إن تقدم الحضارات يُقاس بتقدم الفنون عندها ومن ضمنها الموسيقى التي لا تقتصر على الحس الفني والإيقاعي والأدائي، وإنما لها تأثير في الإنسان، بحيث تعززت فاعليتها في شفاء العديد من الاضطرابات النفسية والأمراض الجسدية كما أثبتت الدراسات الحديثة.
ومن أجل الإضاءة على دور الموسيقى في الصحة النفسية وعلاج النطق لدى أطفال التوحد وتاريخ العرب في العلاج الموسيقي، بالإضافة إلى مسائل أخرى، أجرى مركز المسبار للدراسات والبحوث، حواراً مع الموسيقي مصطفى سعيد، مؤسس مجموعة أصيل للموسيقى العربية المعاصرة، ومدير مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية – أمار. وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
- من خلال تجربتك كموسيقي، ما مدى تأثير الموسيقى في الصحة النفسية والجسدية للإنسان، خصوصاً أن الدراسات الحديثة أكدت فاعليتها في الحد من الاكتئاب والاضطرابات النفسية؟
– أحسب أن كل الفنون لها علاقة مباشرة بمسألة صحة الإنسان الجسدية والعقلية، وميزة الموسيقى عن سائر كل أشكال الفنون أن ليس لها شيء يُلمس، إنما هي موجات تصدر ولا يمكن رؤيتها، ويشترك الشعر معها في هذا، إلا أن الشعر يُقرأ، ويستلذّ به قراءة، كما يستلذّ به سماعاً، أما الموسيقى فأعتى قراء التدوين الموسيقي لا يستلذّون بالموسيقى قراءة، لأنه لا يستلذّ بالموسيقى إلا سماعاً. فالموجات المسموعة لا تُرى أي لا يمكن رؤيتها، فإذن الموسيقى تمتاز عن سائر الفنون بأن ليس فيها ما يمكن لمسه، ولا يمكن استشعارها إلا بالحس مباشرة، بالجهاز العصبي مباشرة، السمعي ثم العصبي مباشرة، لا يمكن الاستمتاع بها بغير هذا. اللوحة تُرى حتى ولو كانت على جهاز التلفزيون، فهي تجسيد لشيء ملموس، أما الموجات الصوتية فلا، لعل هذا ما يفسر سبب تأثيرها المباشر في الجهاز العصبي، ومن ثم علاج الاضطرابات النفسية ومن ضمنها الاكتئاب. وبالتأكيد فإن راحة الجهاز العصبي ستؤثر إيجاباً في سائر أعضاء الجسم.
- كما تعلم تُستخدم الموسيقى اليوم في علاج النطق لدى أطفال التوحد، كما أنها تمكنهم من تفعيل تواصلهم مع العالم. ما العلاقة بين الموسيقى والفعل والعالم؟
– لقد جرّبت هذا على نفسي أولاً. في صغري أُتّهِمت أحياناً بالجنون من قبل بعض الناس، لأنني كنت أمشي وأنا أغنّي وأدندن الموسيقى دون غناء، وفي أغلب الأحيان كنت لا أرد على الناس بالكلام إذا خوطبت، فكانت الموسيقى هي من أثْرت مَلَكة الكلام عندي، وكانت المدخل للتواصل مع الناس. بعد هذا، اكتشفت أن في داخل كل إنسان منّا شكلاً من أشكال التوحد، وهذا ما تُرجِم في عمل موسيقي لي حمل هذا العنوان، سُجِل منذ قرابة ثلاثة أعوام ونُشر في إصدار سنة 2016، منذ سنتين تقريباً.
هناك بعض الأطفال الذين درّستهم أو أشرفت على تدريسهم كانوا يعانون من بعض المشاكل، إما في النطق أو اضطراب عصبي ما أو حتى الاضطرابات النفسية المصاحبة للحرب، وجاء ما تعلموه من موسيقى كمدخل أساسي لهدوئهم النفسي ولتواصلهم مع الآخرين ومع المجتمع المحيط بهم. حتى من كان لديه توحد يصعب علاجه، كانت الموسيقى هي المدخل لكي يخفّ أثر انعدام التواصل مع الناس.
- قبل الزمن المعاصر هل لجأت بعض الحضارات ومنها الحضارة الإسلامية إلى العلاج بالموسيقى؟
– نعم، هناك فصل كامل في قانون ابن سينا في العلاج بالموسيقى وأيضاً عند الفارابي، وقبل هذا هناك في كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، جملة إن نمّت عن شيء فإنما تنم عن ازدهار الفنون والموسيقى في الحضارة العربية والإسلامية كعلاج للنفس، تقول الجملة: “من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج”.
ثمة العديد من الكتب في الحضارة العربية والإسلامية تحدثت عن العلاج بالموسيقى لكن لم يصل لنا منها إلاّ القليل بسبب حريق بغداد أيام هولاكو، لدينا مثلاً كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، وفيه إشارات حول هذا الموضوع. والجدير بالذكر أن الموسيقى كانت تشجع الناس على القتال، ويُقال: إنه حتى الخلفاء كانوا يطلبون أموراً محددة من الموسيقيين لكي تؤثر إيجاباً في نفوسهم. ويروى أن إبراهيم بن المهدي كان يغني ذات مرة فوقف الطير من حوله يصغي، وحين انتهى من الغناء، انفض الطير، وحين عاد إلى الغناء، عاد الطير. كانت الحضارة العربية والإسلامية على كثير من الدراية بأهمية الموسيقى كعلاج للنفس والجسد على حد سواء. ويقال: إن الفارابي مرّ على قوم فأراد مداعبتهم، فعزف لهم لحناً بكوا فيه جميعاً، وعزف لهم آخر فضحكوا جميعاً، وعزف ثالثاً فناموا، فانصرف. هذه حكاية وهناك حكايات كثيرة تحكى عن صفي الدين الأرموي وحسن الطحان وغيرهما الكثير ممن تزخر بهم كتب التراث حتى في بداياتها.
- لماذا لا يتم الإضاءة على ما يختزنه هذا التراث من اهتمام بالموسيقى وكأن هذا التراث يتأسس على الدين فقط؟
– سعيت إلى طرح مشروع يهدف إلى جمع التراث الموسيقي العربي والإسلامي في مكتبة رسمية واحدة نقيم عليها الأبحاث، على أكثر من مؤسسة، لكن إلى الآن لم يتصد أحد لهذا العمل الضخم، ولا أستطيع القيام به فردياً، فهذا عمل مؤسساتي. لدي الكثير من المواد المصورة جمعتها من مكتبات العالم حول التراث الموسيقي عندنا، لكن أن تجمع هذا التراث في مادة رقمية، فهذا عمل يا ليتني أملك كل الآليات كي أنفذه.
- متى بدأ الاهتمام من قبل الجامعات في العالم العربي بالتراث الموسيقي عبر إخراجه والعمل عليه؟
– هناك أبحاث أكاديمية هامة، لا شك في هذا، لكن كلها أو أغلبها جامدة، ورأيي أن البحث إذا لم يكن فيه تفاعل، سيبقى حبيس الأدراج، فأنا نفسي كتبت أبحاثاً أكاديمية، بالطريقة الأكاديمية المطلوبة، وحين أطلع عليها أجدها جامدة، وهي أبحاث لي، فالبحث إن لم يكن تفاعلياً، لا يعوّل عليه. ولا أهاجم هنا الجامعات، والمطلوب ليس تفاعل الأفراد الأكاديميين فقط، وإنما التوعية بالتراث الموسيقي لعموم الناس والموسيقيين ولكل الفئات من النخبة والعامة.