أسعد قرار الحكومة السعودية برفع الحظر الذي استمر (35) عاماً على السينمات جميع عشاق الترفيه عبر المملكة، ولكن بالنسبة لمجموعة صغيرة من الليبراليين السعوديين الذين يرون في السينما والإعلام وسائل لتحقيق التغيير الاجتماعي، كانت تلك اللحظة على وجه الخصوص لحظةً عذبةً .
منذ عقود والليبراليون في السعودية والبلدان العربية الأخرى يناضلون لأجل التعددية الدينية والإثنية وحقوق المرأة وسيادة القانون باعتبارها جميعا الأسس البنّاءة للأمن والرفاهية في مجتمعاتهم. طالما قلّل الأجانب من شأنهم، ورأوا أن تأثيرهم متواضع ولن يخلق فرقاً، وأن خسارتهم أمام الإسلاميين في الانتخابات التي أعقبت الربيع العربي ما بين عامي 2010 و2011 كانت تعزز هذه الرؤية.
ولكن هناك ترتيب جديد اليوم، حيث يبدي الليبراليون العرب استعدادهم للشراكة مع الأنظمة المحافظة. لقد نجح هؤلاء الليبراليون في حيازة مراكز مهمة في المنافذ الإعلامية الأبرز في المنطقة، والوصول إلى عشرات الملايين من المشاهدين والمستمعين والقرّاء، ويتحدّون الإسلاميين عبر الأخبار والبرامج الفكاهية، وفي برامج الحوار والأعمال الدرامية وصفحات وأعمدة الرأي، ويعملون على ترويج حقوق المرأة والمساواة بين المذاهب. ويدعمون عبر برامج الأطفال مبادئ الفكر النقدي لكي يكون مضاداً للأيديولوجية. إنّ آمالهم القصوى هي بناء الدعم للتغييرات في المؤسسات الدينية والمجتمع المدني والحكومة نفسها.
يبقى الليبراليون بالتأكيد أقلية في الإعلام العربي، حيث تبث عشرات القنوات المتطرّفة والطائفية خطاب الكراهية على مدار الساعة، بالنيابة عن الميليشيات المدعومة من إيران والجهاديين السنّة، وهم من يتقنون استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لتلقين وتجنيد الشباب المتأثر بهم. في حين تضطهد الأنظمة المحافظة الليبراليين الذين يشاركون علناً في السياسة أكثر مما تسمح به حكوماتهم.
ولكن في الوقت نفسه، فإن هذه الأنظمة المحافظة ذاتها وحلفاءهم يملكون قنوات التواصل الأساسية في السنوات القليلة الماضية، خصوصا منذ الربيع العربي، وقد أصبحوا الداعمين المهمين لليبراليين المستعدين للعب وفق قوانينهم، حيث ترى السلطات بأن رسالة الليبراليين تساعد في التضييق على بروباغاندا الإسلاميين وإصلاح الانقسامات الاجتماعية التي تسعى الجماعات الجهادية لتغييرها، مما يسهل إجراء الإصلاحات المثيرة للجدل.
منذ عقود كانت السعودية المحور الرئيس لدعم الإسلاموية السنيّة المسلحة عبر الهواء ودور النشر. وعلى الرغم من أن الحكومة كانت قد نفت معظم المحرّضين المباشرين على العنف خارج البلاد، فإنّهم واصلوا البث من مناطق أخرى بما فيها أوروبا، كما لا يزال بعض المحرضين الدينيين ينشرون رسائل التطرف دون ملاحقة.
الجديد في التلفزة الحكومية هو وجود برامج مناهضة للجهاديين مثل برنامج “همومنا”، والذي يظهر إرهابيين سابقين يدينون رفقاءهم السابقين. القناة الإخبارية المعروفة بـ(العربية) يديرها تركي الدخيل، وهو ليبرالي صريح تمت ترقيته للمنصب الإداري بعد أن قدم برنامجاً حوارياً لمدة (10) سنوات، ركز خلالها على حقوق المرأة والإصلاح التعليمي.
شبكة MBC التي تملكها السعودية والكائنة في الإمارات تبث مسلسل “سلفي”، وهو مسلسل ساخر يهزأ من “داعش” ويطرح تساؤلات عن الانحيازات الشخصية للمشاهد. في حلقة أخيرة، يروي المسلسل قصة مراهقين، أحدهما سنّي والآخر شيعي، تمّ الخلط بينهما عند الولادة وبعد سنوات تمّ لمّ شملهما بالأبوين الأصليين. يقوم الأب الشيعي، في مسعى منه لتعليم ولده كيفية أداء الصلاة “الصحيحة”، بإرشاد ابنه للذهاب إلى مسجد للشيعة، لكنه يطلب منه ألّا يقوم بتفجيره. تؤثر هذه البرامج الترفيهية والإخبارية على سجالات مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يعرض ملايين من الشباب مقاطع من البرامج ويجعلونها موضوعاً للنقاش.
إنّ هذه التحولات في الإعلام السعودي هي قيد الإنتاج منذ سنوات عديدة، بعد أن عملت الأسرة الحاكمة على إدخال تغييرات في وزارة الثقافة والإعلام وقنوات التلفزة الرسمية عقب أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، وحملة التفجيرات الدموية التي طالت المجمعات السكنية في الرياض عام 2003.
أصبح الليبراليون المعارضون للإسلام السياسي، والذين كانوا يُعتقلون في السابق، يتم تشجيعهم على التعبير عن أنفسهم في الصحافة وعلى الهواء.
في تلك السنة أيضاً، أطلق المحرر الصحفي الليبرالي عبدالرحمن الراشد قناة “العربية”، وقام الممثل الهزلي ناصر القصبي –نجم مسلسل سيلفي- باستخدام برنامجه على القناة الرسمية للتحدّث عن الإرهاب والشوفينية الذكورية والفساد الحكومي.
لقد تعجّل التيار الليبرالي أخيراً مع تبنيهِ من قبل ولي العهد محمد بن سلمان، فإلى جانب إعطاء الضوء الأخضر لمشاريع الإسكان العامة، منحت المملكة أخيراً حق القيادة للمرأة، وحرمت الشرطة الدينية من صلاحية القيام بالاعتقالات.
في السنة التي سبقت التغييرات الجديدة، قام الإعلام السعودي بتهيئة الرأي العام استعداداً للتحولات وتقليص حدّة ردود الأفعال. قامت قنوات التلفزيون ببث مقاطع فيديو تظهر اعتداء الشرطة على ضحايا من النساء اللواتي أعطاهنّ صوتاً، كما نشر المفكرون الإصلاحيون مقالات مستندة على أسس إسلامية وتجادل ضد التضييقات الدينية.
كما أنّ التغيير سارٍ في مصر، عاصمة الترفيه في المنطقة ووطنٍ لتاريخ طويل من العداء للسامية على المسرح وفي الشاشة. لا يزال هذا التعصّب قائماً، ولكن تقابله اليوم مساعٍ جديدة لإضفاء صفة الإنسان على اليهود والأقليات الأخرى. قدّم مسلسل “حارة اليهود” الذي بثّ في رمضان عام 2015 إعادة تصوير صادقة وإنْ كانت لا تخلو من الأخطاء للتعددية في القاهرة عشية حرب 1948 بين العرب وإسرائيل، وتشارك في البطولة امرأة يهودية مثيرة للعطف. أسهمت أعمال أخرى في مكافحة ظاهرة شيطنة الأقلية القبطية المسيحية، والذين يديرون اليوم قنوات فضائية خاصة بهم.
منذ سقوط الرئيس حسني مبارك (وخلال حكم خلفه الإسلامي محمد مرسي)، تضمّ برامج العلاقة العامة مفكرين مصريين ليبراليين كانوا في السابق ضمن قوائم سوداء، أو تعرض من سبقهم إلى الاغتيال.
يشكل الجماعة الجديدة عالم الفقه إسلام البحيري الذي اعتقل مرة بتهمة ازدراء الدين، وهو اليوم يطالب بمراجعة حديثة للقرآن بعيداً عن التفسيرات القديمة. لا تزال هناك قنوات تلفازية متعاطفة مع الجهادية، ولكن الأشدّ تطرّفاً تمّ إغلاقها.
الناشط في مجال حقوق العمال، كمال عباس، لم يكن مسموحاً له بمشاهدة التلفاز في سجون مبارك، ولكن في السنوات الماضية أصبح يظهر في برامج الحوار، وهو يقدّم قضيته في تأسيس نقابات تجارية مستقلة، والالتماس من الرئيس السيسي لإنهاء احتكار الدولة للعمالة. ولا تزال الاعتقالات في صفوف نشطاء حقوق العمّال مستمرة، كما أنّ قانون النقابة التجارية سوف يزيد من التقييد على حرية التجمّع، ولكن في مجتمع تعلّم على اعتبار نشطاء حقوق العمّال أعداءً للبلاد، يُسمح للسيد عبّاس بتقديم قضيته أمام جمهور كبير.
يدفع هؤلاء الليبراليون جميعاً الثمن مقابل فرصةً للتقدّم بأجندتهم: عليهم التنازل عن أهداف ثورية، وتحديد مطالب الإصلاح السياسي، والثناء على الحكّام. هناك من يرفض قطعاً هذه المساومة، وهنا يقدّم الأكاديمي السعودي عبدالله الرشيد تمييزاً بين “الليبرالي الاجتماعي” الذي يقبل بالمساومة، وبين “الليبرالي السياسي” الذي لا يرضى.
يجادل الليبراليون الاجتماعيون بأنّ الانفتاح الديمقراطي –ما لم يسبقه تحول ثقافي أوسع- سوف يأتي بالمتطرفين. اتهمّ المفكر السعودي تركي الحمد، على سبيل المثال، الليبراليين بالتماشي مع الإسلاميين بسبب رفضهم تحديد طموحاتهم الشخصية فيما يخص الإصلاح السياسي.
من ناحية أخرى، يرفض النقّاد الأصوات الأقل مبدأً في معسكر السيد الحمد، ويتهمونهم بالتقرّب من السلطات، ويتعرضون للسخرية من قبل أمثال يوسف حسين –رسام كاريكاتير مصري ذو ميول إسلاموية- حيث يشاهده المئات بل الآلاف في صفحته على موقع يوتوب من خلال جمع العشرات من اللقطات الساخرة من معلقين مصريين يرددون آراء الرئيس السيسي.
سيضحك جمهور السيد حسين، ولكن وسط تفشي الصراع الأهلي الذي يحرض عليه المتطرّفون على الهواء المباشر وعبر الإنترنت، هناك حاجة ملحة للإجابة باحتماليات أكثر إنسانية للعالم العربي مهما كان الرعاة ومنابرهم غير مثاليين.