تقديم
يأتي كتاب المسبار «التصوف الأكبري: ابن عربي– التاريخ- النص» (الكتاب الحادي والثلاثون بعد المئة، نوفمبر (تشرين الثاني) 2017) استكمالاً لاهتمام المركز بدراسات التصوف والإسلام الشعبي والتدين التقليدي والموازي، وللبحث داخل تراث المجتمعات والجمعيات المسلمة، وتاريخ أفكارها الشعبية والرسمية. ولا يمكن إكمال دراسة الإسلام الموازي والتدين التقليدي والتصوف في نسخته البكتاشية أو المولوية، دون المرور على تأثير ابن عربي ومدرسته السلوكية والفلسفية، وتأثيره على الصعد الفكرية والثقافية.
يعاد تسويق محيي الدين بن العربي ضمن جهود محاولة إعادة الإنسان إلى إنسانيته في ظل عصر بات يُسجل «انهيارات مفاجئة» في العلاقات الإنسانية، القائم بعضها على التآخي والتعاضد وملاقاة الآخر والمحبة والغيرية واحتضان الغريب؛ وهذه علاقات بتنا نفتقدها في عصرنا الراهن، ويراهن البعض على أن مثل هذا التراث الموجود والمستعاد يعيدنا إليها، مما يساعدنا على اكتساب «هويتنا» بالانفتاح الداخلي والخارجي معاً. وتعتمد هذه الطروحات على مفاهيم التسامح والغيرية. ولكن ما يلفت إليه الكتاب، هو تعزيز «الخيال» وتوظيفه لابتداع نصوص ومعانٍ «تصالحية» تعتمد على تسوية وتنازل، لتشكل عالم البرزخ الذي يتوسّط المثال والواقع. تفتح هذه المعاني البلاغية باباً لتغذية الخيال الاجتماعي والسياسي والديني، ليصبح أقوى من أن تعتقله المعاني الجامدة للنصوص. فابن عربي بكل باطنية أفكاره، يعتمد على ظاهر النص لإثبات أن النص الظاهر قادر، إذا أجيد استخدامه، على فتح أبواب غائبة، وبذلك هو يتجاوز المعالجة التقليدية للنصوص، وتتعزز أهمية الإضاءة على أبعادها وتطبيقاتها في الزمان الحديث.
تأثير ابن عربي على التصوف الطرقي يبدو في أوراده التي تمتلئ بها كتب المتصوفة، وتأثيره على التصوف الفلسفي وتأثره به، قطبا رحى يحركان بوصلة الدراسات عن ابن عربي وطريقته. ولكن قدرته على تفجير معانٍ متباينة للحب، والتسامح، والمعرفة، واللغة هي ما أعادت الأهمية لاكتشاف تراثه وفتوحاته المتنقلة بين الدين والأدب والعرفان والفلسفة.
حينما قام الإخوان المسلمون في مصر، بالدعوة لحرق كتاب الفتوحات المكية، في القرن الماضي، لم يكن ضيقهم من علم الشيخ الأكبر ينبع إلا من إدراكهم أنّ تعزيز مفهوم «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق»، وأن «تحرير الروح» من سطوة «الهوى»، يصقلان صفحة القلب من الصدأ. وهو يلغي احتكار الحقيقة والخلاص والتمثيل المطلق عن أي حزب أو جماعة. ولدواعي الإنصاف فإنّ تتبع هجوم ابن تيمية وتاج الدين البقاعي، وغيرهما ينبغي ربطهما بالسياق ذاته. فدرس الكتاب الاستشكالات المتصلة بابن عربي فكراً وتاريخًا في ثنايا الدراسات.
توخى الكتاب الإضاءة على المعاني العامة في تصوف محيي الدين بن عربي، وممارساته اللغوية والبيانية، ومن بينها قوله في «أرض الحقيقة» أو الأرض الواسعة التي هي مما تبقى من طينة آدم. لقد تأثر النص الصوفي المنثور والمقفى؛ العربي والفارسي بابن عربي، كما يتبدى في مثنوي جلال الدين الرومي وأشعار الجامي، الذي وصفته إحدى دراسات الكتاب بأنه «خاتم الشعراء». وعالج الكتاب موضوعات أخرى على اتساق بابن عربي من بينها: إشكاليات لغته ومضمون نصوصه والرموز المحيطة بها؛ ابن عربي والطريقة الشاذلية، وابن عربي في دراسات أبي العلا عفيفي، وعثمان يحيى. إن الاهتمام البحثي بالشيخ الأكبر لم يقتصر على الباحثين العرب، فقد اكتسب حضوراً معرفياً عالمياً حظي به بسبب فرادة أفكاره وإنتاجه وانفتاحه على العالم وروحيته المكثفة، وقدراته الإبداعية ومواهبه الخلاقة.
إن نظرية المعرفة (العقلية والذوقية) عند ابن عربي تقوم على خصائص وآليات محددة، و«أهم ما يميزها هو كونها تعتمد على الإدراك المباشر للحقيقة في جوهرها، وإذا كانت الحقيقة هي موضوعها الأول والأخير، فهي متماهية معه ومتطابقة تطابقاً ذاتياً مع موضوعها. فالعارف يتحقق عبر هذه المعرفة من طبيعة الحقيقة في ذاتها. فالذوق موضوعه الحقيقة ذاتها، ولذلك يعرف ابن عربي الذوق بأنه «الشهود المباشر للحقائق». وتستند آليات نظرية المعرفة إلى جملة من الوظائف: وظيفة القلب، وظيفة الخيال والتي تتضمن بدورها: عين البصيرة، العقل الجزئي، عين اليقين، نور اليقين؛ يضاف إليها المعاريج الثلاثة يفضي بعضها إلى بعض.
تناولت إحدى الدراسات حديث الشيخ الأكبر عن الفلسفة حيث «يميز بين حكمة «الفلاسفة» وحكمة «أهل الذوق» وذلك من خلال كيفيات إدراك «المفصل مجملاً» و«المجمل مفصلاً»: فأهل الحكمة الفلسفية يقفون عند معرفة «المجمل مفصلاً» وأما أهل الذوق فيتخطون ذلك إلى معرفة «المفصل مجملاً». يقول ابن عربي: «وأما الحكماء -أعني الفلاسفة- فإن الحكمة عندهم عارية، فإنهم لا يعلمون التفصيل في الإجمال، وصورة ذلك -كما يراه صاحب هذا المقام الذي أعطاه الله الحكمة التي هي عنده عناية إلهية، وهي عند الحق تعيين الأرواح الجزئية المنفوخة في الأجسام المسوّاة المعدلة من الطبيعة العنصرية، من الروح الكل المضاف إليه. ولذلك ذكر أنه خلقها قبل الأجسام، أي قدرها وعينها، لكل جسم وصورة روحها المدبر لها، الموجود بالقوة في هذا الروح الكل المضاف إليه، فيظهر ذلك في التفصيل بالفعل عند النفخ، وذلك هو النفس الرحماني لصاحب الكشف».
في الختام يتوجه مركز المسبار بالشكر لجميع المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلين خالد عبده، وعمر البشير الترابي، اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
نوفمبر (تشرين الثاني) 2017
الفهرس
شاهد فهرس الكتاب