*منصور النقيدان
*مدير مركز المسبار للدراسات والبحوث بدبي
*بريدة وسط السعودية
في العام 2010 كنت في زيارة لمدينة القطيف شرق السعودية، حيث يعيش فيها غالبية أبناء المذهب الشيعي، تلقيت يومها رسالة عبر الهاتف المحمول لصديقي حبيب الذي كنت في رفقته وهو رجل دين يلبس العمامة والعباءة التي يمتاز بها من هم أكثر تقوى. كانت الرسالة من رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر الذي سبق أن زرته في بيته قبل أكثر من عام، وتبادلت الحديث معه، حيث تناولنا الشاي والمكسرات الإيرانية. وكان لقاء مؤثراً مشحونا بالعواطف، حيث سرد لي بطرافة موقفين عصيبين تعرض لهما إثر استدعائه في مرات سابقة من إمارة المنطقة ومن الأمن السياسي.حزنت له وحزنت عليه، وشاركته دموع الضحك أحياناً. أعدمت السعودية النمر في الثاني من يناير الماضي ضمن 47 أدينوا بالإرهاب والتحريض عليه، اثنان منهما غير سعوديين.
في العام 2009 شهدت مقبرة البقيع المجاورة للمسجد النبوي الذي يضم رفات رسول الإسلام مناوشات وصدامات بسبب التفاوت في شعائر الزيارة بين السنة والشيعة. يعمد المسلمون الشيعة إلى زيارة مقبرة البقيع التي تحوي قبور عدد من آل بيت النبي الذين يحظون بقدسية عالية. اتسعت رقعة هذه الصدامات، وفي حومتها اختفى نمر النمر العام 2009 إثر خطب ألقاها في أكثر من مناسبة، دعا فيها إلى انفصال المناطق التي يعيش فيها الشيعة عن المملكة، وإقامة حكم على غرار الثورة الإسلامية الإيرانية، وتسببت هذه الخطب الساخنة بوضع النمر ضمن قائمة من المطلوبين لدى السلطات. في رسالته إلى صديقي اقترح نمر النمر أن أقابله وأشير عليه بأفضل الخيارات لحل مشكلته مع السلطات السعودية، فكرت ثم اعتذرت عن لقائه، في قانون البلاد فإي تواصل مع شخص مطلوب دون التبليغ عنه هو جريمة يعاقب عليها. قيمت لحظتها المنفعة التي سيجنيها نمر في مقابل التبعات السلبية للقائي به، واتخذت قراري بالاعتذار.
اختفاء النمر عن الأنظار حتى من أقاربه إلا من دائرة ضيقة من مريديه، كان ملهما لمخيال عشرات من الشباب الشيعة الذين عاشوا على الهامش، وعانوا من الإهمال، ولسعتهم البطالة، وأثرت فيهم الدعاية الإيرانية لسنوات طويلة. لغيبة الأئمة عند الشيعة أثر ساحر وخلاب يضفي غموضاً جذابا لدى المؤمنين، وكان نمر يحث خطاه ليسبغ على نفسه هذه الهالة. في العام نفسه الذي اختفى فيه النمر، عاش المجتمع الشيعي في السعودية جدلاً واسعاً بعد أن عمد أشخاص من آل النمر إلى إعلان أنفسهم من طبقة السادة الذين يحتلون مكانة أعلى قداسة من باقي أتباع المذهب الشيعي. أحدث هذا التطور انقساماً داخل العائلة. وخلال سنتين من اختفائه حتى بلوغ الصدامات في القطيف ذروتها منذ 2011 بعد الاضطرابات التي عمت العالم العربي، احتل النمر حظوة اجتماعية تنامت بشكل فاق نفوذ القيادات الشيعية التقليدية التي تتمتع باحترام واسع بين أوساط الشيعة.
في منتصف 2012 بعد سنة ونصف من الاضطرابات والمسيرات التي شهدتها مدينة العوامية أكبر مدن القطيف ألقت السلطات السعودية القبض على النمر الذي كان بعيداً عن الأنظار لسنوات، إثر مطاردة في سيارة أطلق منها الرصاص على الشرطة. توفيق السيف وهو كاتب ومفكر سعودي خلع العمامة منذ سنوات، ويمثل اليوم واحداً من أبرز القيادات الشيعية في البلاد، كتب في الثالث عشر من ديسمبر الماضي في صفحته على الفيس بوك: أن القطيف الشيعية تعاني من أبنائها الدواعش، الذين يحملون السلاح ويرعبون كل من يختلف معهم أو يحاول نقل حقيقة مايحصل في المدينة. في مثل هذه الظروف التي أشار إليها السيف كان نمر النمر لعامين اثنين يخطط ويقود ويحرض على الاضطرابات التي شهدتها القطيف في السنوات الماضية، حيث ذهب ضحيتها أبرياء، ودمرت ممتلكات، وأحرقت مرافق حكومية، وقُتل فيها رجال أمن، إثر إلقاء القنابل الحارقة، أو إطلاق رصاص عليهم.
يمثل النمر حالة مشابهة لبعض السنة الذين انزلقوا نحو الإرهاب والعمل المسلح في حومة مطالب يبدو بعضها مشروعاً، كما أن مطالب النمر المتكررة في خطبه بإقامة حكم إسلامي على غرار إيران، والتأكيد على انفصال المناطق الشيعية عن السعودية، مثل في نظر كثير من الشيعة المعتدلين خيانة وطنية وتهوراً، وتسببت بعزلة النمر عن الأوساط المعتدلة الشيعية. كان نمر يحث الخطا نحو التطرف والعمل المسلح، ومثل تمرده وثورته عنصر جذب وألق لشباب التفوا حوله، حيث كانوا خليطاً من بقايا حزب الله الحجاز التابع لإيران المؤمن بالعنف، وتجار سلاح، ومروجي مخدرات، ومراهقين، وعاطلين عن العمل، ومجموعة من الشباب واليافعين المؤمنين المضللين. في مثل هذا الظروف، تدرج رجل دين شيعي نحو مقعد الزعامة الحركية ليقود مسلحين قتلوا ودمروا وأحرقوا ممتلكات ومؤسسات حكومية، مختطفاً الزعامة من القيادات الشيعية والوجهاء الذين يحظون باحترام كبير اجتماعياً وسياسياً، واختار البعض منهم الصمت والانطواء ومراقبة نتيجة مايحصل.
وكما هو معتاد دائماً في تاريخ المملكة السعودية فإن الجرائم التي ارتكبها نمر النمر كانت بمعزل عن أفراد أسرته الذين كانوا يتلقون الرعاية والاهتمام أسوة بكل سعودي من الابتعاث في أرقى الجامعات إلى تلقي العلاج في أكبر مستشفيات أمريكا.
لعقود طويلة عانى الشيعة السعوديون من التمييز المذهبي، في مجال حرية العبادات خارج مناطقهم وأحيائهم، كما أن الموقف العام للمذهب السلفي الذي يمثله علماء الدين السنة السعوديون هو تضليل معتنقي المذهب بل وفي مناسبات عديدة جرى اعتبارهم غير مسلمين. خلافا لهذه المسائل الدينية فقد تفوقت القيادة السياسية وتجاوزت هذا التفاوت عبر التعاطي معهم كمواطنين يتمتعون بأرقى الوظائف في أكثر مؤسسات الدولة حساسية في أرامكو أكبر شركة نفط في العالم، وفي البنوك السعودية، وغيرها من مؤسسات الدولة. منذ العام 2001 عمد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز حين كان ولياً للعهد إلى إنشاء مؤتمرات الحوار الوطني لتخفيف التوتر بين السنة والشيعة وخلق حالة من التقارب والانسجام والسلم. ومنذ 2005 اتخذ الملك عبدالله إجراءات كثيرة لخطوات عملية هادئة لتجاوز هذا التفاوت، فقد حظي مايقارب 40% من خريجي الجامعات السعودية من الشيعة بفرصة الابتعاث على حساب الحكومة في أرقى الجامعات الغربية، وهي نسبة أعلى من الخريجين من السنة الذين يمثلون الغالبية من السعوديين.
ومنذ منتصف 2014 تعرضت ثلاث مساجد شيعية لتفجيرات واعتداءات من قبل تنظيم داعش الذي جند سعوديين سنة لتنفيذها. وبعد أن تولى الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في 21 يناير 2015 كان أول ملك سعودي يتبرع بإعادة بناء مساجد أبناء المذهب الشيعي التي استهدفها تنظيم الدولة الإسلامية داعش . كما أن ولي العهد وزير الداخلية وأمراء آخرين كانوا على رأس الوفود التي قدمت واجب العزاء للأسر التي فقدت أحبابها وأبناءها، ولأول مرة في تاريخ البلاد يقوم مئات المواطنين من مناطق المملكة ومن مذهب سني مغاير بإداء واجب العزاء لإخوتهم في الوطن في ظل تغطية إعلامية واسعة بدعم من القيادة السياسية، كما أن الملك سلمان هو أول ملك سعودي في ظل حكمه تصف الصحافة ووسائل الإعلام المحلية، وعلماء الدين القتلى الذين قضوا من أبناء المذهب الشيعي في تلك الأعمال الإرهابية بـ(الشهداء)، وهو وصف يمنح أصحابه مكانة أكثر قداسة عند المؤمنين. وقد كرم الملك الشهداء وأشاد بتضحيات من أسهموا في تخفيف الدمار والخسائر البشرية من أبناء الشيعة الذين قاموا بحماية المساجد ولقوا حتفهم جراءه. وفي العام 2015 اهتمت الدولة بوضع قوانين تعاقب أي إثارة للكراهية وخضع سعوديون سنة في الفترة الماضية لمساءلة السلطات بعد أن نشروا مقاطع فيديو تعبر عن كراهية لأبناء المذهب الشيعي.
هذه الوقائع والتطورات لكل مراقب خبير بتاريخ حكم آل سعود، وباليد الثقيلة للمذهب السلفي/الوهابي الذي تتبعه البلاد تمثل تحولاً كبيراً، ولكن إرث قرون من العداء بين السنة والشيعة، لايمكن محوه في فترة قصيرة، فالتاريخ حركته وئيدة حين يعمل ضمن الانقسامات في المجتمع للم شتاتها والتأليف بين طوائفه. ونحن السعوديون لايمكننا أن نكون أسرع من التاريخ.
منذ 2011 تلقت شخصيات معتدلة شيعية بارزة تهديدات من مسلحين انخرطوا في العنف الذي شهدته القطيف، وقد تعرض واحد من المثقفين المعتدلين على الأقل إلى إطلاق الرصاص على بيته وسيارته. ويمثل مجلس الديوانية في القطيف الذي يمثله عصام الشماسي، وشكري الشماسي ، ومحمد رضا نصر الله وآخرون من وجهاء المنطقة تيار الاعتدال الشيعي الذي يسعى منذ سنوات إلى التهدئة والتركيز على إصلاح البنية التحتية للقطيف، وتطوير مرافقها، ولكنهم الآن يتعرضون للتهديد من مسلحين شيعة ممن وصفهم المفكر توفيق السيف بالدواعش.
الفرصة الآن كبيرة أمام وجهاء الشيعة السعوديين ومثقفيهم، فعليهم أن يتجنبوا الصمت ولا ينكفؤوا على أنفسهم، بل أن يأخذوا زمام المبادرة وأن يتحلوا بالشجاعة والحكمة وبعد النظر.
إن الشخصيات ذات التأثير الكبير على الشباب الشيعي عليها أن تمسك بزمام المبادرة لحماية اليافعين والشباب من الانزلاق في مهاوي الإرهاب ومحرقة المزايدات السياسية، وأن يسعوا لإحداث الإصلاحات ونيل حقوقهم أكثر، والعمل على مشاريع وطنية مع جميع التيارات الفكرية والثقافية من كلا الجنسين، وجعل الحياة في المملكة أفضل، عبر جهد متواصل يوماً بيوم، عام بعد عام، ومن جيل إلى جيل.
المقالة ترجمة عربية للأصل الإنجليزي الذي نشرته مجلة American Interest في 6 يناير، على هذا الرابط: