محمد الحدّاد
٢٥ يناير٢٠١٥
يعرف الجميع الكاهن الألماني مارتن لوثر، ذاك الذي أعلن حرباً ضروساً على الكنيسة وسخّر كلّ حياته لنقدها. وثمّة حادثة تاريخية غير مشهورة تتصل به، لعلّ ذكرها اليوم يساهم في فهم بعض الوقائع، مع أنه تفصلنا عنها أكثر من أربعة قرون.
قبل أشهر قليلة من وفاته، عام 1546، كان لوثر يشعر بدنوّ الأجل ويأسف أنّه لم يكشف بعد عن كلّ مساوئ الكنيسة والبابا، فخطرت له فكرة كانت الأخيرة في حياته. كتب نوعاً من الأرجوزة الصغيرة تعدّد تلك المساوئ وطلب من صديق له، يدعى لوكاس كراناش، أن يحوّل مضمونها إلى رسوم ساخرة، ونشر المجموع في كتيّب أوصى، وهو على فراش الموت، بأن يوزّع في كلّ مكان. وقد اشتهرت منه تخصيصاً الصورة المعروفة بالبابا الوحش، والبابا في كاثوليكية العصر الوسيط لم يكن مجرّد رجل دين وإنما كان مقدّساً ومعصوماً، لكنّه رُسم في كتيّب لوثر في صورة إنسان وحش، برأس حمار للدلالة على الغباء، ويد في شكل خرطوم فيل للدلالة على النهب، وذيل مثل الأفعى للدلالة على المكر، وبطن بارزة للإشارة إلى الجشع، الخ.
على مدى أربعة قرون، كان هذا الرسم الساخر للبابا محلّ جدل، واختلف تلامذة لوثر منذ وفاته في تنفيذ وصيته، فبعضهم رأى أنّ هذا الكتيّب، برسومه الساخرة، مضى بعيداً في ازدراء البابا والكنيسة وليس من اللائق نشره، وبعضهم رأى أن غاية لوثر كانت أن يبلغ نقدُه الناس العاديين الذين لا يفهمون كتاباته اللاهوتية ويفهمون معنى هذه الرسوم. لكنّ الطريف أنّ الموقف من الكتيّب ورسومه قد تغيّر بتغيّر الروح العامة في أوروبا. فقد سعى الكاثوليك في البداية إلى منعه لما فيه من ازدراء بالوظيفة البابوية المقدسة، لكن مع انتشار فلسفة الأنوار ثم قيام الثورة الفرنسية، أصبح البروتستانت هم الذين يسعون إلى طمسه وإخفائه، أما الكاثوليك فاستعملوه حجّة لتعديل الصورة التاريخية التي استقرّت عنهم، وإثبات أنّ الحروب الدينية في القرن السابع عشر لم تنشأ نتيجة قرار الحرمان الذي أصدرته الكنيسة بحقّ لوثر بقدر ما كانت نتيجة تعصّب لوثر ضدّ الكنيسة وازدرائه للبابا، وليس أفضل من رسومه الساخرة وهو على فراش الموت لإثبات هذا الأمر. وبما أنّ البروتستانت شاركوا بحماس في الثورة الفرنسية، استعيدت آنذاك فكرة استعمال الرسوم الساخرة ضدّ الكنيسة، ونشأت في فرنسا حركة «المعادين لرجال الدين» (anticléricalisme)، وتحوّلت أحياناً إلى معاداة للأديان بعامة، وأصبحت هذه الحركة جزءاً من ثقافة الثورة ومن التراث الفرنسي. واستعيد الرسم الساخر في المواجهة التي جمعت الكنيسة والجمهورية في القرن التاسع عشر، وفي قضية الضابط اليهودي درايفوس، وفي كلّ مرّة يشعر فيها بعضهم بأنّ مجتمعه مهدّد بأن يعود إلى أوضاع سابقة.
وقد انتهت الحرب بين الكنيسة والدولة إلى نوع من الوفاق يقضي بأن تتعايش كلّ الأطراف، الكاثوليك والبروتستانت واليهود والعلمانيون، وشمل هذا الوفاق أيضاً نفاة الأديان الذين يستندون بدورهم إلى هذا التراث الثقافي الأوروبي العريق المرتبط بالمواجهة ضدّ الكنيسة ورفع سيطرتها عن المجتمع والدولة. وأصبح نقد الأديان، على رغم أنه موقف أقلية، شيئاً عاديّاً، يثير الاشمئزاز لكنه نادراً ما يثير العنف، ونشرت آلاف الرسوم الساخرة، من الجميع ضدّ الجميع، على مدى هذا التاريخ الطويل. وقد كان هذا الوفاق أحد الأسباب التي مهّدت لتواجد المسلمين في أوروبا، فالسعي إلى التخلص من السيطرة الكاثوليكية هو الذي دفع البروتستانت واليهود والعلمانيين إلى تشجيع استقبال المهاجرين المسلمين ترسيخاً للتعدّدية الدينية في مجتمعاتهم.
لكن، منذ الفتوى المشهورة التي أصدرها الإمام الخميني عام 1988 ضدّ الكاتب سلمان رشدي، عاد هذا الوفاق إلى واجهة الجدل. تواترت منذ ذلك الحين أحداث نشر رسوم ساخرة ضدّ الخميني، ثم ضدّ رموز الإسلام نفسه. فمن وجهة نظر الأوروبيين، سيبدو غريباً أن يسمح للرسامين بأن ينشروا رسوماً ساخرة ضدّ المسيحية، وهي ديانة الغالبية، ويمنعون من نشر رسوم حول ديانات الأقلية، وهم يرون أن أحد أسباب انقطاع الحروب الدينية في أوروبا السماح بنقد الأديان.
وما ينبغي تأكيده بقوّة أنّ من لم يعش هذا التاريخ منذ بداياته سيصعب عليه فهم هذا المنطق الذي انتهى إليه. لذلك يقول المسلمون بصدق: ولماذا لا نحقّق التعايش باحترام كلّ الأديان والمذاهب؟ ويبدو الأمر، مطروحاً بهذه الصورة النظرية المجرّدة، في غاية الحكمة، لكنّ الأوروبيين يردّون: لقد تخلّصنا من حروبنا الدينية بواسطة هذا الوفاق الذي نجح، فلماذا سنغيّره الآن من أجلكم؟ وأنتم تعيشون حرباً دينية مستمرّة منذ أربعة عشر قرناً، بين السنة والشيعة، وبين المسيحية الشرقية والإسلام، أفليس الأولى أن تثبتوا أوّلاً صلاحية ما تقترحون عندكم؟
وضع المسلمين اليوم حرج، لأنّ ما يحصل داخل مجتمعاتهم يجعل من الصعب على العالم أن يصدّق أنهم يحملون حلولاً ناجعة لقضايا النزاعات الدينية، وأنّه يمكن أن يستشهد بآرائهم وتجاربهم في هذا المجال. ووضعهم حرج في الغرب لأنهم أقلية حديثة العهد بالاستقرار، ووضعهم حرج خارج الغرب لأنّ عولمة وسائل الاتصال تحوّل بسرعة الأحداث المحلية إلى أزمات عالمية وتوقع الجميع في الحرج. ووضعهم حرج لأنّ ثمة أقلية اختطفت تمثيلية الإسلام والحديث باسمه أمام العالم. ووضعهم حرج لأنّ ثمة أزمة اقتصادية خانقة تدفع نحو التخلّص من الهجرة، وأوضاعاً دولية مضطربة تغري بتشييد جدار حديدي بين شمال المتوسط وجنوبه. والأخطر من ذلك كلّه أنّ الجميع قد يتكتّل اليوم ضدّ «المسلمين» على رغم اختلاف الدوافع والأسباب والخلفيات، وبصرف النظر عن الفوارق الجوهرية التي تميّز المسلمين بعضهم عن بعض.
فهل كانت نبوءة هانتنغتون مصيبة عندما بشّر بصراع الحضارات؟ ربّما كان من الأولى أن نبتعد عن النظريات المعقّدة ونكتفي باستحضار المثل العربي القديم: على أهلها جنت براقش.