، ووصفاً من أوصافها، ويتتبع لنا ولد مولاي بزوغ الحركة الإسلامية، وكيفية نشأتها، وأزمة إطارها المرجعي، وانتقالاتها وعلاقاتها بالتاريخ والأنظمة السياسية المتعاقبة في موريتانيا حتي الآن.
وكجزء من عكس المرآة، يأتي كتاب العدد “كتاب المراجعات” الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والذي ركز كاتبوه على دراسة وتحليل تجربة مراجعات الإسلاميين في مصر، بدءاً من الجماعة الإسلامية، وانتهاء بجماعة الجهاد، ومراجعات الدكتور فضل، بهدف أن نتيح فرصة للمقارنة بين مراجعات الجماعات العنفية من الجانبين، فبالضد وحده يتضح الضد.
وتأتي دراسة هذا العدد حلقة في سلسلة دراسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها يقدم الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة، مدخلاً مهماً لدراسة هذه القضية، حول” ثقافة السفينة: في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، والتي ينطلق فيها من حديث النبي صلي الله عليه وسلم “مثل القائم على حدود الله والواقع فيه مثل قوم استهموا على سفينة…” إلى آخر الحديث، ويحاول عبد الفتاح استخدامها كمركز في إطار معروف، يحلل من خلاله فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رابطاً إياه بمفاهيم كالمشاركة السياسية، ومختلفاً مع من يقول بأنه فرض كفاية دائما، مرتئيا أنه فرض عين في الشأن العام، ومؤسساً لعدد من المقولات والفرضيات النظرية في فهم المرجعية الدينية بعموم، وهو ما سنتتبعه في العدد القادم أيضا.
وكعادة كتاب المسبار ورغبته في خدمة البحث العلمي، نقدم ببليوغرافيا بأهم الكتابات العربية والأجنبية حول ملف العدد “المراجعات”، وكذلك البابا الثابت ذاكرة الكتاب.
وكلنا أمل بالمستقبل، وإيمان بضرورة النقد الذاتي والمراجعة، فالأحادية ليست اعتقاداً، ولكنها استبداد ووصاية فكرية، نكتشف خيانتها وعدم راهنيتها بعد فترة، وأن التطور وحده هو السنة الطبيعية في هذا الكون، فهماً للدين، وفهما للدنيا.