بقلم: سارا بروسكيفيتش
المركز الإيطالي للدراسات السياسية الدولية
28 أبريل (نيسان) 2017
كان مبنى الزيارات الزوجية على اليمين، وقاعة الاحتفالات على اليسار، وكان أمامنا المجمّع الهائل لسجن الحائر، على بعد كيلومترات عديدة من العاصمة السعودية الرياض. يستقبل السجن الزوّار بشعار “في هذه السجون ليس لدينا ما نخبئه، وأبواب السجون مفتوحة”. يبدأ برنامج مناصحة المتطرّفين في هذا السجن، وينتهي بمركز إعادة التأهيل.
تسنّت لي الفرصة النادرة في شهر مارس (آذار) الماضي، كباحثة غربية، أن أقوم برحلة ميدانية إلى السعودية مع مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي. تمكّنا من خلال الرحلة من رؤية تعامل السعودية مع الجرائم المتعلقة بالإرهاب في السجون، وفي مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، والذي أسّسه الأمير محمد بن نايف قبل حوالي (15) عاماً بهدف مناصحة وإعادة تأهيل الإرهابيين السابقين، والأفراد المتهمين بجرائم مرتبطة بالإرهاب.
بعد الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها المملكة العربية السعودية عام 2003، قامت الأسرة الحاكمة بتبني نهج تطبيق استراتيجيات ناعمة لمكافحة الإرهاب إلى جانب النهج الصارم، بهدف محاربة المبررات الأيديولوجية والدينية للجهاد. تعتمد الاستراتيجية على ثلاثية “الوقاية، إعادة التأهيل، الرعاية فيما بعد مرحلة الإفراج”، والتي يطلق عليها اختصاراً: PRAC، وفيها تلعب إعادة التأهيل دوراً محورياً وتستفيد من معظم الموارد. يبدأ البرنامج من السجن حيث يعمل على تطبيقه مجموعة من علماء النفس، وأطباء نفسانيون ومختصون في علوم الفقه الإسلامي وأئمة. بعد الانتهاء من مدة المحكومية، يتم نقل الأفراد إلى مركز إعادة التأهيل، حيث يفترض إكمالهم مراحل البرنامج بمساعدة فريق مختص من خلفيات متفاوتة. يعطي هذا الفريق، في نهاية المطاف، رأيه في مصير النزيل: يطلق سراحهُ، أو يُعاد إلى السجن.
أمّا بالنسبة للنزلاء في السجون، فيبلغ عددهم في السلطات القضائية للرياض والدمّام وجدّة والقصيم والمنطقة الجنوبية (4993) فرداً. تتراوح أعمار (1054) فرداً منهم ما بين (26) و(30) عاماً، وهذه الفئة العمرية هي الأكثر في السجون. تتعلق معظم أحكام السجن بنشاطات إرهابية، وجرائم مخدرات، وجرائم قتل، في إطار نزاعات قبلية. المحكومون بنشاطات إرهابية هم –غالباً- من الأعضاء السابقين في تنظيم القاعدة أو المتعاطفين معه ومع “داعش”.
يوجد في المنشأة مستشفى مجاني كامل التجهيز، كما أنّ التعليم بالمراحل كافة متاح للجميع، ويتخرج عدد من النزلاء كلّ سنة. توجد كذلك مكتبات وأستوديوهات رسم وتسجيل صوتي، كما أنّه من الممكن أن يتزوج النزلاء، وقد حصل ذلك فعلا ثلاث مرات منذ عام 2007. يحقّ لجميع النزلاء، وكذلك النزيلات، ما لا يقل عن زيارتين زوجيتين في الشهر. إضافة إلى ما سبق، هناك بيوت خضراء ضخمة يعمل فيها النزلاء لأربع ساعات في اليوم لزراعة الخضروات التي يتم استهلاكها في السجن. قال أحد السجناء: “إنّ الزراعة تساعدنا في تنمية مهارات إدارة المشاريع، وتعزز فينا شعور الانتماء إلى الأرض”. يقوم عدد من النزلاء، بعد الإفراج عنهم، بفتح مشاريع تجارية بفضل الخبرات المكتسبة من السجن، وربما هذا هو نتيجة ملموسة للبرنامج. أخيراً، تمّ افتتاح “البيت العائلي” في مجمّع السجن، وهو مجموعة من الشقق المؤثثة، التي يقضي فيها النزيل عدّة أيام مع أسرته بدون كاميرات مراقبة، وتُرفع عنهم تسمية “نزلاء” ويكونون “ضيوفاً”. من المنظور التنظيمي، هناك مكتب لمعظم وزارات الدولة ضمن الإصلاحية. الأهم من ذلك، وجود مكتب لحقوق الإنسان، والذي تمّ تأكيد وجوده كثيراً من قبل سلطات السجن لصالح المراقب الغربي.
ينتقل السجناء المتهمون بجرائم إرهاب بعد انتهاء مدة المحكومية إلى مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية. تأسسّ المشروع بمرسوم ملكي عام 2004، واستضاف حتى الآن (3181) فرداً، يشكّل سجناء غوانتانامو نسبة عالية منهم في العقد الأخير. يقوم مجموعة مختصين في مجالات علم النفس والاجتماع والدراسات الإسلامية بمهمة المناصحة. يتكوّن المركز من عدّة أقسام تؤدي نشاطات مختلفة، من دراسات الشريعة إلى الرياضة والتدريب المهني.
يشير عدد من الباحثين في تقييمهم لأوضاع السجن إلى الامتيازات العديدة التي يتمتع بها النزلاء. قارن أحدهم سجن الحائر ومركز محمد بن نايف للمناصحة بــ”الفنادق المترفة للإرهابيين”. على الرغم من أنّ الأوضاع المعيشية للسجناء هي بلا شك استثنائية، فإنّ تلك المقارنة هي مبسّطة ومضللة. بالتأكيد، وعلى الرغم من الترف، فإنّ البرنامج السعودي يبدو قائماً على أعمدة صلبة، وله مستوى جيد من الفاعلية. وفقاً للإحصائيات الرسمية، تبلغ نسبة النجاح ما بين (80%) و(90%)، على الرغم من أنّه يفضّل الانتظار لسنوات عديدة لمعرفة النسب الفعلية للانتكاس. فيما يتعلق بالنهج المتّبع، هناك حقلان رئيسان تمّ بناء البرنامج عليهما: أولاً: إعادة تفسير معمّق للرسالة الإسلامية، والهدف منها هو مواجهة المنظور الجهادي الذي دفع الأفراد إلى تقبّل العنف أيديولوجياً وعملياً كوسيلة للتغيير، وثانياً: تطوير متواصل لمفهوم “الانتماء الوطني”، الذي يهدف إلى تعزيز الثقة في المملكة وردع المعارضة العنيفة.
تبيّن إحدى الكتابات في مدخل المنشأة الطريقة التي يستفيد بها نظام إعادة التأهيل من المفاهيم الأساسية للخطاب الجهادي لابتكار خطاب بديل، حيث تستذكر ضبّاط الشرطة الذين “استشهدوا” أثناء أداء المهمة. إنّ استعمال صفة “الشهيد” لضبّاط الشرطة ووضعها إلى جانب مفهوم المهمة بالمعنى الوطني، يشكّل تحدياً أيديولوجياً للخطاب الجهادي، ولا ينبغي الاستهانة بهذا التحدي. تعكس الأعمال الفنية التي قدّمها السجناء عاطفة غير مسبوقة تجاه الوطن. إنّ اختيار نشاطات الرسم كجزء من الروتين اليومي هو مهم؛ لأن هناك تفسيرات متشددة في الإسلام تحرّم الرسم، لأنها ترى في الرسم رغبة في أداء دور الخالق في عملية الخلق. تحتوي الرسومات التي يقدّمها النزلاء في السجن وفي المركز على رسائل وطنية صريحة، حيث تتعرض “داعش وأخواتها” إلى الهزيمة الجسدية بفعل قبضة الأمن الوطني.
ولكن، وعلى الرغم من قوة الخطاب الوطني، هناك شكوك قائمة حول طبيعة برنامج إعادة التأهيل؛ فمن خلال مشاهدة البرنامج عن كثب، هناك خطران تمّت ملاحظتهما: الخطر الأول يكمن في تطبيع العنف الجهادي: إذا كان الإرهاب شيئاً يحدث ببساطة، ويمكن دوماً أن يلقى الفاعلون تأهيلاً، قد يصبح الجهاد ظاهرة طبيعية لا يمكن القضاء عليها ولا يمكن محاربتها إلّا عن بعد. أمّا الخطر الثاني، فيما يتعلق بتبني شعور الانتماء الوطني، فيبدو أنّه يلمّح إلى تصوّر مختلف عن العنف داخل المملكة وخارجها، حيث يعتبر الأول غير مقبولٍ على الإطلاق، بينما يتم تجاهل الثاني في الطرح الأيديولوجي داخل المركز.
سارا بروسكيفيتش
طالبة دكتوراه في الجامعة الكاثوليكية في ميلان، باحثة في مؤسسة ENI