إشكالية اندماج المسلمين في أوروبا وتحديات الإرهاب هي الفكرة التي اختارها مركز «المسبار للبحوث والدراسات»، لكتابه الشهري الـ112. ويأتي هذا الكتاب في إثر حدثين «إرهابيين» شكلا صدمة للرأي العام العالمي، هما: الأحداث الإرهابية التي تعرضت لها باريس العام 2015، وهجمات بروكسيل قبل أشهر، وما نتج عنهما من سقوط ضحايا، بين جريح وقتيل.
ويعتقد الأكاديمي التونسي محمد الحدّاد، في إطار مشاركته ضمن الكتاب، أنّ «التطوّر الذي شهده البناء الأوروبي في المستوى الاقتصادي لم يتواز مع التطوّر في المستوى الأمني، إذ كان الأوّل أكثر سرعة ووضوحاً، فيما خضع الثاني إلى الثقل البيروقراطي، وحرص كل بلد على السيطرة بنفسه على شأنه الأمني».
وقال الحداد: «طرحت أوروبا قضية الأمن الموحّد من جانبين أساسيين: الهجرة غير الشرعية والجرائم الكبرى، ولم تتفطّن إلاّ أخيراً إلى قضايا أخرى لا تقلّ أهمية، مثل انتشار المخدّرات الخفيفة، وانتشار التنظيمات الدينية المتطرفة التي لا يمكن معالجتها بالآليات والطرق نفسها التي تعالج بها الجرائم العادية».
ولفت إلى أنها أيضاً لم تطرح أوروبا بجدية قضية الحضور الإسلامي، وما يتطلبه من إيجاد مساجد ومدارس دينية للمسلمين ومراقبة تجارة الحلال. وأكد أن غياب الرؤية الواضحة أسهم في توفير الأرضية الخصبة لتلك التنظيمات، كي تفرض سيطرتها على جزء مهم من هذا المجال.
وتحاجج دراسة الباحث في قسم العلوم السياسية بجامعة لويس الدولية محمد حصحاص، بأن الإمامة في أوروبا الغربية تشهد حراكاً على مستوى خطابها الديني، وعلى مستوى علاقاتها مع مؤسسات الدولة والمجتمع، مبيناً أنه على رغم ضعف التعليم على العموم في الدراسات الإسلامية الكلاسيكية والعلوم الاجتماعية الحديثة، فإن نسبة لا يستهان بها من الأئمّة الذين تمّت دراستهم يبذلون جهداً لإبراز الرسائل الأخلاقية للإسلام، وهو دور يجعل منهم الحماة المحليّين للدين والهوية في أوساط المؤمنين.
إلا أن حصحاص يدرك بأن هذا الاهتمام الذي برز أخيراً حول الإمامة عبر دعوات لصنع الأئمّة في المؤسسات الوطنية، من أجل القيم الوطنية، وبأموال وطنية لا يجعل منها سلطة دينية إسلامية مستقلّة يمكن أن تقود المجتمع بمفردها، وتتحدّث باسمه مؤسسياً (سياسياً) ودينياً (علمياً).
وسلط أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليون الثانية محمد شريف فرجاني الضوء في دراسته على خطوط تلاقي الاختلافات بين الأنظمة الدينية والروحية، وداخل كل بلد معني حول وضعية المسلمين وأحوال عبادتهم، لإقامة تحليل تاريخي ومقارن لتقاليد البلدان الأوروبية المعنية أكثر من سواها بوجود الإسلام، مع الأخذ في الاعتبار وقع السياق العالمي والتطورات المتتابعة لنمو النزعة الراديكالية الإسلامية منذ نهاية السبعينات.
وأشار فرجاني إلى أن أوروبا الغربية تطورت منذ بداية المسيحية ونهاية الإمبراطورية الرومانية في الغرب، باتجاه النزعة للدمج بين الجماعة السياسية والجماعة الروحية. أما البلدان الأوروبية في الجانب الشرقي، فأبدت في ظل الحكم البيزنطي، كما العثماني وأباطرة روسيا، ما أطلق عليه اسم «قانون الإقليم الوسيط»، وما كان على الدوام اعترافاً بمختلف العقائد، لكن بشرط أن يدفع السكان من الديانات الأخرى غير ديانة الدولة ضريبة خاصة، مع وجود فصل بين الانتماء الديني والولاء السياسي.
وذكر أنه في الحال الأولى أجبرت محاكم التفتيش المسلمين واليهود على الاختيار بين التحول إلى المسيحية، أو الرحيل أو الموت. وفي الحال الثانية تبدل وضع المسلمين من ملة مسيطرة إلى جماعات أقلوية، أو وقعوا تحت السيطرة بموجب الحقوق والإلزامات التي فرضها الأمراء البيزنطيون، والروس والعثمانيون على هذه الجماعات. صحيح أنهم تعرضوا للتمييز، لكن تم تقبلهم وحمايتهم طالما كان ولاؤهم للأسياد الجدد فوق كل شبهة. وهذا ما يفسر الفرق الحالي بين إسلام أوروبا الغربية وإسلام البلقان وأوروبا الشرقية.
وتناول عميد معهد ابن سينا في فرنسا محمد بشاري، موضوع مأسسة الإسلام في البلدان الأوروبية، عامداً إلى تصنيف البلدان الأوروبية، وذلك من أجل تسهيل فهم الوضعية القانونية المخصصة للإسلام إلى بلدان تعترف بـ«دين للدولة» مثل المملكة المتحدة والدانمرك، وأخرى «حيادية» مثل بلجيكا وألمانيا، وهو النموذج الأكثر انتشاراً في أوروبا، ثم يناقش العلمنة الفرنسية وظاهرة الإسلام في فرنسا. ويولي الباحث هذا الأنموذج اهتماماً خاصاً لأنه يستحق دراسة متعمقة.
ويعود الباحث إلى إشكالية التعامل الفرنسي مع الإسلام حين تم الأخذ بقانون الانفصال في مديريات الراين الأعلى والأسفل وفي الموسيل، التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الألمانية، فما زال القانون المبرم بمعاهدة الصلح هو المطبق، وما زال الاعتراف قائماً بالطوائف الأربع: الكاثوليك، اللوثريين، الإصلاحيين، والطائفة الإسرائيلية. والدولة تدفع أجور المشرفين على الشعائر الدينية، والدروس الدينية ما زالت تُعطى في المدارس العمومية. ولأن الإسلام دخل متأخراً وبعد هذه الطوائف، تعرض لـ«إجحاف» لم يمكنه من نيل حقوق «مأسسة» متساوية لسببين: عدم تنظيم الجماعة المسلمة، ومقاومة المجتمع الفرنسي.