تقديم
اتخذت الأزمات في المجتمعات البشرية أبعاداً سياسية واجتماعية ودينية. يعكس التعاطي المتشنج معها معضلة مركبة تؤثر في الجماعات المأزومة، مما يطيل من أمد التوترات نتيجة التغافل عن عواملها ومسبباتها وصعوبة التجرد من المستفيدين الثانويين المتربحين منها.
تمثل الحروب والاضطرابات العنيفة والتحولات المباغتة محركاً من محركات التاريخ. وفي العمق تشكل الذاكرات القلقة والمتنازعة أرضاً خصبة يمكن أن تغلّف الواقع وأزماته وتحرف تفسيره. إن فهم الأزمات يتطلب الإحاطة بزواياها المختلفة لمنع التوظيفات السياسية أو الدينية أو الإقليمية، من قبل أي طرف سياسي أو جماعة أيديولوجية أو دول إقليمية.
يحاول كتاب (أزمات المسلمين الكبرى: التاريخ – الذاكرات – التوظيف) (الكتاب التاسع عشر بعد المئة، نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) الإضاءة على نماذج من الأزمات في جغرافيا موزعة على منطقة الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. بدأ الكتاب بالقضية الفلسطينية في الوعي العربي الإسلامي متسائلاً عن اختزالها في «فخ الأسلمة»، ثم أزمة المسلمين الويغور في الصين، وأزمة الروهنجيين المسلمين في ميانمار، مروراً بأزمة المسلمين في جمهورية أفريقيا الوسطى، ثم تطرّق لإشكاليات إدارة التسامح في العالم العربي، والصراع الشيعي- السني، وأخيراً أزمات المسلمين من القرن السابع الميلادي وصولاً للقرن العشرين.
يقارب الكتاب القضية الفلسطينية من زاوية مختلفة، ساعياً إلى متابعة واقعها الراهن في وعي العرب والمسلمين، مشدداً على المطالبة بالحقوق، وفهم «عمق الإشكال». مرت الدراسة على تاريخ التعايش الإسلامي – اليهودي في الحضارة العربية الإسلامية، وأشارت إلى أن اليهود في حقب تاريخية عدة تم التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية، فمثلوا هدفاً سهلاً في حالة الأزمات، ولم يتم إدماجهم في المجتمعات شأنهم شأن الأقليات الأخرى. لقد بزغت القضية الفلسطينية منذ تداعي الإمبراطورية العثمانية وصعود طموح الإثنيات والأعراق لاتخاذ وضعيات جديدة. لئن أدت عوامل تاريخية إلى تراجع الطابع القومي للقضية الفلسطينية، فإنها لم تجعل من أسلمتها سبيلاً لرفع روح القوة فيها. يمكن تحديد أربع مضار رئيسة لمسار أسلمة القضية: تعميق الانقسام داخل الصف الفلسطيني؛ والارتهان للتجاذبات الإقليمية؛ وخسارة جزء من الدعم الدولي والمسيحي؛ وأخيرًا تحويل القضية إلى مسألة إنسانية، مثل القضايا المتعلقة بالمجاعات أو الأوبئة؛ ومعالجتها على هذا الأساس. خلصت الورقة إلى أن خطاب المؤامرة أسهم في هزيمة العرب والمسلمين في الماضي كما الحاضر، إذ منعهم من فهم الدوافع الحقيقية لمحركات التاريخ وطبيعة موازين القوى، ورأت أن «تمطيط القضية الفلسطينية» بجعلها عربية وإسلامية أدى إلى توسيع دائرة الخلاف وتعقيده!
تعتبر شنجيانغ (شرق تركستان) الإقليم الأكثر عزلة وغموضاً، وقبل التحاقها نهائياً بالصين الشيوعية عام 1950، قام الويغور بثورات عدة سعياً لإقامة دولة مستقلة، لكنها سرعان ما انهارت أمام الصينيين الذين أخضعوا الإقليم في النهاية لسيطرتهم. تحاول إحدى الأوراق تحديد جذور أزمة المسلمين الويغور في الصين، من خلال منهج التحليل المتداخل في سبيل فهم الفرضية الأساسية: يفسر وعي الذات في الإلهام الإثني الديني في أوساط الويغور السياق الاجتماعي، الذي يواجه فيه المسلمون في شنجيانغ الأزمة مع دخولهم الألفية الجديدة. إن ظواهر الأسلمة الصارمة لمجتمع شنجيانغ يراها الخبراء عاملاً يعقد أزمة الويغور والأقليات المحلية الأخرى، التي كانت تتسم بإسلامها المعتدل والتوفيقي. يواجه المجتمع الويغوري تناقضاً داخلياً يتراوح بين الاتجاه المتسارع نحو تطبيق الشريعة، وسياسة الدولة لتصفية التطرف، والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية (الفقر، وبطالة الشباب، والتهميش). يبقى السؤال عن صورة هذه الأزمة في وعي بقية المسلمين، وكيف يتمّ الترويج لها، والتعاطي معها. سيترك الكتاب للقارئ فهم تجلياتها علّه يتمكن من تجاوز الصور النمطية.
تضمن الكتاب دراستين عن الروهنجيين المسلمين في ولاية راخين (ميانمار) تختلفان في وجهتيهما. اعتمدت الدراسة الأولى على المنهج التحليلي التاريخي الصارم الذي يشكك في وحدة سياسات الهوية الروهنجية، ويرفض الربط بين هوية المسلمين في هذه المنطقة المضطربة ومصطلح الروهنجيا، فالأخيرة نشأت عن حركة سياسية، وتتحرك لمراكمة تجاربها بإنشاء مؤهلات التمييز العرقي، في سبيل تأسيس المكانة السياسية المستقلة. وقد عارض الراخينيون البوذيون هذا التوجه الانفصالي للمسلمين، مما يعني بالنسبة إليهم فقداناً فعلياً لجزء مما يرونه وطنهم. ترى وجهة النظر الأولى أن: «الخطاب التاريخي الروهنجي يشكل مصدراً لإضفاء الصلاحية على الهويات الإسلامية» بغية إقامة تماسك اجتماعي، ومواجهات بطولية، بالإضافة إلى تحفيز النضال السياسي. وهو خاضع للنقد باعتباره «حقيقة نسبية» تحاول التلاؤم مع الحوارات العالمية والمحلية المرتبطة بالقضية. ومع ذلك فإنه تعبير عن الهوية الاجتماعية لجماعة ما، ومن الخطأ إغفال قوّته الاجتماعية وأهمّيته السياسية. وفي حين أن الكتّاب الروهنجيين تصوّروا الماضي الإسلامي لأراكان بألوان متوهّجة، على غرار البوذيين الذين يفخرون بتاريخ راخين براي، فإن الطائفة الإسلامية المتصوّرة في الحاضر لا تزال افتراضية أكثر مما هي واقعية، وهي مشروع قومي في جوهره، تغلب عليه ضرورات تقارير وسائل الإعلام العالمية، التي حصرت تصوّرها بحالة التحوّل إلى «ضحية». اتجهت وجهة النظر الثانية إلى تحميل الجماعات البوذية مسؤولية الاضطهاد الذي يتعرض له الروهنجيون، وقد تضمن الكتاب رصداً لــ«حركة 969» البوذية المتطرفة من ناحية الأسس الأيديولوجية والأصول ومواقفها المعادية تجاه الروهنجيين، والتزمت مساراً أحادياً لم ير المشكلة إلاّ من زاوية واحدة.
ليست أزمة المسلمين في جمهورية أفريقيا الوسطى أقل تعقيداً على مستوى الإشكاليات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي تُثيرها. ولا ريب أن غياب مؤسسات الدولة وضعفها يُعدان من بين أهم العوامل المساهمة في الصراع الذي يصوّر على أنه صراع بين المسلمين والمسيحيين. بينما مهدت عوامل أخرى لعملية التأزم الراهنة، تراوحت بين تراكمات السياسات الاستعمارية والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية؛ كل ذلك وغيره استغلته أطراف الصراع المحلية بأطيافها العرقية والدينية والإقليمية. تخلص الدراسة الأولى في هذا الفصل إلى أنه من الصعب إدراج هجمات السيليكا في إطار الصراع الديني، فلم تنطلق السيليكا نيابة عن المجتمع المسلم، ولم تتأسس بغية حمايته، بل تأسست للوصول للحكم؛ فالأزمة التي اتخذت طابعاً دينياً، هي في جذورها سياسية واقتصادية، مما يستدعي تصويب أنماط التفكير في بعض الأزمات الكبرى التي تُستغل دينياً وأيديولوجياً. تعتبر «حركة الأنتي– بالاكا» في جمهورية أفريقيا الوسطى، التي ظهرت في ضوء تجاوزات مقاتلي «حركة سيليكا» بعد سيطرتها على الحكم عام 2013، واحدةً من أكثر الحركات تطرفاً. عمد الكتاب إلى رصد نشأتها وأهدافها وتكوينها وأيديولوجيتها الحاكمة لتحركاتها، وتهديدها لأمن البلاد، ونطاق عملياتها وتمويلها. من المفيد القول: إن محاربة «الأنتي- بالاكا» وغيرها من الحركات المتطرفة لن تتحقق سوى بترسيخ قواعد مؤسسات الدولة، باعتبارها ممثلة لكل أطياف المجتمع دون تمييز، وهنا صراع بين ذاكرة الدولة وذاكرة حركات العنف في وعي الجموع.
تُعد أزمة التسامح الديني مفصلاً أساسياً في خريطة الأزمات الراهنة. تفرض نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى، في ظل سيادة خطاب الكراهية، وإلغاء الآخر، مما يستدعي حركة نهوض تؤسس لثقافة التعايش بين الجماعات بدءاً من الإصلاح الديني. لقد سعت إحدى الأوراق إلى فهم معضلات ومعوقات التسامح في العالمين العربي والإسلامي، انطلاقاً من قراءة التجربة الأوروبية في التسامح الديني، ليس بدافع المعرفة فقط، إنما بدافع استلهامها في منطقة الشرق الأوسط.
الصراع السني- الشيعي وانتشاره في المجتمعات العربية، وجه من تجليات الأزمات المعاصرة بحمولات تاريخية معقدة. لقد مر هذا الصراع بحقبتين: الحقبة الأولى: الممتدة بين القرنين الرابع والسابع للهجرة، والحقبة الثانية: الممتدة بين القرنين التاسع والحادي عشر للهجرة، أما الحقبة الثالثة والحاضرة، فبدأت في النصف الأول من القرن الخامس عشر الهجري. لا يمكن النظر إلى جذور أزمة الصراع السني- الشيعي بمعزل عن الآتي: العامل «الجيو– استراتيجي»؛ ونتائج الإخفاق في إدارة التنوع الديني والإثني؛ ولجوء الجماعات إلى توظيف الدين في العملية السياسية؛ والرهانات الإقليمية على الطوائف والأديان.
أرخت إحدى الدراسات لأزمات المسلمين منذ التاريخ الإسلامي الأول وحتى سقوط الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين. إن الحقبة الطويلة التي تغطيها الدراسة هدفت إلى التركيز على أهم الأزمات وتداعياتها على الوعي الجمعي العربي والإسلامي، بدءاً من أزمة التاريخ الإسلامي الأول مروراً بالحملات الصليبية (1291-1096) وسقوط بغداد عام 1258 والمجاعات والأوبئة في العصرين الفاطمي والأيوبي وسقوط غرناطة عام 1492، وصولاً إلى الأزمة الصادمة في القرن الثامن عشر، أي حملة نابليون على مصر عام 1798، وسقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة عام 1924. تعكس هذه الورقة التأريخية تأثير الأمراض والأوبئة في المجتمعات، وتكشف أنها أكثر أهمية من كثير من الأحداث السياسية، ولا يوازيها إلا موجات الهجرة ماضياً وحاضراً، وتبين أن المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية المحضة تلعب الدور الأهم على الرغم من محاولات إسقاطها. يقول الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل: «إننا نتعلم من التاريخ درساً مهماً، وهو أن أحداً لم يتعلم من التاريخ»، وعلى واقعية هذه الخلاصة الصادمة نحن محكومون بخطاب الأمل، فالتاريخ لا يسير دائماً في مسار دائري.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج، والزميل عمر البشير الترابي اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
نوفمبر (تشرين الثاني) 2016
شاهد فهرس الكتاب