آدم غارفنكل∗ |1|Adam Garfinkle
إنّ المتدينين من أتباع جميع الأديان هم بطبعهم متواضعون، ويملكون أسئلة تفوق امتلاكهم للأجوبة. أمّا الناس الأقل التزاماً دينياً، وفي العادة يشكلون الأغلبية الواضحة، فهم يكونون أكثر اعتداداً بأنفسهم، وراضين عمّا لديهم من أجوبة. ويحتاج المجتمع إلى الصنفين: المتدينين القادرين على الحد من نزعة الكبرياء، والآخرين المستعدين للتنفيذ والقيادة، وإنْ كانت تحت ظروف من الغموض الأخلاقي.
تعتبر مكافحة الإرهاب قضية ذات صلة، حيث من الضروري موافقة المتدينين بأنّه يجب فصل الإثم عن الآثم، أو كما يقول المسيحيون: يجب أنْ نكره الخطيئة ونحب الخاطئ. إنّ هذه رؤية غاية في الأهمية، فلا إنسان مهما مال للعنف والكراهية في مرحلة من حياته، أو مهما بلغ استعداده لقتل الأبرياء بسبب قضية في خياله، يمكن أن يكون وحشاً إلى الأبد. لا أحد مستثنى من التوبة، فلا يجب أن يكون هناك من يستثني من المغفرة. كما لا يمكن تفكيك سوء أعمال الفرد، خصوصاً في شبابه، إلا في ضوء التعاطف والعدالة.
منذ سنوات، يسعى الخبراء إلى تحديد “من هو الإرهابي”. هل هناك شخصيات أكثر استعداداً للإرهاب من غيرها؟. هل تؤدي بعض الظروف الأسرية والأوضاع الاجتماعية والمعتقدات الدينية إلى إنشاء حواضن للإرهابي؟. نعلم وفرة من الكتب والدراسات والأبحاث والمؤتمرات التي تناقش هذه المسألة، ولكننا لا نزال لا نعلم ما يكفي لمنع التطرّف أو عكسه إلّا بنسب ضئيلة.
قد لا نعلم أبداً ما يكفي ليتخطى تأثيرنا حاجز النسب الضئيلة وذلك لسببين: أنّ معظم من يقوم بالعنف السياسي ضد الأبرياء هم من المضطربين نفسياً، وأن معظمهم يتصرف بناءً على الأفكار الراديكالية عندما تكون هذه الأفكار راسخة في فكر جماعةٍ ما.
من المهم أن تركّز مساعي مكافحة التطرّف وعكس تأثيره على قدرة وقابلية المستهدَف في استيعاب الفكر العقلاني، وهذا بالتأكيد يختلف بين مستهدَف وآخر. إنّ إهمال عوامل مثل العاطفة المشوشة وضغط الأقران، من المحتمل أن يُفشل هذه المساعي.
إنّ تطبيق مفهوم مكافحة الإرهاب بشكل مباشر وفوري على أفراد وجماعات معينة، هو مزيج من العلاج النفسي والعمل الأمني. هناك عناصر مهمة أخرى، مثل مساعي تقليص التهميش الاجتماعي والفقر، وهي فعّالة في مستويات ثانية. إنّه من الأفضل للمتدينين الذين يصبرون على التحديات، أن يعملوا في الجزء الذي يتضمن العلاج النفسي من هذه المعادلة. إنّ النجاح التام غير ممكن، لذا يبقى دور الأمن والشرطة ضرورياً، وهو من أصناف الأعمال التي يكلّف بها من يستطيع الاختيار بين أقل الشرّين، ومن لا يستطيع صبراً، فيلجؤون –أحياناً- إلى أعمال غير محمودة في سبيل المصلحة الاجتماعية العليا.
هناك تقسيم منطقي للمسؤولية بين الجوانب النفسية والأمنية في مكافحة الإرهاب، وهي متلائمة مع المراحل الثلاث لمكافحة الإرهاب: الوقاية، التقليص، ومكافحة التطرّف.
إنّ النهج المثالي لمكافحة الإرهاب، وبلا شك الأقل كلفة والأكثر طيبةً، هو الوقاية من التطرّف. ولضمان النجاح –هنا- يجب إيجاد طرق لمعالجة المظالم والمواجع في المجتمع كله. يجب أن تحشد الأسر السليمة والحكماء من مجالات الحياة المختلفة لحراسة جميع أفراد المجتمع. إنّ هذا ما نناضل من أجله، ويأتي دور العلاج النفسي ليكون محورياً. يجب أن يكون للنساء أيضاً دور أساسي في إطفاء الغضب والالتباس بالهدوء والعاطفة. هناك أزمنة ومكانات تفوق نضالنا وتوقنا بعد عقود من الحكم المعيب والتغيير العنيف.
أمّا مرحلة “التقليص”، فتأتي بعد وقوع حادث إرهابي وتقوم السلطات خلالها بعلاج الجرحى، وطمأنة المجتمع، وإظهار التعاطف مع الضحايا. هناك جانب علاجي للتقليص أيضاً، ولكن السلطات التي تقوم باعتقال الشركاء في العملية الإرهابية، والمؤيدين لها، يجمعون معلومات لتدمير الخلايا الإرهابية ولدعم الأمن في مناطقهم وخارجها، ويستخدمون هذه المعلومات لتدمير قدرة الإرهابيين على تنفيذ هجوم جديد. هذا هو عمل الشرطة، ولا مكان للمتواضع والنقي والمسالم.
مكافحة التطرّف هي مسعى لتغيير تفكير هؤلاء الذين نفذوا، أو شاركوا بتنفيذ عمليات عنيفة ضد الأبرياء. أسسّت عدة دول عربية برامج لمكافحة التطرّف في السنوات الأخيرة، وبعضها أكثر فاعلية من الأخرى. يعود بعض الأفراد ممّن شاركوا في هذه البرامج وتخرجوا فيها إلى درب الإرهاب عندما يعودون إلى البيئة الاجتماعية التي احتضنت فكرهم المتطّرف في البداية. وتتزامن مساعي مكافحة التطرّف مع تحقيق مطوّل مع المعتقلين. لذلك تجمع مرحلة مكافحة التطرّف مساعي العلاج مع جوانب من العمل الأمني أيضاً.
لقد تغيّر التحدي الذي يشكلّه الإرهاب منذ بداية السبعينيات عندما كان أداة للقوميين العلمانيين، خصوصاً في الشرق الأوسط، والراديكاليين المعادين للقوميين من اليسار في أوروبا. خلال العقدين الماضيين، أصبح الاستهداف الجمعي للمدنيين وسيلة وأداة للجماعات الدينية الأخروية. أما خلال السنوات القليلة الماضية، فقد تقسمت هذه الجماعات إلى مجاميع أصغر، وضمّت ظواهر مثل “الذئب المنفرد” الذي يتحول إلى التطرّف عبر الإنترنت.
اضطرت مساعي مكافحة الإرهاب لأن تتطور لكي تلاحق المسار، ولكن المساعي المباشرة لا تزال هجينة بطبيعتها، ومنقسمة بين العلاج والعمل الأمني، ومسنودة من قبل برامج واسعة لمكافحة التهميش والفقر. إنّ العاملين في جانب العلاج النفسي من مكافحة الإرهاب قد يضيقون ذرعاً بالعاملين في الجانب الأمني، والعكس صحيح. ولذلك فإنّه من الأفضل للجميع، والأسلم للمجتمعات والمصلحة العامة، لو قَدَّر جميع العاملين في مكافحة الإرهاب أنّ هناك جانبين للعمل، كلاهما ضروريان، ولا يكتملان إلا ببعضهما.