إنجازات هوكنج العلمية مشهورة، وكتابه الأشهر “تاريخ موجز للزمن” أكثر الكتب العلمية مبيعا بـ(١٠) ملايين نسخة. وهو صاحب نظريات علمية ذكرتها في نعيه في كل وسيلة إعلامية كبرى. لا جديد أضيفه عن إنتاجه العلمي، وهو الجانب الأهم في أحد أعظم العقول الحديثة.
لكنني أتوقف كثيرا أمام طبقات شخصيته اللافتة. “المتوقع مني كان صفرا وأنا في الحادي والعشرين من عمري. منذ ذلك الحين كل شيء فعلته كان إضافة”.
كل شيء هنا يعني كل شيء، حرفيا. بداية من البقاء حيا. فوق الموت بمسافة قصيرة للغاية عاش هوكنج طوال (٥٤) عاما، بالتحديد منذ أخبره الأطباء عام ١٩٦٤، في مبتدأ عشرينياته، بأن أمامه ثلاث سنوات فقط. كجسد معلق على بعد سنتيمترات من حوض الموت، وعليه أن يقاوم السقوط فيه. مسافة قصيرة لعمر، ومسافة شاقة لجسد. أن يكون الجسد نفسه مشلولا شللا كاملا في كل عضلة تقريبا من جهازه الحركي الإرادي وصولا إلى عضلات الصوت، فتلك معجزة.
معجزة لن يكون أكثر من تجسيد لها. وهو لم يرد أن يكون تجسيدا لمعجزة، بل أن يكون مصدرا لمعجزة وراء معجزة. يجترحها بما تبقى من هذا الجسد. “نصيحتي لذوي الإعاقة التركيز على الأشياء التي لا تمنعهم الإعاقة عن إجادتها، وعدم التحسر على الأشياء التي تعطلها. لا تعيقوا أرواحكم، كما أعيقت أجسادكم”.
حتى هذا الجسد المعلق، هذه الهيئة الـ”أعوذ بالله”، هذه الملامح التي تشبه وجه تمثال وقع بين يدي طفل وهو صلصال لدن لا يزال. هذا الكرسي الذي يعجز عن إبقاء جسده منتصبا في جلوسه. وهذا الصوت الآلي الذي يذكرك بعمق الشلل. مجمع الجرائم هذا، هذا السجن الجسدي عالي التحصين، تحول إلى أيقونة. صار كرسيه المتحرك للعلم كما الصليب للإيمان المسيحي. علامة في العالمين ومهوى أفئدة للمحبين. نعرف صوته إن سمعناه على موسيقى بينك فلويد، ونعرف شخصيته إن ظهرت كارتونيا في سيمبسون.
الشخصية إلى هنا، على كل هذا، لا تزال في إطار دائرة “التعريف”، القالب الجاهز حتى لو كان نادرا. حين يجتمع جسد محبوس مقيد، وعقل طليق محلق، في شخصية واحدة، ماذا تتوقع لها أن تكون؟
ستانلي كيوبرك تخيل شخصية د. سترينجلوف، العبقري القعيد. الذي يريد أن يدمر العالم. الفيلم للمصادفة البحتة صدر عام ١٩٦٤، العام نفسه الذي عرف فيه الشاب هوكنج تشخيص مرضه.
هوكنج لم يكن سترينجلوف.
المسار الآخر أن يكون راهبا في محراب العلم، ليس لغيره في حياته مكان. ولا حكايات. ولا نميمة.
طالب متفوق. وقعيد. كلاهما كفيل بأن يبعد احتمال أن نضبطه متلبسا بالقفز من فوق سور المدرسة كغيره من “العاديين”. ظروفه لا تسمح. ستكون مبالغة في الدراما لن يستوعبها الجمهور.
لكنه فعل. كأي طالب صحيح الجسم وفاشل دراسيا. صار لدينا شخصية طالب متفوق، قعيد، يقفز عبر سور المدرسة.
مضى قدما في زواجه كما كان مقررا على الرغم من فجأة المرض. وأنجب ثلاثة أطفال. مع زوجة طالما تغنى بتضحياتها. ثم تركها ليتزوج بممرضته. كما يفعل أناس عاديون لا يحرمون من حولهم متعة النميمة واتهامه بالنذالة. (أنا ستيفن هوكنج وألف أنثى تتمناني).
المقربون منه يقولون: إنه يهوى قيادة كرسيه المتحرك بسرعة خطرة، عامدا متعمدا. جرائم صغيرة على قده. (شاب يركب المزلاج ويتحدى أصدقاءه في لعبات خطرة).
وهوكنج تطوع ليكون أول شخص مصاب بشلل رباعي يشارك في تجربة تأثير انعدام الجاذبية علينا. (شاب يتحدى من حوله في أخطر ألعاب الهواء في الملاهي).
وحين عرض عليه ريتشارد برونسون مالك شركة فيرجن العالمية أن يسافر في أول رحلة لفيرجن جالاكتيك إلى الفضاء، وافق على الفور. لقد كان الفضاء حلمه الذي طالما رغب في تحقيقه على أرض الواقع. ومجازا كانت النجوم مبدأه الأول من مبادئ ثلاثة وضعها لحياة أفضل.
“واحد: تذكر أن تنظر عاليا إلى النجوم، وليس إلى قدميك. اثنان: لا تتوقف عن العمل. العمل يعطيك معنى وغرضا. دونه الحياة فارغة. ثلاثة: لو أتاح لك نصيبك من الحظ أن تصادف الحب، فتذكر دوما وجوده، ولا تتخلص منه”.
هوكنج شخصية جامحة، يرى نفسه في مخيلته شخصا محبا للخطر. أقعدت الحياة جسده، وتركتنا مشدوهين بعقله. كأنها أحست جموحه فثبتته بلمس الأكتاف، وجلست على جسده تدخن سيجارة، وتقول لنا: انظروا إليه وقد قيدته ماذا سيفعل. ستفهمون.
ونحن رأينا فيلما كاملا، لبطل في هذا الوضع، منه أنجز أفعالا لا تصدق، ودراما لا تصدق، لكن الغريب أنه أفسح وقتا لأفعال “عادية”. ففهمنا.
ستيفن هوكنج. شكرا على نورك. سيبقى معنا لوقت لا بأس به.