يُسلط هذا المقال الضوء على أهمية دور الدولة القوية ومؤسساتها، خاصةً في هذه المرحلة المضطربة ذات الأهمية والتأثير على الدول العربية ومكانتها المستقبلية، خاصةً في ظل تفشي الإرهاب. في هذا السياق، يُناقش المقال اثنتين من أطروحات فرانسيس فوكوياما، وهو سياسي أمريكي من أصل ياباني، ومفكر اقتصادي وكاتب؛ أشارت عدة مصادر إلى تأثره بصاموئيل هنتنغتون، صاحب أطروحة (صدام الحضارات). اُشتهر فوكوياما بكتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الصادر عام 1992.
الأطروحة الأولى: “انتصار الليبرالية ونهاية التاريخ”
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وما لحقه من تغيُّر في شكل النظام الدولي، ليتحول من ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية، تولت الولايات المتحدة الأمريكية قيادته. وبدأ بعض المفكرين بالمناداة بانتصار الليبرالية، واعتبارها نظام الحكم المثالي للبشرية؛ في ظل “انتصار” الأفكار والقيَم الأمريكية. وفي عام 1989 نشرت مجلة “ناشونال إنتريست” مقالاً لفرانسيس فوكوياما بعنوان “نهاية التاريخ”. تستند أطروحته بشكل أساسي إلى أنَ الأنظمة الليبرالية بشقّيها: السياسي، الذي يرتكز على الحرية الفردية والمساواة وسيادة الشعب؛ والاقتصادي المُرتكز على مبادئ الليبرالية الاقتصادية والسوق الحرة، تُشكل نهاية التطور الفكري البشري وأقصى مراحل التطور الأيديولوجي للإنسان.
في أعقاب الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 على مركزي التجارة العالمية والبنتاغون. قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتسويغ شن الحروب الوقائية والاستباقية؛ نظراً لوجود الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، مما عُرف بـ”التدخلات الأمنية”؛ كما أعلنت عن عزمها على نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط كوسيلة لعلاج الإرهاب، وأن تقوم بذلك بمفردها إن لزم الأمر. اُعتبر فوكوياما مثالياً ارتبط بالمحافظين الجُدد خلال فترة حكمهم الذي تخللته الحرب الأمريكية على العراق؛ الذين أيَّدوا نشر الأنظمة الديمقراطية حتى لو باللجوء لاستخدام القوة.
الأطروحة الثانية: “بناء الدولة”
موقف فوكوياما السابق تغير؛ إذ لفت في مقال له بعنوان “ما بعد المحافظة الجديدة” إلى أنه تبنى “الويلسونية الواقعية” التي أعلن عنها في المقال ذاته. أشار فوكوياما إلى أنَ المشكلة لدى المحافظين الجدد كانت تكمن في وسائلهم وليس في غاياتهم، داعياً إلى مواءمة الغايات الأمريكية بالوسائل؛ مما يعني تقييد استخدام القوة العسكرية في سبيل بناء أنظمة ديمقراطية. انتقد بذلك فوكوياما أطروحته السابقة، فأصدر كتابه (بناء الدولة) الصادر عام 2007، على خلفية الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، وما نتج عنه من هدم لأنظمة، مما أدى بدوره إلى إفراز دول فاشلة. وجوهر كتابه أنَّه من الخطأ نشر الديمقراطية في الدول الضعيفة، إذ يعتقد أنَّه من الأهم بناء دول قويةٍ أولاً.
عدَ فوكوياما في كتابه بناء الدولة، عملية بناء الدولة من أهم قضايا المجتمع العالمي في الوقت الحاضر، التي عرفها بأنها “تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي. وهو بذلك نقيض تحجيمها”. ذلك يشمل، “مدى الدولة وأُفق مجالاتها وأنشطتها ووظائفها”. مُشيراً إلى أنَه منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين أدت الحملات الليبرتارية إلى تحجيم دور الدولة وإضعاف قدرات مؤسساتها. وأكد أهمية إصلاح هذا الوضع بتقوية مؤسسات الدول داخلياً وخارجياً، وقد أشار إلى الدول النامية تحديداً.
قوة الدولة التي أشار إليها فوكوياما هي “القدرة المؤسساتية”، التي تعني قدرة الدولة على تخطيط وتنفيذ سياساتها وفرض القوانين بإنصاف وشفافية. وأشار إلى وظائف الدولة، وقسمها إلى ثلاثة مستويات: المستوى الأول والأهم يتعلق بالحفاظ على الأمن والنظام داخلياً؛ ويتعلق المحور الثاني بالدفاع عن المواطنين ضد أي غزو أو تدخل خارجي؛ ثم ما أسماه بالوظائف الدنيا، تلك المتعلقة بتوفير الخدمات، والمنافع والصحة العامة، ومكافحة الفقر وغيرها.
تشديد فوكوياما على بناء الدولة يرجع إلى أنَّ الدول الضعيفة أو الفاشلة باتت منذ نهاية الحرب الباردة تُشكل أزمات في النظام العالمي. أشار فوكوياما إلى أنَّ “العالم المتقدم اليوم مسكون بشبح ضعف الدولة في البلدان الفقيرة”، لما ينتج عنها من انتهاك لحقوق الإنسان، وتصدير المهاجرين واللاجئين إلى دول أخرى، والأهم من ذلك تعزيز ظواهر كالإرهاب والتطرُّف، واحتضان الإرهابيين العالميين، مما يُسهم في تكريس هذه الظاهرة الخطيرة عالمياً. مؤكداً أنَ عملية بناء الدولة قد زادت الحاجة لها وجعلتها أكثر وضوحاً بعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وانتشار الإرهاب لاحقاً.
هذا ما دفع فوكوياما لمناقشة أثر الدول الضعيفة على النظام الدولي ككل؛ إذ أشار إلى أن “الأزمة الواضحة في أنظمة حكم العديد من الدول في مناطق متداخلة من العالم -من مصر إلى أفغانستان- سوف تُشكل في النهاية تهديداً أمنياً له”. هذا ما يدفع الدول الكبرى إلى التدخل في شؤون الدول الأخرى في الوقت الذي تشاء، حين تقرر أنَّ هناك خطراً يُهدد شؤونها.
في الأطروحتين أباح فوكوياما التدخل في الدول الأخرى. في أطروحته الأولى أباح اللجوء إلى استخدام القوة لإقامة أنظمة ديمقراطية. وقيد فوكوياما في أطروحته الثانية (بناء الدولة) استخدام القوة لبناء أنظمة ديمقراطية في العالم؛ إلا أنه طرح إمكانية تدخل القوى الكبرى في الدول التي اعتبرتها فاشلة وتُهدد أمن النظام الدولي من خلال التدخل لبناء الأنظمة هذا المرة. هذا ما يقودنا إلى أنه لا مكان للدول الضعيفة في النظام العالمي، هذا بدوره من الضروري أن يُحفز الدول التي يُفترض أن سلوكها عقلاني إلى بناء دول قوية وتُعظم قوتها.
ما أصاب به فوكوياما ولعلَ المجتمعات العربية تتلقاه، أنَّ بناء الدولة يبدأ عندما يستطيع “المجتمع توليد طلب محلي مُلح على المؤسسات، ثم يُوجدها بالكامل”. مُشيراً إلى عدة أمثلة في هذا السياق، كالولايات المتحدة الأمريكية بعد الثورة الأمريكية، وألمانيا واليابان وتركيا في القرن التاسع عشر، وكوريا الجنوبية وتايوان في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. في هذه النقطة يؤيد الباحث فوكوياما إذ إنَّ في بناء الدولة هناك دوراً كبيراً يقع على كاهل المجتمعات؛ بحيث إنه من الصعب خلق دولة قوية من غير وجود مجتمع واعٍ بذاته، مدرك إمكاناته، وقوته، وقدرته على التطور، لتحقيق التنمية والتقدم، وتحفيز الإبداع.
في نظرة إلى تاريخ تطور الدولة الغربية، كان تطور الدولة الحديثة أمراً طبيعياً في ظل تحرر الفكر وانطلاق الملكات الإنسانية في جميع الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. في هذا الاتجاه تستطيع الشعوب بناء دولها. ما تحتاج إليه الدول العربية رؤى استراتجية تبني عليها خطاها المستقبلية بدقة ووضوح، هذا ما يتطلب عملية إصلاح وتحديث شاملة تبدأ بإعمال العقل والارتكاز على الوسائل الحديثة، وتُؤسس لدول فاعلة، وقادرة على مواجهة كافة التحديات، بتحصين المجتمعات من المسارات التي تُبعدها عن تحقيق التنمية، أو تُتيح التدخلات الخارجية.
جمانة مناصرة -1 – باحثة فلسطينية
2-Francis Fukuyama, “After Neo-conservatism”, (the New York Times magazine: 2006), https://goo.gl/Rfymn9.
3-Francis Fukuyama, “After Neo-conservatism”, (the New York Times magazine: 2006), https://goo.gl/Rfymn9.
4-فرانسيس فوكوياما، “بناء الدولة”، ص37.
5-المرجع السابق، ص167.
6-نفسه، ص87.
7-عبدالعزيز نوار ومحمود جمال الدين، التاريخ الأوروبي الحديث منذ النهضة وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ص143-144.