«ثمة اليوم من يريد أن يطرح المسألة من زاوية مغلقة: إما أن تكون مع (الثورات العربية) أو أنك ضدّ الإصلاح والتغيير! لكن الحقيقة أنّ الثورة حالة قصوى واستثنائية من الأزمة تحصل في مجتمعات تنغلق فيها سبل الإصلاح، فهي انفجار لوضع فقد القدرة على التواصل. لكنّها لا تضمن في ذاتها تحوّل الوضع إلى الأحسن أو إلى الأسوأ. والحاسم في الأحداث ليس الثورة في ذاتها وإنما طريقة إدارتها والاستفادة منها. والثورة مجرد وسيلة، بينما الإصلاح هو الغاية، والثورة ليست أفضل السبل للإصلاح لأنها تؤدّي إلى الكثير من المساوئ والعنف لكنها تفرض نفسها كلّما تعطّلت سبل الإصلاح».
هذا اقتباس من مقدمة ضافية قدم بها المفكر التونسي وأستاذ كرسي «اليونيسكو» لعلم الأديان المقارن محمد الحداد لواحد من أهم الكتب الصادرة في عام 2018 عن «ما بعد قطر».
يؤكد الحداد أنه ليس من الضروري أن نختار بين الإمكانيتين المطروحتين، ولا من المنطقي أن يبرّر كلّ شيء باسم الثورة، إلا لدى الشعبويّين الذين نسوا بسرعة أننا كنا قد عشنا موجة ثورية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حيث أشبعتنا شعارات ووعودا لم يتحقق منها شيء، وبمثل ذلك يبشر مصير الثورات الحالية.
كان النظام الإقليمي قد تشكل في ظروف الحرب الباردة، وانقسمت السياسات العربية بين مساند للكتلة الاشتراكية والكتلة الغربية، واتخذ أصحاب الموقف الأول عبارة «ثورة» تسميةً مفضلةً لديهم، وإن كان من المفارقات اليوم أن موجة الثورات الحالية قد قامت في العديد في البلدان التي قادت ثورات الخمسينيات والستينيات، وخرج من التاريخ والوجود آخر «قائد» ثوري عربي، العقيد القذافي، بفعل ثورة جديدة. ورغم هذا الانقسام في السابق، بين أنظمة مصنفة على أنها محافظة وأخرى على أنها ثورية، فقد ظل النظام الإقليمي متمسكاً ببعض الثوابت المشتركة.
إلا أنه مع نهاية الحرب الباردة، ضعفت هذه الثوابت بدورها، فأصبح بديهياً أن النظام الإقليمي بحاجة إلى تغيّرات يفرضها العصر، لكنه لا يحتاج إلى أيديولوجيا ثورجية جديدة، ولا إلى «بلد» طلائعي لقيادة المرحلة الجديدة، فقد انتهى عصر هذه الدعاوى. وكل مشروع للتغيير لا يأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى سيسير في عكس حركة التاريخ، ولن يفعل أكثر من إعادة مآسي الماضي القريب في قوالب جديدة.
ويذهب الحداد إلى أن إحدى دعائم إعادة الوعي إلى المجتمعات العربية، مقاربة جديدة تعيد كتابة التاريخ الفكري المعاصر كتابةً علميةً، تنأى به عن التوظيف الأيديولوجي والتقسيم الاستقطابي لتبرير الإسلام السياسي والثورجية القومية، وتعيد الاعتبار للمثقفين الكبار الذين لم يحظوا بالتمويلات الضخمة والآلات الدعائية، تلك التي وضعت على ذمة الكتّاب الأيديولوجيين، فجعلتهم يمارسون إقليمياً تأثيراً لا يتناسب مع وزنهم الفكري، والأخطر من ذلك أنهم أصبحوا مؤثرين في دوائر القرار العالمية.
وفي الوقت الذي كانت أصوات كثيرة تبشر بنهاية الأيديولوجيات، عاشت «صرعة» جديدة اختلطت فيها بقايا القومية وأوهام الإسلام السياسي مع نتائج العولمة المتوحشة ودعاوى نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية، يضاف إلى ذلك كله خليط غير واضح المعالم من تدخلات أجنبية ولوبيات مالية ومصالح متشابكة. لقد بدأ مع الألفية الثالثة -كما يرى الحداد- اختبار النظريات الجديدة في هذه المنطقة العريقة، وكأن شعوبها فئران مخابر. ويرى الحداد أنه حان الوقت اليوم ليتوقف كلّ هذا النزيف، بشرط أن تتعافى المنطقة العربية من آفة قاتلة اعتمدت على ثلاثة أقانيم وظفت للتلاعب بوعي الشعوب العربية، تتمثل في عزمي بشارة، يوسف القرضاوي، وطارق رمضان. سنعود إليهم بالتفصيل لاحقاً.