يوم عيد الفطر عام 1997، كان شتاء مطيراً على المملكة، كان عيداً حزيناً على نزلاء الزنزانة رقم5 في عنبر 2 في سجن الرويس بمدينة جدة. زنزانتنا الصغيرة كانت خليطاً، من الشباب والكهول والشيوخ، عوامَّ، و”إخوان مسلمين” من “تيار الترابي”، و”جهاديين”، معنا مسنٌّ ليبي تجاوز الستين من عمره، واثنان مراهقان. ويوم العيد كان من بيننا (أبوسعيد) شاب مختلف، لزم فراشه مسجي بملاءته، وأخذ ساعة من الزمن على حاله، أحطنا به نواسيه. وكانت عيناه غارقتين بالدموع.
حاولنا أن نسليه، ونخفف عنه، لكنه فاجأنا بعد دقائق بسبعين بيتاً من الشعر، كتبها على المناديل، بقلم عثر عليه على حين غفلة من الخفير، كانت قصيدة طويلة تفيض حباً وشوقاً إلى زوجته، التي لم يمر على زواجهما أكثر من سنتين، الليبي كان لايعرف القراءة ولا الكتابة، لايعرف إلا الصلاة، يطلق أحياناً تعليقات ساخرة من تفكير الشباب ومن طريقة تدينهم، الأمر الذي كان يستفز اثنين منا، كانا يريانه متلطخاً بالكفريات، ولكن أبا سعيد كان يخفف سخطهم مؤكداً أن التغاضي وحسن الظن أساس في الإيمان. كان يعشق أغاني أم كلثوم، يردد كلماتها في لحظات الصفاء.
أفرج عن (أبوسعيد) بعد سنة من ذلك العيد الحزين، وبعدها بشهور توفي في حادث سيارة، رحل وهو في مرحلة معتمة.
ظللت سنوات أتساءل هل كان في طور الاعتدال، في شرنقته يتخلق، لتفقس بعد ذلك عن إنسان سوي؟ ربما. هل كان سيعود أدراجه للحالة نفسها التي قادته إلى السجن بعد أن يلتف حوله قرناء السوء الذين كانوا مهيمنين على كل شيء تقريباً في المساجد والتعليم والجامعات والشؤون الدينية؟ هل كان فور خروجه سيكون عرضة للموجة التي اجتاحت أبناء جيله ونظرائه بعد الحادي عشر من سبتمبر، ويكرر أخطاءه بعد أن كان متستراً مجاملاً ؟ وارد جداً. الحقيقة أنه كان مفتوحاً على كل الاحتمالات.
كنت من بعد ذلك مع بعض من عرفه نرسم السيناريوهات المحتملة لمستقبله، ماذا لو قُدّر له أن يعيش ليكون اليوم واحداً من الذين تحرروا من ذلك الوحل من الأفكار التي سرقت من عمره سنتين ونصفاً؟ ربما كان اليوم واحداً من الكتاب أو المثقفين الذين يواجهون الظل الكئيب للإسلام السياسي. ولكن ربما كان مستلباً كادراً في تيار متأرجح مزيج من “الإخوان” و”القاعدة”، لربما كان مثالاً من أولئك الذين عرفناهم وخُدِعنا بهم، حيث يقبع سيد قطب والبغدادي وابن لادن في عقولهم وأرواحهم، ولكنهم يعشقون الحياة، والنساء والشراب والمال والاحتيال باسم الدين، ويزينون للمراهقين الموت والدماء.
كثير ممن أضاعوا أنفسهم وعوائلهم، كانوا لطفاء جداً، ولكن كان يمكنهم أن يذبحوا من يرونه عدواً لإيمانهم وضلالهم بدم بارد، كثير ممن يتمتعون بلباقة وسياسة وذكاء اجتماعي فائق، كانوا يتقبلون أخبار القتل والإفساد بكثير من الرضى، لأن كل ذلك يحقق أهدافهم البعيدة. بعض من أولئك الذين يقومون الليل ويصومون النهار، ويتعففون عن أكل الربا، لايرون في السطو على أملاك الدولة ولا إتلاف أملاك الآخرين ممن يرونهم (جنود الطغاة)، ولا إيلامهم وتكفيرهم وتضليلهم ذنباً ولا جرماً.
في تلك الصبيحة التي سالت فيها مآقينا من أجل صاحبنا العاشق، كان معنا عاشق آخر، يكاد ينافس الأول في دماثته ولطفه ومراعاته للآخرين وبره بوالديه، ولكنه اليوم ومنذ 1998 قد مر على السجون مرتين، قضى منها عشر سنوات لأنه نشط في جمع أموال استثمرت في تهديد الوطن، وضرب استقراره، لقد كسر ظهر والده وخيب أمله، وأضاع عائلته، وخان وطنه. للحديث بقية.
جريدة الاتحاد – تاريخ النشر: الإثنين 26 فبراير 2018