يتناول كتاب المسبار «الأديان في كردستان العراق» (الكتاب السادس والثلاثون بعد المئة، أبريل (نيسان) 2018) الأقليات الدينية في كردستان العراق. نواصل دراسة هذا الإقليم لنكشف عن التنوع الديني والمذهبي الذي لا يقتصر على الأديان الإبراهيمية وحدها. فبالإضافة إلى المسلمين السنة والشيعة، تتوزع الخريطة الدينية على أقليات تنتمي إلى الصابئة المندائية، والكاكائي (اليارساني) والإيزيدية، والبهائية، والزرادشتيين الجدد، علماً بأن الوجود اليهودي والمسيحي في كردستان التاريخية يعود لفترة زمنية طويلة. لقد أفردنا للمسلمين الأكراد أكثر من كتاب لدراسة السلفية والحركات الإسلامية والتنوع الإسلامي، لتأكيد فكرة التعدد الديني والمذهبي الفريد في هذه المنطقة من العالم التي تعيش في مجال جغرافي مضطرب.
إن آليات إدارة التعددية الدينية ودورها في تعزيز السلم المجتمعي والتعايش بين الأديان، أصبحت جزءاً أصيلاً من استراتيجيات الحكومات بعد تجارب تاريخية مؤلمة أُخذت منها الدروس والعبر، إلاّ أن الحروب والاضطرابات السياسية والانغلاقات الثقافية تؤدي إلى نزف في رصيد التنوع الديني والإثني. لا يرتبط هذا النزف بالحرب والهجرة والأزمات الاقتصادية والإرهاب فحسب، بل بأزمة المواطنة والخطاب السلبي تجاه الأقليات. إن الحديث عن النزف المسيحي واليهودي في الدول العربية يوازي اليوم الحديث عن التراجع الهائل للأديان سابقة على المسيحية، كالصابئة والإيزيدية والبهائية، تحديداً في العراق ومن ثم إقليم كردستان بعد عام 2003، الذي شكل انعطافة كبرى في تاريخ المنطقة، بما خلفه من تحولات سياسية واقتصادية وإقليمية، تركت تأثيرات مباشرة على الجماعات الدينية.
يدرس الكتاب هذه الأديان التي يعيش التاريخ في صفحاتها، والتي تضم الصابئة المندائية، والكاكائية والإيزيدية، والبهائية، والزرادشتية، واليهودية والمسيحية، محاولاً الإضاءة على حضورها التاريخي والراهن والتحديات التي تواجهها. تشكل الصابئة المندائية مكوِّناً رئيساً من هذه المكوِّنات الدينية في كردستان العراق، يعود تاريخ هذه الجماعة، على الرغم من أعدادها القليلة، إلى حقبة تاريخية قديمة في بلاد الرافدين؛ هاجر أعداد منها نحو الإقليم على فترات متفاوتة، بغية البحث عن ملاذٍ آمن هرباً من التمييز الديني الذي لاحقهم، ويستقرون اليوم في أربيل والسليمانية. كما تعتبر الكاكائية (أهل الحق) المنتشرة بين الأكراد والتي حيَّرت المؤرخين حول أصولها وجذورها من الأقليات المهمة في كردستان العراق؛ لقد أثارت إحدى دراسات الكتاب أسئلة عدة حول هذه الجماعة الدينية، ونسبتها إلى الإسلام، وإشكاليات البعد الاجتماعي والكتابة التاريخية والتهديدات والتحديات.
طُبعت صورة الإيزيدية في ذاكرتنا القصيرة مع اجتياح (داعش) لـــ«سنجار» (جنوب كردستان)، حيث قام التنظيم الإرهابي بسبي النساء وخطف الرجال وقتل الأطفال. تُعد الإيزيدية واحدة من أقدم الأديان التي لا تزال تحتفظ بصورتها وتراثها العريق في كردستان العراق، «ووجدت معابدهم ومزاراتهم (هناك)» منذ فترات زمنية متقدمة، مما يؤكد عمقهم التاريخي وأصالة وجودهم. يبرز الكتاب تحديات البقاء التي تواجهها الإيزيدية في مواجهة موجة التطرف الديني، ومن بينها الصورة النمطية عن هذه الديانة من قبل بعض المسلمين، وتدعو الدراسة التي تناولت المكوّن الإيزيدي «المؤسسات الدينية» الشيعية والسنية إلى التعرف على معتقداتها وتقديم رؤية واضحة حولها.
تعود جذور البهائية في كردستان إلى السنوات الأولى من نشأة هذا الدين، عندما اختار «بهاء الله» الرحيل إلى هناك عام 1854 للاعتكاف في جبالها. في الزمن المعاصر يشكل البهائيون مكوِّناً أساسياً من المكوِّنات الدينية في كردستان العراق، وعملت حكومة الإقليم في السنوات الأخيرة على إعادة إحياء نشاط البهائيين بشكل علني، «لا سيما بعد أن أصبح هناك تمثيل رسمي في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية للأديان والأقليات الموجودة فيه». ومن الظواهر اللافتة التي يشهدها الإقليم انتساب العديد من الأكراد إلى الزرادشتية أو من يطلق عليهم «الزرادشتيون الجدد»، وقد ربط الكتاب أسباب توجه بعض الناس نحو الدين الزرادشتي بتفاقم التطرف الإسلاموي والخروج على الهويات التقليدية القديمة.
يتميز إقليم كردستان بتاريخية الأديان وأصالتها، وما ينطبق على الصابئة المندائية، والكاكائية والإيزيدية، والبهائية، ينطبق على اليهودية .أوْلى الكتاب الاهتمام اللازم لدراسة الوجود اليهودي في كردستان العراق، مسلطاً الضوء على محاولات عودة اليهود الأكراد الذين ظهروا من جديد فتفاعلوا مع محيطهم الاجتماعي وعززوا حضورهم الاقتصادي، وأقاموا أنشطة دينية، إذ شهدت مدينة أربيل عام 2017 إحياء أول احتفالية بمناسبة عيد الفصح اليهودي في بيت «ليفي». والجدير بالذكر أن الحكومة العراقية عام 1951 أسقطت الجنسية عن اليهود فذهب معظمهم إلى إسرائيل وبدؤوا حياة جديدة، وبعد عام 2015 توافد أعداد منهم إلى جنوب كردستان.
يُعد مسيحيو كردستان من المسيحيين الأصلاء، فوجودهم التاريخي ليس وليد الأزمنة المعاصرة. يشير الكتاب إلى أن المسيحية انتشرت «بسرعة حتى وصلت إلى حدياب (أربيل) بواسطة الرسول أدي وتلميذه ماري في نهاية القرن الأول الميلادي، وأصبح (باكيدا) أول مطران لحدياب، وربما كانت كنيسة القديس إسحق أقدم كنائسها منذ عام 135، وأصبحت حدياب مركزاً لرئيس الأساقفة عام 310». يمتلك المسيحيون الأكراد حضوراً مؤثراً في العديد من مدن كردستان العراق، علماً بأن نشاط الكنيسة الإنجيلية فاعل في الإقليم وسط الحديث عن «الكرد المتحولين إلى المسيحية» لأسباب لا ترتبط بالقناعة والإيمان الديني.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لجميع المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل إبراهيم صادق ملازادة الذي نسق العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهده وفريق العمل.
رئيس التحرير
أبريل (نيسان) 2018