شبت النيران في مركز تجميع صناديق الانتخابات بجانب الرَّصافة مِن بغداد، وذلك عشية العاشر مِن يونيو(حزيران) 2018، بعد أقل مِن شهر مِن إجراء الاقتراع الانتخابي العام وإعلان النتائج، وبعد جدل حامٍ في البرلمان عن حصول تزوير وأخطاء، مما يستوجب إعادة الفرز يدوياً، بعد صَرف المال الوفير على العد “الإلكتروني”. جرى ذلك داخل البرلمان نفسه الذي مررَّ قانون الانتخابات وأسلوبه وإقرار المفوضية العامة برئيسها وأعضائها، وها هو يعود لسحب الثَّقة منها، وقد أتخذ القضاء قراراً بإبعادها عن إعادة العد، وتعيين قضاة لتولي هذه المهمة.
لكنَّ المفاجأة أن تشب النِّيران في الصَّناديق، ويرتفع دُخان الورق والحبر الذي غمس العراقيون به سباباتهم، ومِن المضحك، وما أكثر المضحكات، هناك مَن أشار إلى أن سبب الحريق كان تماساً كهربائياً، هذا الحدث الجسيم شأنه شأن جرائم كبرى سُجلت ضد مجهول، مِن الاغتيالات التي طالت الأكاديميين والأطباء والمهندسين والإعلاميين والكُتاب والحلاقين والفنانين، مِن ممثلين ومغنين، وفقهاء، وأهل الدِّيانات. إنه تماس كهربائي خطير مازال يبرق شرراً، من التَّاسع من أبريل(نيسان) 2003 وحتى حرق صناديق الاقتراع في التاريخ أعلاه.
لا أدري، لماذا دار في خاطري حادث حرق سفينة “دجلة”(مصنوعة من القصب والبردي والحبال) في 3 نيسان(أبريل) 1978 على سواحل جيبوتي، وحينها تناقلت الأخبار على أن صاحب فكرة سفينة “دجلة” القصبية، التي انطلق بها مع طاقمه في عرض الخليج العربي وعبر بها مضيق هرمز، قرر حرقها احتجاجاً على التسلح في تلك المياه، وهو نوع مِن الدَّعوة إلى السِّلم، وعلى ما يبدو أن كلّ جهة تحاول جعل الحادث، في إعلامها، لصالحها.
لكن ما كتبه النرويجي ثور هايردال، ونقلته الصحافة، كان الاحتجاج ثم حرقها بسبب هو منع السَّفينة مِن دخول مياه جمهورية اليمن الديمقراطية سابقاً، ثم منعها مِن الإبحار في مياه البحر الأحمر صوب مصر، وبذلك ضاعت على صاحب السفينة وطاقمه فرصة التقاء الحضارة السومرية بالحضارة الفرعونية، في العصر الحديث، مثلما ألتقيتا عبر البحار مِن آلاف السنين.
لكن ما لا يُذكر أن السَّفينة التي صُنعت من قصب وبردي أهوار جنوب العراق، وهي مواد هشة قابلة للحريق والغرق، ليس لها القُدرة على الصُّمود أمام أمواج المياه العاتية، وهي تبحر بين ناقلات البترول والبضائع العملاقة، بمعنى أن عُذر حرقها السِّياسي يبدو غير منطقي، إلا إذا كانت جهة دولية مِن المنطقة أجبرت صاحبها على اتخاذ قرار الحرق، وهذا لم يحدث. فكان يمكن للسفينة أن تُحال إلى مُتحف للاحتفاظ بها مثلاً، لتبقى معلماً مهماً، وهي قد شُيدت على مقاس السُّفن السومرية الغابرة.
طاف بخاطري أن ديمقراطية العراق شبيهة بتلك سفينة، تريد الإبحار بمواد ووسائل قبل التَّاريخ، فلا مياه البحار نفسها، ولا العقول التي صنعت أبدان السُّفن آنذاك نفسها. إنها مجرد هواية مِن الخبير النرويجي وطاقمه لا أكثر، أو كان وراء الحدث مغريات لا نعلم تفاصيلها، انتهت بالحرق المتعمد، وانتهى الحدث بعد أن شغل الصحافة في بناء السفينة والإبحار بها ثم حرقها، أي انتهت اللعبة عند هذا الحدّ.
حرق صناديق الاقتراع المتعمد، يُنبيك عن نهاية لعبة مارسها لاعبوها في ميدان غير معد للديمقراطية، أكثر مما تراه معداً للحرب والمواجهات الحزبية والطائفية، أراده سياسيوه ومخترعو ديمقراطيته سوقاً للجارين الكبيرين، اللذان تناوبا على حكمه قرون مِن الزمن، عبر استباحات متداولة بينهما. بلاد يخلق فيها العدو عدوه ويحاربه، وداعش أبرز الشهود على هذا السُّلوك
أسمعتم بديمقراطية تشترك فيها ميليشيات مسلحة، وتفوز بمقاعد في البرلمان، من دون نزع سلاحها؟! أو بديمقراطية تُشترى أصوات العراة بها بـ”بطانيات”، وتوزع قطع أرض، ومسدسات، وإقامة مؤتمرات عشائر؟! ولرجل الدين فيها الكلمة العليا؟! المرشحة فيها تعرض صورة خالها أو عمها أو زوجها؟! هل سمعتم بديمقراطية أعضاء البرلمان الناتج عنها يصعدون بأصوات كاذبة، لم ينتخبوا، وإنما صعدوا بالأصوات الفائضة.
لا أجد معنى للقول: هناك مؤامرة على الدِّيمقراطية العراقية، إنما الديمقراطية وبهذا الشِّكل والمحتوى هي المؤامرة بحد ذاتها، مازالت مؤامرة على دماء وثروات العراقيين، يصبح فيها الإرهابي مجاهداً مناضلاً. لذا كان حرق الصناديق هو النتيجة الحتمية لديمقراطية لا يُحاسب فيها القاتل ولا الفاسد، وإن جرى عليه حِساب فلتصفية حسابات وتنافس مصالح لا أكثر. الدِّيمقراطية التي يُصرح فيها رئيس السُلطة التنفيذية(في حالة رئيس الوزراء السابق) بأن ملفات خطيرة تحت يده، تخص القتلة والسُّراق مِن كبار المسؤولين، وسيكشفها إن اضطر لذلك، هل تعتقدون وتسمون ما يحدث “ديمقراطية”، أو حتى رماد ديمقراطية؟!
غير أن الحرق الذي جاء طبيعياً كمصير رمزي للديمقراطية، أراد له لاعبوه ألا يكون إلا بمؤامرة، شأنها شأن سفينة هايردال “دجلة”، أراد إنهاء اللعبة، لكن لابد مِن حدث عظيم، فكان “احتجاج سياسي”. لم يبق غير الرَّماد، وهذه هي الحقيقة الوحيدة بلا حرج!
خمسة عشر عاماً، مِن الأمل والانتظار، على الرَّغم مِن فداحة الفساد وجريان الدَّم سيلاً، وأخيراً نام العراقيون، عشية حرق الصناديق، على صرير استمارات الانتخاب وهي تلتهمها النِّيران، ورائحة الحبر الأزرق تنتشر في الفضاء مع الدخان، والفاعل “الديمقراطية” نفسها، إنها تنتحر، وأفظع حالات الانتحار الحرق في النَّار. لا مؤامرة ولا يحزنون!