الكاتب: خيرالله خيرالله∗ صحفي وكاتب لبناني.
الناشر: دار العرب للنشر والتوزيع، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، الطبعة الأولى، 2016، (175 صفحة).
قراءة: إبراهيم أمين نمر – باحث وإعلامي ، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث.
يرى خيرالله خيرالله أن ثورة شعبية حقيقية في 2011 قادها شباب متحمسون من ذوي النيات الحسنة، أثّر فيهم “الربيع العربي”، لكنّ الإخوان المسلمين عرفوا كيف يخطفون تلك الثورة، وصولاً إلى ذلك اليوم (الثالث من يونيو/ حزيران) الذي أرادوا فيه التخلص جسدياً من علي عبدالله صالح في مسجد النهدين داخل دار الرئاسة. وسلم علي عبدالله صالح الرئاسة بموجب المبادرة الخليجية إلى نائبه عبد ربه منصور هادي، ومع صعود الحوثيين وتمددهم ثم انكفائهم، بعد شن التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية “عاصفة الحزم”؛ يؤمن المؤلف بأن العودة إلى صيغة الشطرين ليست واردة. ويضيف أنه بعد ثلاثين عاماً من مرافقة شبه يومية للحدث اليمني، خرج بانطباع واحد وهو “كلما عرفت اليمن واليمنيين، اكتشفت كم أنك تجهله وتجهلهم”.
يسرد المؤلف شهادته بدءاً بانهيار دولة الجنوب، ثم مرحلة الوحدة اليمنية التي تحققت عام 1990، وحرب صيف 1994، وصولاً إلى إسقاط نظام علي عبدالله صالح عام 2011 وصعود الحوثيين.
جاءت شهادته على شكل مقالات، خصص عناوين لها، فبعد المقدمة جاء حديثه عن المأساة اليمنية في سطور، لحقها بعناوين أخرى: رحلة عدن؛ ثم رحلة صنعاء؛ ولماذا توقعت الوحدة؟ من الوحدة إلى مقدمات الحرب؛ والحرب؛ وما بعد الحرب؛ والصعود الحوثي والاستعانة بالعائلة؛ وتمدد الحوثيين وانهيار الدولة؛ وشخصيات افتقدها اليمن؛ وصور؛ ووثائق.
المأساة اليمنية في سطور
يقول الكاتب: إن أفضل ما يلخص الوضع اليمني هو تعليق تلقاه من صديق من محافظة إب بقوله: “إن اليمن هو البلد الوحيد في العالم الذي تتصارع فيه كل القوى من أجل العودة إلى الماضي”. ويفصّلها بأن الشرعية، ممثلة بالرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي، تريد العودة إلى ما قبل سقوط صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) 2014؛ والتجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون) يريد العودة إلى ما قبل سقوط محافظة عمران، معقل آل الأحمر، زعماء حاشد سابقاً صيف عام 2014، أما المؤتمر الشعبي العام (حزب الرئيس السابق علي عبدالله صالح) فيريد العودة إلى ما قبل ثورة الشباب التي خطفها الإخوان المسلمون مطلع عام 2011. الجنوبيون، في معظمهم، يريدون العودة إلى ما قبل الوحدة في مايو (أيار) 1990، أما الحوثيون فيريدون العودة إلى ما قبل سقوط نظام الأئمة في السادس والعشرين من سبتمبر (أيلول) 1962. وبعد أن سارع الحوثيون وقت سيطرتهم على العاصمة صنعاء، في الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) 2014، إلى فرض “اتفاق السلم والشراكة” بمباركة من الأمم المتحدة والرئيس الانتقالي عن طريق جمال بن عمر المبعوث الخاص للأمين العام للمنظمة الدولية؛ تبين مع مرور الوقت أن الحوثيين لا يمتلكون أي مشروع سياسي أو اقتصادي للبلد، باستثناء تحويل اليمن إلى مستعمرة إيرانية.
يضيف المؤلف أن اليمنيين أضاعوا فرصاً كثيرة، وتلهّوا بجلسات الحوار الوطني أكثر مما يجب بكثير، ولم يدركوا خطورة الحوثيين، ومعنى انتقال الصراع الذي افتعله الإخوان المسلمون إلى داخل أسوار صنعاء، ولم يتوقعوا أن عاصفة الحزم آتية، وأن أهل الخليج لا يمكن أن يتركوا اليمن لإيران.
رحلة عدن
يذكر خيرالله كيف أصر وزير الخارجية محمد صالح مطيع (الذي كان شخصية لامعة أعدمت عام 1982 في ظروف غامضة) عليه كي يزور عدن، كما يذكر تسريب الوفد اليمني الجنوبي له خبر لقاء عقده مطيع في باريس مع الأمير سعود الفيصل (وزير الخارجية السعودي) في خريف 1978، كان مطيع مسروراً بلقاء وزير الخارجية السعودي ومرتاحاً لنتائجه، كما أبدى ذلك للمؤلف خلال لقاء جمعه به في دمشق خلال تغطية المؤلف لقمة “دول الصمود والتصدي” التي انعقدت في سبتمبر (أيلول) 1978. وتساءل المؤلف: هل دفع مطيع ثمن الذكاء الحاد الذي كان يتمتع به، وفهمه الباكر لعدم وجود أي أفق أمام التجربة الماركسية في اليمن الجنوبي؟ يقول الكاتب: إنه لم يستطع فهم لغز إعدام محمد صالح مطيع، في وقت كان علي ناصر محمد رئيسا للدولة وأمينا عاما للحزب.
يصف المؤلف عشرة أيام بأنها لا تنسى في عدن، بدأها بزيارة مقر اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني في التواهي، حيث وقعت ما أسماها مجزرة، قتل فيها أربعة قادة: علي عنتر (نائب رئيس الجمهورية في حينه)، وصالح مصلح القاسم (وزير الدفاع)، وعلي شائع هادي؛ نفذها مرافق علي ناصر رئيس الدولة والأمين العام للحزب الاشتراكي ورئيس الوزراء، مطلقاً النار في اتجاه من كانوا خصوماً لعلي ناصر، ومن ثم مقتل عبدالفتاح إسماعيل (الأمين العام السابق للحزب) الذي أخرج من قاعة المكتب السياسي مع علي سالم البيض، حيث أصعد كل منهما في مصفحة، نجا البيض فيما تعرضت المصفحة التي كان فيها عبدالفتاح لقذيفة آر.بي.جي من قبل القوات البحرية التي كانت موالية لعلي ناصر. يقول المؤلف: الثابت أن علي ناصر فضل الغدر بخصومه قبل أن يغدروا به. فالطرفان كانا مستعدين للمواجهة، وحرك كل منهما القطاعات العسكرية الموالية له.
بعد سيطرة خصوم علي ناصر على عدن، اضطر ناصر للانتقال إلى صنعاء؛ حيث وعده علي عبدالله صالح بـ”تقاسم لقمة الخبز معه” فاستقبلهم وأنصاره وباتوا يعرفون باسم “الزمرة”، واختار ناصر مكان إقامة آخر هو دمشق في ضوء العلاقة الخاصة التي كانت تربطه بالرئيس حافظ الأسد، ليستقر نهائياً فيها –لاحقاً- بعد إعلان الوحدة في الثاني والعشرين من مايو (أيار) 1990. فكانت من شروط الجنوبيين للدخول في الوحدة مغادرة علي ناصر والقريبين منه صنعاء.
غادر المؤلف عدن وفي ذهنه أسئلة كثيرة، منها: كيف يمكن إعادة اللحمة إلى اليمن الجنوبي، بعدما لمس انقساماً عمودياً بين سكان محافظات وأخرى؟ فالمدرعات التي انتصرت على سلاحي البحرية والطيران، كانت تعني أن الضالع ولحج وحضرموت انتصرت على أبين وشبوة، فيما كان أهل عدن منقسمين بين مؤيد لعلي ناصر وخصم له. أما سلاح الجو، فكان في معظمه موالياً لعلي ناصر، فقد أعدم طياري سرب سوخوي بعد حشرهم جميعاً في “قاعدة الشهيد” القاعدة العسكرية الملاصقة لمطار عدن، فمجرد كونهم من أنصار علي ناصر ومن منطقته، كان سبباً كافياً لخصوم علي لإعدامهم بالرصاص!، يرى الكاتب أن التخلص من علي ناصر جاء استكمالا لسلسلة انقلابات وتصفيات تعرض لها البلد منذ استقلاله عام 1967.
رحلة صنعاء
عام 1986 تلقى المؤلف دعوة من سفير الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) ببيروت السيد أحمد محمد المتوكل، للمشاركة في احتفال إعادة بناء سد مأرب في اليمن، على النفقة الخاصة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله) مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة. وفي صنعاء التقى بكبار المسؤولين اليمنيين وشخصيات بارزة، مهدت تلك اللقاءات للقاء علي عبدالله صالح الذي بدا له خجولاً آنذاك، كما يصفه الكاتب، الذي ربطته علاقة طيبة معه من عام 1986 حتى عام 2011. يستوقف المؤلف -كما يشير- سعي علي عبدالله صالح إلى إيجاد توازنات في البلد، فشجع عبدالله الأحمر على إنشاء “التجمع اليمني للإصلاح”، وهذا ما أكده الأحمر في مذكراته التي صدرت قبيل وفاته عام 2007 تحت عنوان “مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، قضايا ومواقف”، كان هدف علي عبدالله صالح الإفادة من الميول الإسلامية لدى زعيم حاشد؛ بغية خلق ثقل سياسي يواجه به الحزب الاشتراكي الذي انتقلت قياداته، وعلى رأسها علي سالم البيض إلى صنعاء. هذه الحسابات لم تكن بمعزل أيضاً عن المناطقية والقبلية، وحتى بين الأحزاب الأخرى التي لم يكتف علي عبدالله صالح بإيجاد توازنات تلغي كل منها الآخر. ولّدت الزيارة الأولى للمؤلف انطباعاً واحداً، خلاصته أنه: كلما تعرفت على اليمن اكتشفت كم أنك تجهله!
الوحدة ومقدمات الحرب
بعد رحلة المؤلف الأولى إلى صنعاء، عاد إليها مرات عدة. وفي عام 1987، لاحظ التغيير الكبير الذي بدأ بإعادة مد الجسور بين الشمال والجنوب. فالدلائل تشير إلى أن الوحدة اليمنية ليست سراباً، وربما صارت أقرب إلى أن تتحول إلى حقيقة. من تلك الدلائل الكلمة التي ألقاها علي عبدالله صالح في مناسبة اليوبيل الفضي للثورة، أشار فيها إلى أن الثورة على الاستعمار البريطاني في الشطر الجنوبي من اليمن انطلقت بفضل ثورة الشمال، كما ساهم فيها أبناء الشمال (…) وأن كل يمني يتطلع بكل الأمل والثقة إلى التئام الأرض اليمنية في وحدة قدرية ومصيرية. كان لافتا أيضا في تلك الاحتفالات، الطريقة التي تعاطى بها علي عبدالله صالح مع ضيوفه، راعى القيادة الجديدة في الجنوب التي كانت ممثلة بحيدر أبو بكر العطاس، وذلك عن طريق عدم دعوة علي ناصر إلى احتفالات الذكرى الـ(25) للثورة التي جاءت بالنظام الجمهوري في اليمن. وسبب آخر دفع المؤلف للتوقع بحصول الوحدة اليمنية، هو ما قاله عبدالكريم الإرياني (نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية اليمني الشمالي) في مؤتمر صحافي على هامش الاحتفالات: “إن الوحدة مع الجنوب تتقدم والخلاف ينحصر في المدة الزمنية لتنفيذ الوحدة”. ويضيف المؤلف أن الأجواء باتت مهيأة للوحدة، هذا ما أوحى به أيضاً لقاء سري عقده وفد جنوبي برئاسة العطاس، مع وفد ضم قياديين من الموالين لعلي ناصر. يقول المؤلف: إن الوحدة لم تكن مستبعدة إلا لدى الذين كانوا يستخفون بعلي عبدالله صالح. كان السياسيون الجنوبيون مجرد هواة مقارنة به، خصوصا أنهم كانوا يعتقدون أن المدرسة الماركسية تعلم السياسة، وأن في استطاعتهم -في نهاية المطاف- حل أي مشكلة عن طريق اللجوء إلى السلاح.
يقول المؤلف: إن علي سالم البيض فاجأ الجميع والقياديين في الحزب الاشتراكي بموافقته على الوحدة الاندماجية. وجاء الاحتفال المتواضع بتوقيع الوحدة في قاعة واسعة في بناية جديدة أقيمت في حي التواهي العدني، على أنقاض البناية التي شهدت مجزرة الثالث عشر من يناير (كانون الثاني) 1986. ورفع العلم علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض في الثاني والعشرين من مايو (أيار) 1990. يضيف المؤلف أن ما هي إلا أيام، حتى انتقل الجميع إلى صنعاء، وصار هناك توزيع دقيق وحساس للمناصب؛ بحثا عن توازن بين الشمال والجنوب، بين الدولة الأكثر سكاناً، والدولة الأكثر مساحة وثروات طبيعية. وأنه في مقابل تشكيل مجلس الرئاسة الذي ضم خمسة أعضاء: ثلاثة من الشمال (علي عبدالله صالح، وعبدالعزيز عبدالغني، والقاضي عبدالكريم العرشي)، واثنين من الجنوب (علي سالم البيض وسالم صالح محمد)، تولى الجنوبي حيدر العطاس رئاسة الوزارة، مع اقتسام بالتساوي للحقائب الوزارية، كما كان لكل وزير شمالي نائب جنوبي له، وكان لكل وزير جنوبي نائب شمالي له. يستكمل الكاتب شهادته بأن المؤمّل من هذا الترتيب كان مرحلة انتقالية تنتظم بعدها أمور الدولة والإدارة، وحصلت بالفعل خطوات جريئة ترافقت مع إقرار الدستور في استفتاء شعبي، بعد إدخال تعديلات ترضي قادة التجمع اليمني للإصلاح والإخوان المسلمين. اعترض هؤلاء بشدة على أن الدستور تضمن، في نسخته الأولى، مواد ذات طابع علماني وتحديثي. وفي الفترة الانتقالية كان منسوب الثقة المتبادلة في تصاعد مستمر، ترافق ذلك مع موجة اغتيالات طالت قياديين في الحزب الاشتراكي، الذي اتهم علي عبدالله صالح ومعاونيه بالتحريض عليه، والوقوف خلفها. وجرى تمديد المرحلة الانتقالية التي تلت الوحدة مباشرة، وزادت العلاقات سوءاً بين “العليين” وبدأ سالم البيض يفكر في الانتقال نهائيا إلى عدن، وهو ما تم. وفي ظل الانقسام العمودي تبين من خلاله أن هناك وجودا لسلطتين في اليمن.
وفي فبراير (شباط) 1994، دعا الملك حسين إلى مؤتمر مصالحة بين اليمنيين يعقد في عمّان، على أن يوقع الجميع فيه “وثيقة العهد والاتفاق” التي تضمنت شروط الحزب الاشتراكي للاستمرار في الوحدة. وصل علي عبدالله صالح مع الوفد المرافق له إلى عمان، كما وصل البيض في طائرة تابعة لشركة “اليمدا – الخطوط الجوية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”، ومجرد الوصول إلى عمان بهذه الطائرة رأى المؤلف فيه إشارة إلى أن القرار القاضي بالانفصال متخذ، وأن حضور مؤتمر عمان من باب اللياقة لا أكثر، ومراعاة للعاهل الأردني صاحب الدعوة. وقع الجميع على الوثيقة، يقول المؤلف: إنه قبيل مغادرته عمان التي بقي فيها علي عبدالله صالح، اندلعت المعارك في اليمن، خصوصا في منطقة حرف سفيان، وهي من مديريات محافظة عمران. كانت تلك رسالة واضحة، فحواها أن الوساطة الأردنية فشلت، وأن التوقيع الذي ذيلت به الوثيقة هو حبر على ورق.
الحرب وما بعدها
يقول المؤلف: إنه بعد مؤتمر عمّان مباشرة، بدأ الوضع يتدهور على الأرض تدريجياً، وبدا الحزب الاشتراكي بقيادة علي سالم البيض واثقاً من نفسه ومن قدراته إلى حد كبير. ويشير إلى أن اللهجة السائدة لدى الجنوبيين كانت من النوع الحاد، حيث ذهب أحد القياديين الاشتراكيين، وهو من أصل شمالي، إلى حد القول: إن أقل ما يمكن أن نقبل به هو “نقل العاصمة إلى تعز”. يورد الباحث قوله بأن تعز كانت بالفعل عاصمة لليمن في أيام الإمام يحيى بن أحمد، الذي جاء إليها بمجموعة من العائلات باتت تشمل جيباً للزيود في تلك المنطقة ذات الكثافة السكانية الشافعية. ويضيف أن هذا الوجود الزيدي ذا الطابع العسكري والأمني، يفسر –حالياً- لماذا لم يكن سهلاً على القوات الشرعية السيطرة على المدينة؟ ولماذا هناك صمود للقوات الموالية لعلي عبدالله صالح والحوثيين، ووجود هؤلاء في أحياء واسعة من المدينة؟.
بعد محاولة أخيرة لتجنب الحرب، شهد المؤلف لقاء بين العليين في صلالة بسلطنة عمان يومي 3 و4 أبريل (نيسان) 1994، صارت الحرب بعده واقعاً. وارتكب الحزب الاشتراكي خطأين كبيرين أثناء سير المعارك: قصف صنعاء بصواريخ بعيدة المدى، وإعلان علي سالم البيض في العشرين من مايو (أيار) الانفصال وقيام دولة اليمن الديمقراطية. جاء الإعلان عن الدولة مع تراجع القوات الجنوبية وانكفائها في اتجاه حضرموت، كما ساعد قصف صنعاء في التعبئة العامة للمواطنين في الشمال لمصلحة علي عبدالله صالح وقواته.
يشير المؤلف إلى أن المرحلة الممتدة بين 1994 و2010، من أكثر المراحل تعقيداً في اليمن، وكان على علي عبدالله صالح إعادة ترتيب أوضاعه، في ظل المعطيات الجديدة التي أنتجتها الحرب. ويلاحظ أن الجنوب تغير كليا بعد حرب 1994، راح المجتمع ينغلق على نفسه تدريجياً، خصوصاً بعدما زاد نفوذ الأحزاب الإسلامية مثل “الإصلاح”، وبعدما بدأت القاعدة تنشط في كل مكان في ظل غض نظرٍ من بعض الأجهزة الأمنية، خصوصاً، تلك التي كانت على ارتباط بقيادات عسكرية ومدنية إسلامية. وجاء تفجير المدمرة الأمريكية “كول” في ميناء عدن في خريف 2000، مؤشراً على صعود تنظيم القاعدة.
يقول المؤلف: إنه كان لافتاً أن الإصلاح بكل أجنحته، الإخوانية والسلفية، استغل نفوذ الشيخ عبدالله الأحمر، بصفته رئيس مجلس النواب، ليفرض المعاهد الدينية أولاً، ثم جامعة الإيمان، وليمنع أي عملية تستهدف الحد من نشاط المتطرفين في تلك المعاهد وفي الجامعة. وهو ما يبينه المؤلف في مذكرة للشيخ عبدالله الأحمر، والتي أرفقها في الكتاب إلى علي عبدالله صالح بجانب وثائق أخرى.
يتحدث المؤلف عن علاقة علي عبدالله صالح مع المملكة العربية السعودية، بخصوص موضوع المفاوضات في شأن الحدود، وما تم وضعه من خطوط عريضة لاتفاق ترسيم الحدود، ليصبح تتويجا للعلاقة الجديدة مع المملكة العربية السعودية، بعد سنوات طويلة من الصعود والهبوط في العلاقات بين الرياض وصنعاء.
الصعود الحوثي والتمدد وانهيار الدولة
ينقل خيرالله عن عدد من المسؤولين اليمنيين أن علي عبدالله صالح هو من كان يمول الحوثيين، وهو من أدخلهم إلى مجلس النواب في الانتخابات الأولى، التي جرت بعد انتهاء حرب الانفصال. ولم يكتف بتمويل الحوثيين الذين سموا أنفسهم ابتداء من عام 1996 “الشباب المؤمن”، بل وفر لهم وجوداً سياسياً، وعلاقات مباشرة مع إيران التي عملت منذ اللحظة الأولى على استيعابهم، مستعينة في الوقت ذاته بـ”حزب الله”. ويلفت إلى أن عشرات الحوثيين أقاموا فترات طويلة في قم، وبدؤوا يتحولون إلى الشيعة الاثني عشرية، التي لا علاقة لها بالزيدية بشكلها التقليدي، وقد استطاع الإيرانيون، بمشاركة عناصر من حزب الله تغيير طبيعة قسم من المجتمع الزيدي. وفهم علي لاحقاً أن إيران استوعبت الحوثيين، وأنه لم يعد يتحكم بهم كما كان يعتقد، وكان أول ما فعله أن أمر بحملة اعتقالات في صفوف الحوثيين، ردا على تحديه في صعدة، التي كان قد توقف بها أثناء توجهه إلى مكة برا، لتأكيد تطور العلاقات مع السعودية، وألقى خطبة صلاة الجمعة في أحد مساجدها، وتفاجأ بشخص من الحوثيين وإطلاقه ما بات يسمى بالصرخة “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. يقول المؤلف: إن تلك الاعتقالات كانت الإشارة الأولى لبدء ست حروب استمرت بين عام 2004 وأوائل عام 2010. ومستقبل تلك العلاقة التي ستكون مختلفة بين علي و”أنصار الله” في مرحلة ما بعد استيلاء الأخير على صنعاء، فترتسم معالم عاصفة الحزم، التي لم يكن من خيار آخر غيرها أمام المملكة العربية السعودية التي وجدت أمنها مهددا.
وضع الحوثيون أيديهم على صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) بفضل “رهانات خاطئة للرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي” أولا، بعدم تصديه لـ”أنصار الله” في عمران. يقول الكاتب: إنه ربما كان الرئيس الانتقالي يعتقد أن أنصار الله والإخوان المسلمين سيقصفون بعضهم بعضاً، وسيخرج منتصراً من هذه المواجهة. كان عبدالملك الحوثي على موعد مع ما يسميه الكاتب بـ”يوم الانتقام الكبير”. أراد بكل بساطة الإعلان عن أن “ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر” حلت مكان “ثورة السادس والعشرين من سبتمبر”، أي إن الإمامة عادت إلى اليمن في 2014، في ذكرى إعلان الجمهورية عام 1962.
يرى خيرالله أن ما نشهده في اليمن حالياً، بدءاً بخروج مؤتمر الحوار الوطني بوثيقة “الدولة الاتحادية”، ووصولاً إلى سيطرة الحوثيين على صنعاء، يأتي بنتيجة مباشرة لانهيار معادلة “الشيخ والرئيس”.
شخصيات افتقدها اليمن
يتناول المؤلف خمس شخصيات يعتبر أن اليمن افتقدها، كانت يمكن أن تلعب دوراً في مجال البحث عن الحلول والحد من التوتر والتخفيف من التشنجات. هذه الشخصيات عرفها عن كثب، وأمضى معها ساعات طويلة، وراقب كيف تتصرف ومدى تأثيرها في الأحداث. تلك الشخصيات هي: عبدالكريم الإرياني، الذي يصفه المؤلف بإما أن تحبه أو تكرهه لوضوحه وكلامه المباشر، توفي أواخر عام 2015 في مستشفى بمدينة فرانكفورت الألمانية، بعد أن خانه قلبه الذي ضعف كثيراً؛ نتيجة الجهود التي بذلها للخروج من الأزمة اليمنية. خسر اليمن أيضاً عبدالعزيز عبدالغني الذي يصفه المؤلف بـ”رجل الاعتدال”، توفي في الرياض بعد إصابته إصابةً بليغة في الاعتداء الذي استهدف الرئيس السابق علي عبدالله صالح ومساعديه في الثالث من يونيو (حزيران) 2011. والشخصية الثالثة هي يحيى المتوكل، رجل الابتسامة الهادئة، الذي قضى في حادث سير يوم الثالث عشر من يناير (كانون الثاني) 2003. أما الشخصية الرابعة، فهي عبدالله بن حسين الأحمر، الذي يصفه بـ”صمام الأمان في اليمن”، وقد غيبه الموت عام 2007، والشخصية الخامسة عبدالله الأشطل، الذي تخلى عن الأوهام، توفي عام 2004 بعد صراع طويل مع مرض السرطان.