رحل صباح الأربعاء الماضي في كامبرج الإنجليزية العالم ستيفن وليام هوكنغ عن عمر يناهز السادسة والسبعين، وقد كان بلا منازع العبقري الأبرز في عصره، ولكن ليس بالضرورة لشجاعته كعالم -إذْ سيحكم المستقبل على صوابه من خطئه في المجالات العديدة للعوالم الفلكية التي درسها– بل بسبب تحقيقه النجومية عبر مساعيه لجعل علم الفلك شعبياً ومحبوباً، وتقديمه لنفسه عبر شخصية قاسية، ولأن مرضه (وهو مرض نادر) جعله معروفاً عبر الفضاءات الفكرية في كل أنحاء العالم.
بالطبع كان هوكنغ يقارن بألبرت آينشتاين الذي ولد قبل (135) عاماً بالضبط. في اعتقادي أنّ مئات مقالات الرثاء التي ستُكتب في حق هوكنغ ستذكر آينشتاين بشكل أو بآخر، وسبب ذلك هو أنّ آينشتاين هو الآخر قد يكون عالم الفلك الآخر الذي يعرف اسمه غير العلماء، ويأتي نيل بور بعده بمسافة بعيدة. لقد كان لقب هوكنغ في شبابه “آينشتاين”، ولكن هناك المزيد.
أولاً: إنّ كل ما درسه هوكنغ كان ما قد وضع أسسهُ آينشتاين من قبل: النظرية النسبية هي التي تمكّن أي شخص اليوم من الحديث عن التفردية، الانفجارات الكبيرة، العلاقات الزمنية في الفضاء، الثقوب السوداء، والنظريات الفيزيائية المعقدة، والشؤون العلمية التخصصية الأخرى. لقد كان هوكنغ في قلب هذه المجالات لسنوات حتى إنّه تلقى ميدالية ألبرت آينشتاين.
وليس مسألة مهمة على الأرجح، ولكن عانى كلّ من هوكنغ وآينشتاين من علاقات معقدة مع النساء. تزوّج آينشتاين مرتين، وطلّق مرة، وكان غير وفي في كلتا زيجتيه. تزوّج هوكنغ مرتين وطلّق مرتين.
ولكن الفروقات بين هوكنغ وآينشتاين هي الأجدر بالإشارة.
على الرغم من عبقريته الفذة، كان آينشتاين متواضعاً، بينما كان هوكنغ عالي النبرة وعدوانياً، وهي صفات تنبّه لها البعض منذ صغره. يذكر مدربه في سباقات القوارب أنّه كان متهوّراً، وقد تسببت تصرفاته في تدمير عدد من القوارب، وكان هذا قبل إصابته بالمرض. خلال مهنته الاحترافية كان يروّج بكل ثقة لنظريات أثبت لاحقاً أنّها كانت خاطئة. كان بإمكانه أن يطرح أفكاره على شكل أسئلة يحتمل أن يكون جوابها لا، لكن هذه الطريقة لا تجعل من العالم نجماً مشهوراً. في عامي 2002 و2008، جادل هوكنغ بعنف أن ما يسمّى “بوزون هيغز” لا يمكن إيجاده، واختار الخلاف علانية مع صاحب النظرية بيتر هيغز. عام 2012 تمّ تحديد الجسيم. وفي 2005، وبدافع إيمانه المطلق بنظرية الكم، ادّعى هوكنغ أنّ المعلومات كانت تُفقد في تبخُّر الثقوب السوداء. كان هوكنغ يقبل الاعتراف بالخطأ إذا اضطر، ولكن المشكلة تكمن في أسلوبه في الانتقاد، وليس في انتقاده، وهو ما أزعج العديد من أقرانه. قال بيتر هيغز أثناء خلافه العلني مع هوكنغ بأنّ “شهرته تعطيه مصداقية وأفضلية فورية لا يملكها غيره”، وكان محقّاً في ذلك.
كانت نزعة الغرور التي تملكت هوكنغ سبباً في نقله إلى مجالات لم يكن فيها خبيراً. مثلاً، علّق مرة قائلاً: إنّ “الفلسفة قد ماتت” لأن الفلاسفة ليسوا مواكبين للتقدم العلمي. كما كان مصرّاً على أنّ جميع الأسئلة الفلسفية يمكن الإجابة عنها بالعلم، خصوصاً النظريات الجديدة التي تقدّم لنا صورة مختلفة عن الكون ومكاننا فيه. هل لأحد أن يتخيل آينشتاين ينطق بمثل هذه الحماقة؟ إنّ من الخطأ الاعتقاد بأنّ الفيزياء بإمكانها التعويض عن الفلسفة، إذْ يعكس هذا الخطأ الإيمان بأنّ ما هو غير ملموس غير مهم.
وقد تكرر الأمر عندما كان هوكنغ يتحدث عن ماهية “الخالق”، أو الله. في مرحلة ما كان هوكنغ لا يستبعد فكرة الخالق، وعبر السنين تكلّم عن الله كطريقة للصراع مع المفاهيم السببية الكونية. في الأخير اعترف بأنّه ملحدٌ لا يؤمن بالخالق ولا بالجنة والنار. وعندما نقارن أسلوبه بإينشتاين، نجد فارقاً هائلاً.
كان آينشتاين مؤمناً بالحتمية، قال: إنّ “الله لا يلعب حجر النرد مع الكون”، وأصبح ناقداً لنظرية الكم ولم يعتبرها مفسرةً للكون.
لم يجادل آينشتاين بحقيقة الحرية البشرية في الزمن ولم يدحض الصدفة الظاهرة، ولكنه رأى الوقت كنوع من الظاهرة الثانوية. أما هوكنغ، فقد أصّر على الصدفة: “أرى أن الناس حتى في إصرارهم على أنّ كل شيء مقدّر، ولا حيلة لنا بتغييره، ينظرون يميناً ويساراً قبل عبورهم الشارع”.
كان آينشتاين عالماً عظيماً، ولكنه كان أيضاً إنساناً عميقاً. هوكنغ، من جهة أخرى، كان يتحدث أحياناً بخطاب يشبه الهراء الصادر من الأقسام الداخلية الجامعية، مستخدماً شهرته وعبقريته للحصول على المصداقية، كما قال هيغز.
ينطبق الأمر نفسه على السياسة. كان آينشتاين سلمياً، وكتب بهدوء مقالات ورسائل تشهد بمواقفه: “آينشتاين حول السلام” الذي نشره دار راندم هاوس عام 1981، والذي جمع كافة هذه المقالات والرسائل في غلاف واحد. كان آينشتاين في الوقت نفسه متحفظاً حول النشاط والتعبير السياسي المبالغ به؛ لأنه رأى بعينه حجم الدمار الناجم عن مزج مثل هذه المشاعر الجياشة في السياسة، وبلا شك كان هذا سبب رفض آينشتاين عرضاً مغرياً بأن يصبح أول رئيس لإسرائيل. أمّا هوكنغ، فقد كان يسارياً شعبياً بريطانياً. عارض في شبابه حرب فيتنام، ووصف غزو العراق ليس بالخطأ فحسب، بل بجريمة حرب، ودعم مقاطعة إسرائيل علمياً وأيّد جيرمي كوربن ليكون رئيساً لحزب العمال.
يبيّن هذا، في حالتي آينشتاين وهوكنغ، أنّ كون الفرد عالماً فيزيائياً عبقرياً أو عالم فضاء أو عالم رياضيات لا يعني بالضرورة أنّه يجيد الحكم في المسائل السياسية. وهناك أمثلة أخرى. هالداين، عالم بريطاني شهير آخر من الجيل الذي سبق هوكنغ، كان معجباً كبيراً بجوزيف ستالين وكان أيضاً عميلاً سوفيتياً، ولا يكون سوء الحكم أكثر تدهوراً من ذلك. إنّ العبقرية ليست أحادية، بل تأتي بأشكال متعددة.
لا مجال للشك بعبقرية عقل هوكنغ وشجاعته في سعيه للعلم والمعرفة على الرغم من المقيّدات الجسدية التي كان يعانيها. كان غيره سيستسلم للموت. كما لا يكمن دوره في جعل العلم شعبياً فحسب، ولكن ما ترسمه لنا حياته هو قوة العلم في الغرب.
تلقى هوكنغ في حياته الدعم من مجموعة مؤسسات في بريطانيا وأمريكا والغرب بشكل عام. إنّ العلم ليس أمراً عابراً، ولا مجموعة من الحقائق المعرفية. إنّ العلم هو عملية إنسانية جمعية تعتمد على ثقافة أوسع تحترم طموحات هذا العلم وتغذيه وتكافئ إنجازاته. عاش هوكنغ في مجتمع من العلماء وبدون ذلك المجتمع ما كان بإمكانه مواصلة سعيه. وعندما كان يخطئ، لم يبقَ مخطئاً لوقت طويل، فقد وفر له هذا المجتمع التصحيحات الضرورية، كما قدّم هوكنغ التصحيحات لغيره.
هناك درس أكبر من هنا، فالأعراف الثقافية والمؤسسات التي تمكّن العلم المتقدّم لا يمكن بناؤها في يوم ولا يمكن تدميرها في يوم. هذه الأعراف والمؤسسات هي متحركة. كانت هناك عصور مضى عليها قرون غرق خلالها الغرب في فكر الشعوذة والهمجية، بينما كانت هناك ثقافات أخرى تبدع في العلوم.
يبين ذلك أنّه لا شيء عبقرياً أو غبياً بشكل مطلق، وفقط الأحمق هو من يظن أنّ الإنجازات العلمية الكبيرة ممكنة في مناطق دون غيرها. إنّ التقدّم العلمي قابل للنهوض والسقوط عبر الزمن وبطرق وأسباب لا يفهمها أحد، ولكن هناك حقيقة واضحة: الغطرسة ونكران الذات هما خطآن متساويان ومتناقضان عندما يتعلق الأمر بآمال أي مجتمع في الإنجاز العلمي. هذا درس لنا جميعاً في يوم 14 مارس، تاريخ وفاة ستيفن هوكنغ وولادة ألبرت آينشتاين.