تقديم
يتناول كتاب «جدل التعليم الديني: التاريخ – النماذج- الإصلاح» (الكتاب الثالث بعد المئة، يوليو/ تموز 2015) إحدى أهم القضايا المطروحة في المجتمعات العربية والإسلامية منذ عقود. تعالج الدراسات خبرات مختلفة لإصلاح التعليم الديني في الدول العربية وتركيا وإيران على مستويات ثلاثة: المدارس، الجامعات، والمؤسسات الدينية التقليدية السنيّة والشيعية (الأزهر، النجف، وقم).
تزايدت الفجوة بين التعليم الديني في المجتمعات الإسلامية -لا سيما الطابع التقليدي منه- والشروط الجديدة التي تفرضها «دراسة الأديان» وما يرتبط بها من تخصصات سمحت بفهم الظاهرة الدينية بشكل أفضل، خصوصاً تلك المستقاة من أوروبا.
يستند التعليم الديني في العالمين العربي والإسلامي -غالباً- إلى النمط التقليدي الذي لا يأخذ بالاعتبار الدروس الأوروبية التي أجرت إصلاحات ومراجعات مؤلمة وعميقة، كان من ضمنها –أخيراً- التقرير الذي أعده الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه بطلب من وزارة التربية الفرنسية التي سمحت بالتجديد في ميدان تعليم تاريخ الأديان في المدارس العمومية، ومنها التعريف بالإسلام لدى التلامذة الفرنسيين بمختلف أديانهم.
ومع تفاقم خطاب التشنج المذهبي في العالم العربي وما يرافقه من تفشي حركات العنف الديني، بات من الضروري طرح الإشكاليات التالية: أين دور إصلاح التعليم الديني في تجفيف منابع التطرف؟ هل يسمح هذا الإصلاح بتكريس ثقافة العيش مع الآخر من خلال تنقية الدروس الدينية من اللغة المعادية لأبناء المذاهب والأديان الأخرى؟ كيف تلقفت الجهات التعليمية المطالب التي رفعها بعض المثقفين، حول الحاجة لتنقية مناهج التربية الإسلامية من الأفكار التي تحرض على العنف، واستبدالها بمقررات حول حقوق الإنسان؟ ألا يساعد تجديد التعليم الديني وإصلاحه، في التجديد الثقافي والاجتماعي الذي أصبح حاجة ملحة في الدول العربية والإسلامية؟
إن الدين مكوِّن رئيس من مكوِّنات المجتمع، ويشكل المرجعية الأساسية للأفراد والجماعات في المجتمعات العربية والإسلامية، وهو يتعرض للتوظيف السياسي والأيديولوجي من قبل الحركات الإسلامية وبعض رجال الدين، مما يستدعي التوقف أمام تعريف الخطاب الديني في العملية التعليمية وأهدافه وانعكاساته من خلال المضمون والقضايا والأسلوب والأداء.
ينتشر العنف الديني في منطقة الشرق الأوسط منذ عقود، لكن التحولات الخطرة التي فرضها صعود الأيديولوجية الدينية المتشددة في السنوات الأخيرة، وسيطرت التنظيمات الإسلاموية المتطرفة على مساحات في عدد من الدول العربية، وتفشي أفكارها بين شرائح شبابية من طبقات اجتماعية مختلفة، تفرض كلها ضرورة فتح النقاش حول الدور الذي يجب أن يلعبه إصلاح التعليم الديني في مدارسنا وجامعاتنا.
بدأ الاهتمام بإصلاح التعليم الديني أوائل القرن التاسع عشر، وترافق مع ظهور الأطماع الاستعمارية الأوروبية، فظهرت مشروعات التحديث، وتبنت إصلاحات تهدف إلى نقل الحضارة الأوروبية، وهو ما مثلته محاولات محمد علي باشا (1796-1849) في مصر، والسلطان محمود الثاني (1785-1939) في الدولة العثمانية، والباي أحمد الثاني (1862-1942) في تونس.
عرف تاريخ إصلاح التعليم الديني في العالم العربي والإسلامي مشروعات عدة؛ بغية تطوير منظومته ومناهجه ومقرراته، بدءاً بجمال الدين الأفغاني (1838–1897) الذي كان عضواً في مجلس المعارف بالأستانة وصولاً إلى مشروع خير الدين باشا (1820-1890) ورفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) وعلي باشا مبارك (1823-1893) صاحب النهضة التعليمية في مصر، الذي يطلق عليه المؤرخون لقب «أبو التعليم» ومحمد عبده (1849-1905) صاحب مشروع تطوير وتحديث الأزهر، وأحد أهم رواد إصلاح التعليم الديني في العالم الإسلامي.
يبدأ إصلاح التعليم الديني بمواد التربية الإسلامية؛ بسبب ما تحمله مناهجها من خلل يؤثر في تنشئة المواطن. تُعد المؤسسة التربوية والتعليمية الأكثر أهمية لما لها من دور مؤثر في تشكيل شخصية الفرد، لا سيما مسؤوليتها في تحديد ملامح الثقافة الدينية، من خلال البرامج التعليمية ونوعية المعارف والمعلومات المقدمة للطلاب، التي تحدد اتجاهاتهم القيمية وممارساتهم السلوكية.
تتمثل وظيفة التعليم الحديث -تشكل دراسة الأديان مفصلاً رئيساً فيه- في تعزيز قيم التضامن الاجتماعي والوطني وإرساء المواطنة وقيم التسامح والعدل والحرية وتقبل التعددية الدينية والإثنية، أما التعليم المتأسس على قواعد قديمة وعلى تعليم ديني ماضوي، فينمي القيم السلبية مثل العُزلة والانطواء والخوف والحقد والكراهية ورفض الآخر، مما قد يؤدي إلى نشر ثقافة التطرف والتعصب، التي تقود إلى العنف بكل أشكاله.
أدركت تيارات الإسلام السياسي أهمية المؤسسات التعليمية وإمكان توظيفها لمساندة مشروعها السياسي، مما دفع العديد من كوادرها إلى اختراق وزارات التربية والتعليم في أكثر من دولة عربية، وإلى تغلغل عدد من مؤيديها من المعلمين والمعلمات في المدارس، وهذا ترك أثره السلبي على الطلاب، سواء على مستوى دروس التربية الإسلامية أم على مستوى المواد الدراسية الأخرى.
لا ينبغي أن ينحصر إصلاح مناهج التعليم الديني في المدارس والمعاهد الدينية المنتشرة في العالمين العربي والإسلامي فحسب، فمن المهم أن يطال المنهاج التربوي المعتمد داخل المنظومة التعليمية مادة التربية الإسلامية في مختلف المراحل الدراسية. إلى ذلك، فإن وتيرة الإصلاح إلى جانب تنقية المواد الدينية من منابع التطرف والتشدد، التي تتضمنها بعض المقررات الدينية، من الأهمية أن تنخرط في دائرة الانفتاح على المسائل الملحة التي يطرحها العصر، وذلك بأن تشتمل على كل ما يزود التلاميذ -حسب فئات العمر والمراحل الدراسية- بالإشعاع الحضاري والثقافي المنبعث من الإسلام، دون ميل إلى الاستعلاء، أو نزوع إلى إقصاء، أو ركون إلى انزواء. والحال، لا بد أن تستوعب مناهج التربية الإسلامية التحولات التي عرفها تدريس الأديان على صعيد الخبرات العالمية، وهذا يساعد -إلى جانب إصلاح المناهج- على تشكيل وعي جديد يواكب التطور الذي يفرضه الزمن الراهن، ويؤهل الأجيال لبناء نهضة حقيقية، ثقافياً واجتماعياً وحضارياً.
إن الإشكاليات التي تفرض نفسها خلال معالجة قضية إصلاح التعليم الديني في العالمين العربي والإسلامي متداخلة: فهل يتم تدريس الدين الإسلامي من وجهة نظر إيمانية، أم من وجهة نظر معرفية، أم من وجهة نظر توازن بينهما؟ هل يتم تدريس مادة التربية الإسلامية بأسلوب استعلائي تفاضلي، أم بأسلوب موضوعي تكاملي؟ هل يكرس منهاج التربية الإسلامية وجهة نظر ماضوية، أم إنه يوائم بين الأبعاد الزمنية؟ وعلى أي أساس يسند الدرس الإسلامي دوره التربوي: على التخويف والترهيب أم على التقارب والتعارف؟ كيف تحضر صورة المرأة في منهاج التربية الإسلامية؟ كيف تبرز صورة الآخر -المختلف دينياً- في منهاج التربية الإسلامية؟ لماذا تتجه السياسات التربوية المعتمدة إلى تديين مناهج التعليم؟ وما الرابط بين تنامي التطرف وتراجع تدريس الفلسفة؟ هذه الإشكاليات –وغيرها- شكلت الإطار المعرفي العام الذي يتأسس عليه الكتاب الذي يعرض لتجارب متنوعة ومتفاوتة.
لا يتخذ الكتاب موقفاً سلبياً من التعليم الديني الذي يُعد جزءاً أصيلاً من المنظومة التعليمية والثقافية، إنما هو محاولة لدراسة المشاكل التي تعتريه، من خلال تقديم مقترحات تطالب بمراجعة مناهج التربية الإسلامية في المدارس والمعاهد، وتدعو إلى إرساء مناهج جديدة تسمح للأجيال بالانفتاح على ثقافة العصر وعلى الآخر وعلى المشتركات الكونية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر البروفيسور محمد الحدّاد الذي أشرف على العدد، والزميلة ريتا فرج التي نسقته، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
يوليو (تموز) 2015
شاهد فهرس الكتاب