مدخلي إلى الثقافة الصومالية كان حوارا على بي بي سي مع الكاتب الصومالي نور الدين فرح، في هذا الحوار تحدث الكاتب الذي يعيش في جنوب إفريقيا عن ميزة فريدة في الشعر الشفاهي الصومالي، وهي ميزة الحفاظ على الملكية الفكرية. يجتمع الصوماليون لتداول الشعر الشفاهي الشعبي في المقاهي، يعيد ملقي القصائد قصيدة منسوبة إلى شخص، فإن عدل في جزء فيها استوقفه الجمهور وأعادوا الحرف أو الكلمة إلى نسختها الأصلية[1].
المهتمون بالشعر الشفاهي يعلمون أن هذه العادة الصومالية نادرة. فالشعر الشفاهي بطبيعته متغير، مضاف إليه ومنزوع منه بمرور الزمن. لكن السبب الذي يجعل العرف الصومالي مختلفا في تعامله مع الشعر الشفاهي –كما يفسر نور الدين فرح– هو الإرث الثقافي الصومالي، الذي جعل الصومال -حسب تعبيره- “أمة من الشعراء”. الجمهور كما المحترفون يحفظون الشعر ويتباهون بذلك ويحرصون على عاداته وتقاليده المحلية.
اعتقدت أن فرح يصف الصومال بهذا الوصف جريا على العادة حين يتحدث الأدباء عن مجتمعاتهم، فينسبون إليها صفات ويخصونها بها. إنما رغبتي في معرفة أكثر عن الثقافة الصومالية أخذتني إلى المرحلة التلقائية التالية، جوجل. حين كتبت بالإنجليزية “أمة من الشعراء”، كانت نتيجة البحث الأولى هي الصومال. ومنبعها ليس أدباء صوماليين يتباهون بثقافتهم، بل منبعها ملاحظة تناقلها الأعداد الوفيرة من زوار الصومال، من تجار ودارسين.
المستكشف البريطاني، ريتشارد فرانسيس برتون، كان أحد هؤلاء الزوار، تخفى في زي تاجر هندي وتسلل إلى الصومال تخفيا من مشاعر العداء ضد الأجانب. وعن رحلته في منتصف القرن التاسع عشر أصدر كتابا من جزأين، لاحظ فيه هو الآخر أن الصومال “تفيض بالشعراء”[2].
هي كذلك إذن. أمة من الشعراء. فلماذا؟ من أين أتى هذا الإرث الثقافي؟
الصومال تقع في منطقة جغرافية حيوية. ساحل هو الأطول في جنوب الصحراء الإفريقية. تتصل عبره بالجزيرة العربية، والهند، عبر المحيط الهندي. موقع كهذا يجعل الصومال في مكانة متميزة تجاريا، وعسكريا أيضا. وكلاهما –التجارة والعسكرية– جعلتا الصومال مجتمعا فريدا في انفتاحه واختلاطه بثقافات متعددة. إثيوبية وإفريقية ومصرية وعربية وهندية وإغريقية ورومانية ثم إيطالية.
لكن الشعر الصومالي له أسباب محلية أيضا. منها الحفاظ على اللغة الصومالية غير المكتوبة، على الرغم من تعدد مستوياتها بين الفصحى الشعرية والعامية. ومنها، كما يقول سعيد سمتر، رئيس تحرير دورية “القرن الإفريقي” الراحل، الطبيعة القبلية. حيث الشاعر في الصومال مندوب علاقات عامة عن قبيلته، يشرح وجهة نظرها بلغة بيان، ويعكس مدى ثقافتها بتفوقه في فنه.
حسب سمتر، فإن هذه الطبيعة الغرضية للشعر الصومالي جعلته مرتبطا بالفكرة، بالرسالة، وليس بالقيم الجمالية وحدها. مهما تنوعت الأغراض الأدبية للشعر، ما بين فلسفي وجودي، أو حماسي، أو غزلي، يبقى أن له “رسالة” أو “معنى” يريد أن يبلغه. ويختار أن يبلغه بلغة موسيقية خلقتها البيئة الساحلية الصومالية، وخلقها الاختلاط بلغات لها أجراس مختلفة.
أسئلة كثيرة أثيرت حول تصنيف ثقافة الصومال، هل هي عربية؟ والإجابة أن الصومال بلد متنوع الثقافات، موقعه جعله بوتقة لروافد كثيرة. الأكيد فيه أنه يتأثر بالجوار الثقافي كغيره، ومن ثم تأثر بالحال العام للثقافة الناطقة بالعربية. أشهر كتّاب الصومال كتّاب منفى. ويصدرون كتبهم بلغات أجنبية. وهم –كآخرين في الجوار– يتحسرون على تراجع المشهد الثقافي في البلد بسبب الظروف السياسية وانتشار الإسلام المتطرف. حيث جرد التعصب والتزمت الملبس والسلوك الصومالي من صلته ببيئته، طبيعة وطقسا، وألحقه بسلوك شمولي نمطي، يريد أن يجعل الباكستاني والصومالي والمصري والخليجي سمتا واحدا. فرض “ثقافة واحدة” كفرض لغة واحدة، ينزع من المجتمع قدرته على البلاغة الثقافية، فتلك تحتاج إلى “ثقافة أم” مفرداتها متغلغلة فيه.
لقد صار عموم الفشل والتراجع الثقافي أكبر دليل على ارتباط الثقافة الصومالية بمحيطها، من دول “الجامعة العربية”. صار الجميع في الهم سواء.
منذ بداية التسعينيات والصومال تعيش خليطا من عدم الاستقرار السياسي عبر عن نفسه بأكثر من طريقة، ومع حالة عدم الاستقرار تأتي محاولات قوى خارجية للنفاذ عبر الثغرات الأمنية والاجتماعية تلك. الثقافة موهبة ذاتية للمجتمع تتناسب طرديا مع لحمته وقوته واستقراره.
[1] – بي بي سي وورلد بوك كلوب، ١٢ أبريل (نيسان) ٢٠١٦.
[2] – سعيد سمتر، شبكة PBS الأمريكية، ٨ مايو (أيار) ٢٠١٠.