شكل استخدام «العنف الجنسي» ضد النساء إحدى الوسائل الأكثر خطورة في تاريخ النزاعات المسلحة والحروب العالمية والأهلية. تتعامل الذاكرة التاريخية الجمعية –غالباً– مع هذه الانتهاكات عبر كبتها، والعمل على وصم الناجيات بالعار وهن الضحايا، لا سيما في المجتمعات الذكورية، حيث تواجه «المرأة الناجية» عقبتين بعد توقف طبول الحرب: الأولى: الإدانة اللاواعية من قبل الجماعة التي تنتمي إليها، فتصبح منبوذة داخل عائلاتها والمجتمع المحلي، والثانية: إهمال الاحتياجات الصحية والنفسية التي تُعد الأسلوب الأنجع للخروج من ترسبات الصدمة، خصوصاً في حالات الاغتصاب المتكرر.
صدم سبي الفتيات والنساء الأيزيديات في سنجار من قبل (داعش) بعد غزوة 3 أغسطس (آب) 2014 الرأي العام العربي والعالمي. تفاوتت التقديرات حول عدد المختطفات، ونجحت كثيرات منهن في الهروب من قبضة التنظيم الإرهابي[1]. أدلى بعضهن بمأساتهن أمام المنظمات الأممية المعنية بالقضاء على أشكال العنف الجنسي في حالات النزاع وأمام الجمعيات المحلية؛ ويُعد الإدلاء بالشهادة المصدر الأهم بالنسبة لأهل الاختصاص، إذ ما تبعه إجراءات تساعد الناجيات على إزالة وصمة العار، ومعالجة الجروح النفسية والإصابات الصحية التي يسببها الاغتصاب والاستعباد الجنسي.
تروي فريدة خلف[2] في: (La Jeune Fille qui a Vaincu Daech: L’histoire de Farida) «الفتاة الشابة التي هزمت داعش: قصة فريدة» (, 2016Hugo Doc) تجربتها المؤلمة بصيغة «الأنا» عبر قلم أندريا هوفمان (Andrea C. Hoffmann) [3]، التي اعتمدت أسلوباً جعل من صاحبة الشهادة كأنها هي من دونت قصتها الرهيبة. وضع الكتاب أساساً بالألمانية ونقل إلى (11) لغة من بينها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وجاء في تسعة فصول، وزعت على النحو الآتي: «عالمنا كما كان سابقاً»، «آخر صيف جميل»، «الكارثة»، «سوق العبيد في الرقة»، «في الغرفة السوداء»، «قرب الجزار»، «في المخيم العسكري»، «الخروج من الجحيم»، «لا ملجأ لا جهة».
قبل الإحاطة بأبرز محطات شهادة فريدة خلف[4]، تسعى هذه القراءة إلى الإضاءة على بعض الحالات التاريخية الماضية لممارسات الاستعباد الجنسي، مع الإشارة إلى المفاهيم المرتبطة بجرائم العنف الجنسي في حالات النزاع، والكيفية التي ينظر بها القانون الدولي لمثل هذه الجرائم[5].
النساء ضحايا الحروب: العنف الجنسي والقانون الدولي
ليس السبي والاستعباد الجنسي الذي مارسه «داعش» في المناطق التي سيطر عليها حالة استثنائية، فقد عرفت البشرية في تاريخها القريب حالات مماثلة. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى الآتي: في رواندا تعرض ما يربو على (500.000) امرأة للاغتصاب خلال عمليات الإبادة الجماعية التي نفذت هناك عام 1994 في الأعمال التي عرفت بـ«اغتصابات الإبادة الجماعية»؛ في سيراليون تعرضت (60.000) امرأة إلى الاغتصاب خلال الحرب الأهلية الممتدة بين عامي 1991- 2002؛ في ليبيريا (40.000) امرأة اغتصبن وتعرضن إلى تشويه الأعضاء في الفترة 1989-2003؛ في البوسنة (60.000) امرأة تعرضن للاغتصاب بين عامي 1992-1995؛ في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أكثر من (200.000) اغتصبن خلال عقد من الصراع الدائر هناك[6].
تعتبر قضية «نساء المتعة» في الجيش الياباني[7] واحدة من أهم قضايا الاتجار بالبشر [والاستعباد الجنسي] في القرن العشرين، ترجع إلى الحرب العالمية الثانية، عندما قام الجيش الياباني الإمبراطوري بتجنيد نساء من البلدان التي قام باحتلالها، مثل كوريا والصين والفلبين لتقديم خدمات جنسية للجنود خلال المعارك والحروب. يقدر المؤرخون أعداد نساء المتعة ما بين (100–250) ألف امرأة آسيوية، تتراوح أعمار كثيرات منهن بين (13) و(15) عاماً تمّ اختطافهن من قبل الجيش الإمبراطوري لاستعبادهن جنسياً، وأبقاهن في مراكز الدعارة العسكرية، حيث تعرّضن مراراً وتكراراً للاغتصاب، بحسب شهاداتهن الخاصة التي جمعتها منظمة «ليلا بيليبينا» للناجيات من نظام الاستعباد الجنسي العسكري الياباني. تكشف بعض المراسلات العسكرية للجيش الياباني، أن الهدف من إقامة مراكز الدعارة العسكرية كان لمنع حدوث جرائم الاغتصاب التي يرتكبها أفراد الجيش في المناطق المحتلة، والتي من شأنها أن تخلق نوعاً من العداء والمواجهة الشعبية بين الأهالي والجنود اليابانيين، في تلك الأراضي المستعمرة، إضافة إلى توفير الراحة للجنود وتجنب حدوث التجسس عن طريق استعمال العدو للإغراءات الجنسية لهم. عام 1993 قدمت الحكومة اليابانية اعتذاراً عما يسمى «نساء المتعة»[8]، وتوصلت اليابان وكوريا الجنوبية عام 2015 لإنشاء صندوق تعويضات.
شكّل السبي واغتصاب النساء خلال الحروب وسيلة لقهر الجماعات. وقد لاحظ عالم النفس اللبناني الراحل عدنان حب الله أنّ جسد المرأة «يعادل مفهوم الشرف، فأي انتهاك للرحم، يشكل تعدّياً على حرمة الجماعة، ويتلطخ اسمها بالعار، لأنّ هذا المكان من الجسد يخضع لشرعية، ولطقوس، ولعقد ديني واجتماعي يخول الدخول إليه، فهو مصدر الحياة ولكن بشرط واحد: أن يحمل اسم الأب»[9]. يهدف فعل اغتصاب النساء خلال الحروب إلى إهانة الجماعة التي تنتمي إليها الضحية، فشرف المرأة يرتبط بشرف الجماعة، والسيطرة عليه عبر العنف ترمز إلى السيطرة على الجماعة، كما أنه يتخذ شكل المكافأة للمحارب عبر حصوله على النساء.
يستخدم مصطلح «العنف الجنسي» لوصف الأفعال ذات الطابع الجنسي المفروضة بالقوة أو الإكراه، من قبيل ما ينجم عن الخوف من العنف أو الإكراه، أو الاحتجاز، أو الاضطهاد النفسي، أو إساءة استعمال السلطة الموجه ضد أية ضحية -رجلاً أو امرأة أو فتى أو فتاة. وكذلك يعد استغلال البيئة القسرية، أو عجز الضحية عن إبداء الرضا، شكلًا من أشكال الإكراه. ويشمل العنف الجنسي: الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي، أو الدعارة القسرية، أو الحمل غير الإرادي، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي ذات الخطورة المماثلة. ونادراً ما تحدث مثل هذه الأعمال بشكل منفصل؛ فهي تشكل جزءاً من نمط من سوء المعاملة والعنف، والذي يشمل القتل وتجنيد الأطفال، وتدمير الممتلكات، والنهب. ويمكن استخدام العنف الجنسي كشكل من أشكال الانتقام، أو لخلق أجواء من الخوف، أو كشكل من أشكال التعذيب. ويمكن أيضاً أن يستخدم بشكل ممنهج، كوسيلة من وسائل الحرب، تهدف إلى تدمير النسيج الاجتماعي[10].
إن فهم طبيعة العنف الجنسي خلال النزاعات يعتبر استراتيجية لتحقيق أهداف عسكرية، أو كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي، موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين. وقد يستخدم العنف الجنسي كوسيلة لكسر وإضعاف المجتمعات وإحكام السيطرة عليها. وقد يستخدم لمعاقبة جماعة معينة أو القضاء عليها، أو بث الرعب في نفوس أعضائها، أو الانتقام منها، ودفع أفرادها إلى الفرار من مواقعهم. كما أن جرائم العنف الجنسي –سواء كانت جزءاً من هجوم مسلح أم لا- يمكن أن ترتكب نتيجة انهيار البنية المجتمعية وتفكك الأسرة، وانعدام الأمن وعدم تطبيق حكم القانون[11].
يصنف القانون الدولي، في بعض الحالات، جرائم العنف الجنسي ضمن إطار جرائم الحرب، أو جرائم ضد الإنسانية و/ أو إبادة جماعية، وذلك عندما تكون أركان تلك الفئات من الجرائم متوافرة فيها، وتالياً يمكن التحقيق فيها وطرحها أمام القضاء كجريمة من هذا النوع على الصعيدين المحلي والدولي. تُرتكب جرائم العنف الجنسي التي يجرمها القانون الدولي -في أغلب الأحيان- كجزء من أحداث عنف واسعة النطاق ترتكب ضد الأفراد والمجتمعات، وهي أحداث تشمل جرائم جنسية وغير جنسية[12]. ويشكل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، القاعدة القانونية لتجريم مثل هذا النوع من الجرائم، وقد أدرجتها المادة (7): في خانة الجرائم ضد الإنسانية، «الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة»[13].
إن الممارسات الوحشية التي ارتكبها تنظيم داعش ضد الأيزيديات تُدرج في خانة الجرائم ضد الإنسانية، غير أن العنف الجنسي ضد النساء -كما هو معلوم- لا تلجأ إليه جماعات العنف الديني فقط، فهو ظاهرة ووسيلة تستند إليها بعض الأنظمة السياسية خلال مراحل النزاع أو الاحتراب الأهلي، ويمكن ملاحظة ذلك بشكل مباشر وغير مباشر عبر عمليات الإذلال التي تتعرض لها النساء بسبب انخراطهن في النشاطات السياسية والحقوقية، وقد تكون سوريا وإيران من بين أكثر النماذج تدليلاً على ذلك، فقد صدرت تقارير كثيرة من قبل المنظمات الدولية والأهلية حول هذه الانتهاكات في أمكنة الاعتقال مثل «الاغتصاب الغضبي» و«الاغتصاب بالقوة»[14].
إن حديث الأيزيديات الناجيات، من الاستعباد الجنسي، عن تجربتهن الأليمة، يعتبر الخطوة الأولى لتجاوز الصدمة، على الرغم من أن ترسبات «ما بعد الصدمة»[15]، تترك آثاراً نفسية وصحية إذا لم يواكبها علاج نفسي وصحي. ولا ريب أن الإدلاء بالشهادة أمام الناس، أو عبر الكتابة، يساعد الضحايا على التخفيف من عبء الصدمة النفسية، ويؤهل تدريجياً لاستعادة الحياة. فماذا تقول فريدة خلف الراوية في قصتها؟
عالمنا كما كان سابقاً وآخر صيف جميل
يتضمن كتاب «الفتاة الشابة التي هزمت داعش» تفاصيل كثيرة. ليست الغاية من هذه القراءة العرض التفصيلي لتجربة الاستعباد الجنسي، الذي تعرضت له فريدة خلف على يد عناصر تنظيم داعش، بعد سبيها مع مجموعة من الفتيات، وإنما تحديد الخطوط العامة.
تبدأ فريدة الوحيدة على أربعة إخوة قصتها بمسار تدريجي، تتحدث عن حياتها في قريتها كوجو. كانت كأي فتاة مراهقة تعيش مع أفراد عائلتها في محيط اجتماعي محافظ، لقد رسمت صورة كلية لا تخلو من جمالية الماضي عن تفاصيل يومياتها مع أصدقائها وفي المدرسة وحديقة منزلها. يتخلل الشهادة تصوير العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة عند الجماعة الأيزيدية، التي تكاد تنطبق على كل المكونات المجتمعية العراقية، خصوصاً الطابع الرقابي الذي تُحاط به الفتيات في بيئات محافظة اجتماعياً.
لا تخفي فريدة التصورات المسبقة التي كان يستبطنها بعض المسلمين في القرى والبلدات المجاورة تجاه الديانة الأيزيدية. ترتبط هذه التصورات المغلوطة بمفاهيم سلبية لدى الناس حول هذه الديانة، على الرغم من الدراسات والكتب الكثيرة التي وضعت حول نشأتها، وعقائدها، وتاريخها، وأماكن انتشارها،[16]. قد يكون من المفيد القول: إن الالتباس الديني جزء أصيل من الجهل الذي يُنتج بدوره صدامات دينية وسياسية، تتعرض لها أي جماعة دينية أقلوية، مما يدفعها إلى الانطواء على الذات، وممارسة طقوسها الدينية بعيداً من الغرباء. تقول فريدة: «العديد منهم (أي المسلمين) لا يخفون ما يفكرون به تجاهنا حين يأتون إلى قريتنا، يرفضون الأكل من أطباقنا، ظناً منهم أنها غير شرعية. لم أستطع كطفلة فهم هذه التصرفات لفترة طويلة». تستحضر فريدة من خلال الذاكرة الجمعية الشفوية المجازر التي تعرضت لها الأيزيدية، فتنقل على لسان جدها: «تاريخنا هو تاريخ الاضطهاد والألم».
ترسم فريدة الأجواء العامة المحيطة بقريتها وعلاقاتها مع الجيران وصديقاتها في المدرسة، خصوصاً نورا وإيفين. تفوقت الفتاة الشابة في مادة الرياضيات وقررت أنها ستتابع دروسها العليا في هذا التخصص. قبل غزوة تنظيم داعش لقريتها ولجبال سنجار، تروي لنا كيف عاشت الصيف الأخير، تراوح كلامها بين اليوميات العادية في العائلة وبين الصديقات والأخبار المقلقة الآتية من سوريا، إثر سيطرة الجهاديين على عدد من المناطق السورية (تم تحريريها بشكل تدريجي ولم يبق إلاّ بعض الجيوب الصغيرة)، مما أنتج مخاوف لدى سكان القرية، ما لبثت أن تفاقمت بعد سيطرة ما يسمى «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» على مدينة الموصل (حررت من قبضة التنظيم عام 2017)، والتمدد لاحقاً إلى المناطق التي يقطنها الأيزيديون.
الكارثة وطريق العبودية إلى الرقة
15 أغسطس (آب) 2014 لن يكون يوماً عادياً بالنسبة لفريدة خلف وعائلتها وأبناء كوجو، طُبع هذا التاريخ في ذاكرتها إلى الأبد، حيث شهد سيطرة «داعش» على قريتها. وقبل سبي الفتيات والنساء وتعرض الرجال للقتل الجماعي أو «الإبادة الجماعية»، وقعت مفاوضات بين أرباب العائلات الأيزيدية وبعض مناصري داعش من القرى المجاورة، إذ خيّروا بين إعلان إسلامهم أو القتل؛ أبدت الجماعة الأيزيدية تمسكاً قوياً بديانتها، في هذا التاريخ قُتل أكثر من (350) رجلاً واختطف أكثر من (1000) امرأة وطفل من قبل تنظيم الدولة الإسلامية. بعدما سيطر التنظيم بالكامل على القرية، طلب من الأهالي الذين لم يتمكنوا من الفرار التجمع في باحة المدرسة، وفصلوا إلى ثلاث مجموعات: الفتيات العازبات (كانت بينهن فريدة) والمتزوجات مع أطفالهن، والرجال الذين وضعوا في حافلات واقتيدوا إلى أماكن مجهولة، كان من بينهم والدها. ترفض فريدة الروايات عن موت والدها، أمها وأخواها الصغيران نقلوا إلى الموصل وتمكنوا لاحقاً من الهروب بمساعدة قوات البشمركة.
اقتيدت فريدة مع عدد من الفتيات -بينهن صديقتها إيفين- إلى الرقة، المدينة السورية الرهينة في يد «داعش» (حررت في أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، وبيعت بعدها في «سوق النخاسة». تقول: «سوق العبودية في الرقة لا تعرف أي وقت. منصة العرض (عرض الفتيات) مفتوحة ومستمرة. في كل ساعات الليل والنهار يصل الرجال إلى القاعة لتفقد العروض المطروحة. غالبية الرجال (المقاتلون الأجانب) يبحثون عن «مستعبدة» من أجل أنفسهم. يأتون من خارج سوريا من دون عائلاتهم ونسائهم من أجل القتال. السوريون لديهم زوجات إلاّ أنهم يبحثون عن امرأة أو اثنتين لمساعدتهن في أعمال التنظيف. وفي هذه الحالة من الضروري أن تجيد «الفتاة المستعبدة» العربية كي تتمكن من فهم الأوامر ومن أجل التواصل».
تضع فريدة خلف القارئ أمام الانطباعات التي كونتها عن «جهاديي داعش» في الرقة: «متبجحون ينظرون إلينا كمرتبة بشرية دونية. هؤلاء المسلمون التُقاة هم الإنسان الأعلى ونحن الإنسان الأدنى». دخلت فريدة في نقاشات حادة مع بعض عناصر تنظيم داعش، لم تفقد شجاعتها، وأحياناً جادلتهم في بعض القضايا الدينية دفاعاً عن الأيزيدية، أو استفهاماً عمّا إذا كان الإسلام يحض معتنقيه على اللجوء إلى مثل هذه الممارسات غير الإنسانية، لا سيما ما يتعلق باستعباد غير المسلمين.
معاقبة الضحية والهروب إلى ألمانيا
بعد بيعها لأحد عناصر داعش اغتصبت وصديقتها إيفين وبيعت مرة ثانية؛ وتم تبادلها مرتين من قبل جهاديَّين مستاءين من تمردها، ومحاولاتها المتكررة للهرب والانتحار، كانت بمثابة أداة جنسية، ضُربت وعُذبت إذا حاولت أن تقاوم. تسرد فريدة معاناتها في معسكر للقتال في الرقة بشكل تفصيلي، فتتحدث عن آلامها الجسدية والنفسية، ومرضها، وكيفية تعامل المقاتلين معها، وتجربتها مع أحد الأطباء من المدنيين، الذي أشفق على حالها وعالجها في منزله. وبعد أن استعادت قوتها خططت مع إيفين وفتاة أخرى معها للهروب، فاستطعن فعل ذلك في إحدى الليالي الباردة والممطرة، وتمكنّ من الخروج من المعسكر، وقد ساعدتهن ظروف عدة في تحقيق هذا الإنجاز: قتال عناصر داعش مع القوات السورية النظامية على تخوم الرقة، عثورهن على هاتف نقال تمكنّ من خلاله من التواصل مع أحد الأقرباء في ألمانيا، الذي تواصل بدوره مع رجلٍ عمل على تهريب الأيزيديات اللاتي استطعن الخروج من الرقة.
بعد الخروج من فم الذئب في المعسكر الداعشي، وصلت فريدة إلى مخيم اللاجئين في دهوك، وعثرت هناك على عائلتها. تصف معاناتها في المخيم، إذ جوبهت بالإدانة من قبل المجتمع المشرد بسبب ما تعرضت له من اغتصاب، فعوقبت وهي الضحية. في نهاية شهر فبراير (شباط) 2015 زارت إحدى المنظمات الألمانية المخيم من أجل منح الفرصة لبعض الأيزيديين، خصوصاً الفتيات للذهاب إلى ألمانيا. أجريت المقابلة مع فريدة وإيفين، وبعد انتظار سافرت الفتاتان إلى ألمانيا لمتابعة العلاج النفسي والدراسة.
يتضمن الكتاب تفاصيل مؤلمة، وهو يصور المأساة الواقعية لمئات الفتيات الأيزيديات اللاتي تعرضن للاستعباد الجنسي والاغتصاب المتكرر، والتعذيب الذي يصل -أحياناً كثيرة- إلى القتل. عاشت فريدة آلاماً مزدوجة في مجتمعها المحلي: الألم الناتج عن التهميش والنبذ والوصم بالعار، والألم الجسدي والنفسي الناتج عن السبي والاسترقاق، ظهرت عليها لاحقاً عوارض الاكتئاب والعزلة[17].
«نجوت لأثبت لهم بأنني أقوى منهم»
تعيش فريدة خلف منذ صيف 2015، في ألمانيا التي لا تبعد عن أربيل في الطائرة سوى أربع ساعات. البلدان – بالنسبة لها- في عالمين مختلفين: الأول في الحرب والآخر في السلم: « يمكن القول إنني وجدت الفرصة للبحث عن السلام. لكن العبور في هذا العالم المجهول ليس سهلاً بالنسبة لي، وبالنسبة لإيفين. بأسف كبير وجدنا في مدينتين منفصلتين ولم نتمكن من البقاء معاً. لكننا نتواصل عبر الهاتف ونتبادل الرسائل». بعد فترة انتقلت عائلة فريدة للعيش معها في ألمانيا. تختتم قصتها لتبدأ بحياة جديدة وتقول: « بعد إنهائي المرحلة الثانوية سأدرس لأصبح أستاذة في الرياضيات كما تمنيت دائماً. لقد نجوت لأثبت لهم بأنني أقوى منهم».
في الكلمة الختامية بقلم أندريا هوفمان اضاءات إنسانية ووجدانية؛ فبعد اللقاء الأول مع فريدة في المخيم وموافقتها على سرد قصتها تسجل الكاتبة الألمانية الملاحظة التالية: المقابلات أتعبت فريدة كلما اقتربت من الأحداث والأشخاص الذين سببوا لها «الوجع الأبدي». وتضيف: «الفتاة الشابة التي هزمت داعش تصارع نفسها. تحارب لتؤكد بأن هذه التجارب المروعة أصبحت جزءاً من الماضي. عليها متابعة الحياة ورأسها مرفوع على الرغم من كل شيء. يحتاج ذلك إلى وقت. لكنني واثقة بأن فريدة ستفوز بهذا القتال. تشرفت كثيراً بمساعدتها».
الخوف من الوصم بالعار
أولت حكومة إقليم كردستان موضوع الإحاطة الطبية والنفسية بالناجيات الأيزيديات اهتماماً كبيراً؛ منذ بداية الأزمة في أغسطس (آب) 2014، حيث تم منذ الشهر العاشر من سنة 2014 تخصيص مركز للرعاية الصحية لهن في دهوك، وبالنسبة للحالات الصعبة، يتم تحويلها لمستشفى آزادي، قسم الصحة النفسية، حيث يعمل هناك متخصصون نفسيون يتولون متابعة الحالات ومعالجتها. ويشير عدنان أسعد، الطبيب في قسم الصحة النفسية إلى «أن العديد من الحالات تحسنت بالفعل بفضل العلاج النفسي الذي تلقينه. إلا أن الإمكانات المتوافرة للرعاية النفسية تبقى دون المستوى المطلوب، نظراً للعدد الكبير من الناجيات اللواتي يعانين أوضاعاً صعبة، كما أن عيشهن في المخيمات التي تذكرهن بمآسيهن، لا يساعدهن على النسيان والشفاء»[18].
لقد نشطت المنظمات والجمعيات الدولية والمحلية في توعية المجتمعات التي تعرضت إلى مثل هذه الأنواع من التجارب. لكن ما زال الإبلاغ ضعيفاً جداً عن العنف الجنسي الذي يُرتكب أثناء النزاع وبعده؛ بسبب المخاطر والتهديدات والصدمات التي يواجهها كل من بادر إلى الإبلاغ. لا تؤثر هذه المخاطر في الناجيات فحسب، ولكنها تؤثر في الشهود أيضاً، والمدافعين عن حقوق الإنسان، ومقدمي الخدمات، والصحفيين، والمسؤولين القضائيين، وغيرهم ممن يسعون إلى القضاء على المعاناة. وعلى الرغم مما تحقق في السنوات الأخيرة، فإن الواقع على الأرض يشير إلى أن العديد من الحكومات لم تتمكن من تهيئة بيئة تشعر فيها الناجيات بأنهن يستطعن الإبلاغ دون أن يمسهن مكروه. ويكاد يكون الخوف من الوصم بالعار ومن الانتقام شاملاً، يزيده سوءاً -في كثير من الأحيان- الشعور بالعجز الناجم عن محدودية الخدمات المتاحة، وشدة البطء في إجراءات العدالة. وحتى في الأماكن التي تتوافر فيها خدمات الرعاية الصحية الأولية، هناك حاجة ماسة إلى المزيد من بناء القدرات والموارد، لمساعدة الموظفين الميدانيين على تقديم الرعاية الشاملة، بما في ذلك الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي[19] .
إن التجارب الصعبة التي تعيشها النساء والفتيات خلال النزاع المسلح، لا سيما اللواتي تعرضن للاغتصاب، لا ترتبط بالعنف الجنسي فحسب، إنما ستحدد مركزهن وموقعهن في المجتمع الأهلي تبعاً للثقافة السائدة، فإذا كانت ثقافة العنف والتمييز على أساس الجنس موجودة قبل نشوء النزاع، فهي ستتفاقم حتماً بعد الاستقرار.
[1] تم تحرير أعداد لا بأس بها من الأيزديات اللواتي اختطفهن داعش وجعلهن سبايا لعناصره في سوريا.
[2] فريدة خلف فتاة أيزيدية كانت من بين الفتيات اللاتي اختطفن من قبل ما يسمى «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) إثر الهجوم الذي تعرضت له قريتها.
[3] صحفية وكاتبة ألمانية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط وقضايا النساء المعنفات سياسياً ودينياً. كتبت العديد من التحقيقات الصحفية حول إيران وأفغانستان، والعراق، وتركيا ولبنان وسوريا ومصر. درست علم النفس والإعلام في جامعة لايبزغ (Leipzig University) الألمانية. تتحدث الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والفارسية مع الإلمام باللغة العربية. تُدرس في جامعات عدة، ونشرت مجموعة من الكتب بالألمانية، نقل بعضها إلى الإنجليزية والفرنسية.
[4] إن جميع الأسماء الواردة في الكتاب هي أسماء مستعارة، ومن بينها اسم الراوية، من أجل حماية الضحايا والناجيات، باستثناء الشخصيات العامة والمقصود بها العناصر العسكرية والمقاتلين المنتمين إلى داعش.
[5] أشار مجلس الأمن الدولي في شهر أغسطس (آب) 2015 إلى أن العنف الجنسي الممارس في العراق وسوريا ضمن المناطق التي يسيطر عليها «داعش» خطة مدبرة ومقصودة، وعد الأعمال المرتكبة في هذا السياق بمثابة جرائم حرب، مبيناً أن «داعش» قد «أحل الاغتصاب بفتوى دينية» بما في ذلك الاستعباد الجنسي.
[6] هاغو، جيل، العنف ضد المرأة في حالات الحروب والصراعات، مركز الشرق الأوسط للأبحاث، 17 يناير (كانون الثاني) 2016، على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/6BZ8d
[7] انظر:
Yoshiaki, Yoshimi, Comfort Women: Sexual Slavery in the Japanese Military During World War, Columbia University Press (2001).
[8] برادع، ناجية، البغاء القسري في الجيش الإمبراطوري: ذاكرة اليابان الموجعة، جريدة الإمارات اليوم، 28 أبريل (نيسان) 2014، على الرابط التالي:
http://www.emaratalyoum.com/life/four-sides/2014-04-28-1.671087
[9] انظر: حب الله، عدنان، التحليل النفسي للرجولة والأنوثة من فرويد إلى لاكان، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2004 .
[10] العنف الجنسي في النزاعات المسلحة: مأساة غير مرئية، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 19 ديسمبر (كانون الأول) 2013، على الرابط التالي:
https://www.icrc.org/ara/resources/documents/faq/sexual-violence-questions-and-answers.htm
[11] البروتوكول الدولي في جرائم العنف الجنسي في حالات النزاع وتوثيقها، المعايير الأساسية لأفضل الممارسات بشأن توثيق العنف الجنسي كجريمة بموجب القانون الدولي، الطبعة الأولى، يونيو (حزيران) 2014، ص15.
[12] المرجع السابق، ص15.
[13] نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في 17 يوليو (تموز) 1998، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، على الرابط التالي:
https://www.icrc.org/ara/resources/documents/misc/6e7ec5.htm
[14] لمزيد من المعلومات حول تعريف «الاغتصاب الغضبي» و«الاغتصاب بالقوة»، انظر: الحديد، خولة، الاغتصاب كوسيلة للخضوع وإذلال الجسد الاجتماعي في الثورة السورية: الأبعاد وأساليب المواجهة، الجمهورية، 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2012، على الرابط التالي:
http://aljumhuriya.net/
[15] لم تكن «اضطرابات ما بعد الصدمة» أو «ضغوط ما بعد الصدمة» موجودة في قاموس الطب النفسي قبل عام 1980، غير أنها بدأت تدريجياً في الظهور عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث اكتشفت بعض الأعراض النفسية على الجنود في ميادين الحرب، ولكن هذا تم تعميمه على ما يحدث عقب الكوارث كالزلازل والفيضانات والصدمات الكبيرة في الحياة، والتي تشمل مجموعات كبيرة من الناس. ثمة أعراض عدة تظهر على الشخص المصاب، منها أعراض أولية وأساسية وأخرى ثانوية. انظر: اضطرابات ما بعد الصدمة بين الأعراض الأولية والأعراض الثانوية، ريحانة، موقع نفسي تحت إشراف الجمعية السعودية للطب النفسي، على الرابط المختصر التالي:
http://cutt.us/sTjdl
[16] لمزيد من التفاصيل عن الأيزيدية وعقائدها راجع: الخيّون، رشيد، الأديان والمذاهب بالعراق ماضيها وحاضرها، الجزء الأول، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، 2016.
[17] الجدير بالذكر أن اضطرابات ما بعد الصدمة (صدمة الاغتصاب) تتخذ العوارض التالية: رؤية الكوابيس، والاكتئاب، والاضطراب القلقي العام، أي أن يتوقع الإنسان أبشع الاحتمالات لو رن جرس الهاتف، أو قرع الباب، أو لو سمع أي صوت.
[18] زبيس، حنان، الناجيات الأيزيديات من داعش: بين المشاكل النفسية وصعوبة الاندماج في المجتمع، وكالة المنار، 5 أغسطس (آب) 2016، على الرابط التالي:
http://cutt.us/4Q8vU
[19] العنف الجنسي المتصل بالنزاعات، تقرير الأمين العام، 23 مارس (آذار) 2015، ص2.