أول ما يحتاجه إعلامي وافد إلى دولة تسجيل الأوراق لدى المكاتب الحكومية المعنية. في بعض الدول كعراق صدام حسين، يتطور هذا إلى تخصيص شخص مسؤول عن مرافقة الأجنبي خلال مهمته الإعلامية. أما في الأغلبية الكاسحة من الدول فتنتهي علاقة الصحفي الأجنبي بالجهات الرسمية عند هذا الحد. ويبدأ في البحث عن نافذته الصحفية والبحثية في البلد الجديد، الوظيفة التي نسميها في عالم الإعلام “الفيكسر”، الشخص الذي يرتب لقاءات مع ضيوف البرامج، ومع المواطنين محل التحقيق الصحفي، ويترجم. هذه وظيفة حيوية في عالم الإعلام، ولا سيما في دول يندر المتحدثون بلغتها من غير أبنائها، كالعربية. الفيكسر يبني علاقة ثقة بينه وبين الصحفي الأجنبي، وينقل إليه عبرها رؤيته السياسية، والاجتماعية، وتفسيره للأحداث.
مهما كان ذكاء الصحفي أو الباحث الوافد لا يزال في البلد الجديد ضعيف السمع والبصر، يحتاج إلى من يأخذ بيده.
أما من وجهة نظر الفيكسر، فهي وظيفة مجزية ماديا، حسب فروق العملة الأجنبية عن المحلية. ومجزية أدبيا، لأنها تفتح الباب للتعاون مع هيئات إعلامية دولية، وتضع اسمك في كشوف المتعاونين معها، فتصير أمامك فرصة لتكرار المهمة في المستقبل، أو في تحوُّلك أنت نفسك إلى مراسل لهم. كثير من مراسلي الصحف الأجنبية أثبتوا جدارتهم من خلال أداء هذه الوظيفة في البداية. وعدد غير قليل من الكتاب حازوا شهرة أكبر من أقرانهم لأنهم مركزوا أنفسهم نقطة استقبال الوافدين.
من هنا جاء الاسم: “مراكز الاستقبال الإعلامي”.
سابقا كانت مراكز الاستقبال الإعلامي تلك محل اهتمام “الشلل الثقافية والإعلامية”. بدافع شخصي بحت. حيث الزبائن –الصحفيون الأجانب– قليلون، بينما الراغبون في الاستفادة منهم كثيرون. وبالتالي لو فتحت الشلة الباب لغيرها قد يسرق “زبائنهم”.
كان محط اهتمام الشلة الإعلامية والثقافية ألا يتصل الصحفي الأجنبي بأحد من خارجها ينافسها في الكار. أما غير ذلك فمستعدون لاصطحاب “الضيف” إلى حيث شاء، وترتيب لقاءات له بمن يريد، بلا قيود، ولا توجيه إلا من باب الاقتراح. كنا نسمي هؤلاء “خرتية الإعلام”، في إشارة إلى كلمة مصرية تصف المرشد السياحي في السوق السياحية الموازية.
لكن الوظيفة صارت محل اهتمام التنظيمات السياسية أيضا. بعد ثورة الإنترنت والفضائيات صار المكتوب في أي مكان في العالم ذا تأثير أكبر، من الممكن ترجمته ونشره على نطاق واسع، للتدليل على أن “الحكاية وصلت إلى أبعد مما نتخيل”. انقضت الأيام التي كان ما يمر إلى المواطنين من أخبار هو ما يختار الإعلام الرسمي تمريره.
والتنظيم السياسي أخذ الموضوع إلى أبعاد جديدة. هنا لم تعد الدائرة مغلقة عن المنافسين من أبناء الكار، التنظيم السياسي لا يبالي بهذه المشاحنات الفردية. بالعكس، التنظيم السياسي يفتح الدائرة، ثم يرسم من هذه الفتحة ممرا غير مرئي.
ماذا أقصد؟
التنظيم السياسي يوفر للصحفي الوافد كل ما يريد، بشرط أن يكون جميعهم من “المصادر الجيدة” حسب تصنيف التنظيم. المصدر الذي لا يرضون عنه يصير محلا للشبهة والتشويه والتشكيك واختلاق الحكايات حول انتماءاته وروافد رأيه. يتحول المغضوب عليهم من مصدر للرأي والتحليل إلى عنصر للاستجواب. وهذا فارق يدركه كل من عمل في مهن الحوارات الإعلامية. كل معلومة تمرر إلى الصحفي الأجنبي عن المصدر تتحول إلى سطر في قصته الإعلامية، سطر مكتوب مباشرة، أو موجود في ذهنه ومؤثر على نبرة القصة، أو ملح عليه وهو يحاور المصدر، ومؤثر على علاقته به وتقييمه لدوافعه، ومدى اقتناعه بما يقول.
التنظيم السياسي ليس مجرد مكتب استقبال كما كانت الشلة. التنظيم السياسي شركة ضخمة متكاملة بعد مكتب الاستقبال. لديه شعب مواز من المصادر، في مختلف الأقسام والتخصصات. هل تريد أن تلتقي بحقوقيين؟ لدينا حقوقيون. قائمة طويلة جدا. هل تريد أن تلتقي بنشطاء سياسيين؟ لدينا نشطاء سياسيون. لدينا نشطاء يساريون، وليبراليون، وإسلاميون. لدينا نشطاء في أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وفي الأحزاب الرأسمالية، وفي الأحزاب الشيوعية والاشتراكية. لدينا في كل مكان تريد. هل تريد أن تلتقي بسيدات؟ بمواطنين عاديين؟ بسجناء سابقين؟ بأساتذة جامعات؟ بمرضى كبد؟ بأرامل؟ بمطلقين؟ برجال أعمال؟ بسيدات أعمال؟ ببائعات جبن على الطرقات؟ بمتسولين؟ بمتعهدي أفراح؟ هل تريد كهربائيا أو سباكا لشقتك؟ كله موجود. وكله سيردد على أذنيك نفس النغمات التي سمعتها من مكتب الاستقبال الرئيس. مهما كان سلوكهم الشخصي مختلفا، سيكون سلوكهم السياسي منصبا في نفس الغرض.
بعد مكتب الاستقبال في عهد التنظيم السياسي صار الصحفي يسير في دهليز طويل متعرج، يعتقد أنه زار أماكن متنوعة، لكنه في الحقيقة لم يسر إلا في ممر واحد طويل. يعتقد أنه نجا من شباك الإعلام الرسمي وكذبه ومبالغته. لكنه سقط دون أن يدري في كمين آلة موازية، ليست أقل كذبا وإن كانت أكثر احترافا فيه. وأكثر من ذلك، لقد فقد أهم مؤشر في أي بلد: رجل الشارع العادي.
لهذا صارت الصحافة العالمية عاجزة عن التوقع، لأنها عجزت عن الفهم. وفي سعيها لتفسير عجزها ذاك تستبعد احتمال تعرضها للتضليل من قبل “أصدقائها”، وقد ظنت أنها بعونهم نجت من التضليل الرسمي. حين أتحدث عن التضليل هنا أقصد التضليل بمعناه الإعلامي. الصحافة ليست مهنة حق وباطل. الصحافة مهنة نقل صورة. إن دخلت فيها الأيديولوجيا غير المعلنة خربتها، بغض النظر عن جودة هذه الأيديولوجيا. رأينا في السنوات السابقة سقطات لوسائل إعلامية كبرى، وقلما رأينا اعتذارا عن الخطأ، أو اعترافا بالتعرض للتضليل.
الصحفي الوافد ليس مجرما، وليس ما يقدمه من وجهة نظر أحادية نابعا على الدوام من سوء نية. في أغلب الأحوال نابع من جهله بالوضع ووقوعه في شرك الدائرة السياسية المحكمة. والإعلام الرسمي يلعب دورا في هذا. بتخويف الناس من الحديث إلى الصحفيين الأجانب، وتحريض المواطنين عليهم بوصفهم بالجواسيس. لقد خلق سدا بين الصحفي الوافد وبين المواطنين العاديين، وحولهم إلى خصوم له. وبالتالي أسهم في مزيد من اعتماده على “أصدقائه” في التنظيم السياسي، الذين يظهرون له بمظهر المرحب الحامي “المنفتح”. ويسيرون به في ممر طويل من “المرحبين”.